{ واذكر اسم ربك } بالتوحيد والتعظيم ، { وتبتل إليه تبتيلاً } قال ابن عباس وغيره : أخلص إليه إخلاصاً . وقال الحسن : اجتهد . وقال ابن زيد : تفرغ لعبادته . وقال سفيان : توكل عليه توكلاً . وقيل : انقطع إليه في العبادة انقطاعاً ، وهو الأصل في الباب ، يقال : تبتلت الشيء أي : قطعته وصدقه قولهم أتت بتة بتلة : أي مقطوعة عن صاحبها لا سبيل له عليها ، والتبتيل : التقطيع تفعيل ، منه يقال : بتلته فتبتل ، والمعنى : بتل إليك نفسك ، ولذلك قال : { تبتيلاً } قال زيد : التبتل رفض الدنيا وما فيها ، والتماس ما عند الله تعالى .
الأولى- قوله تعالى : " واذكر اسم ربك " أي ادعه بأسمائه الحسنى ، ليحصل لك مع الصلاة محمود العاقبة . وقيل : أي اقصد بعملك وجه ربك ، وقال سهل : اقرأ باسم الله الرحمن الرحيم في ابتداء صلاتك توصلك بركة قراءتها إلى ربك ، وتقطعك عما سواه{[15512]} . وقيل : اذكر اسم ربك في وعده ووعيده ، لتوفر على طاعته وتعدل عن معصيته . وقال الكلبي : صل لربك أي بالنهار .
قلت : وهذا حسن فإنه لما ذكر الليل ذكر النهار ؛ إذ هو قسيمه ، وقد قال الله تعالى : " وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر " [ الفرقان : 62 ] على ما تقدم{[15513]} .
الثانية- قوله تعالى : " وتبتل إليه تبتيلا " التبتل : الانقطاع إلى عبادة الله عز وجل ؛ أي انقطع بعبادتك إليه ، ولا تشرك به غيره . يقال : بتلت الشيء أي قطعته ، ومنه قولهم : طلقها بتة بتلة ، وهذه صدقة بتة بتلة ، أي بائنة منقطعة عن صاحبها ، أي قطع ملكه عنها بالكلية ، ومنه مريم البتول لانقطاعها إلى الله تعالى ، ويقال للراهب متبتل ؛ لانقطاعه عن الناس ، وانفراده بالعبادة ، قال :
تُضِيءُ الظَّلامَ بالعِشَاء كأنَّهَا *** مَنارةُ مُمْسَى راهبٍ مُتَبَتَّلِ{[15514]}
وفي الحديث النهي عن التبتل ، وهو الانقطاع عن الناس والجماعات . وقيل : إن أصله عند العرب التفرد ، قاله ابن عرفة . والأول أقوى لما ذكرنا . ويقال : كيف قال : تبتيلا ، ولم يقل تبتلا ؟ قيل له : لأن معنى تبتل بتل نفسه ، فجيء به على معناه مراعاة لحق الفواصل .
الثالثة- قد مضى في ( المائدة ){[15515]} في تفسير قوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " [ المائدة : 87 ] كراهة لمن تبتل وانقطع وسلك سبيل الرهبانية بما فيه كفاية . قال ابن العربي : وأما اليوم وقد مرجت عهود الناس ، وخفت أماناتهم ، واستولى الحرام على الحطام{[15516]} ، فالعزلة خير من الخلطة ، والعزبة أفضل من التأهل ، ولكن معنى الآية : انقطع عن الأوثان والأصنام وعن عبادة غير الله ، وكذلك قال مجاهد : معناه : أخلص له العبادة ، ولم يرد التبتل ، فصار التبتل مأمورا به في القرآن ، منهيا عنه في السنة ، ومتعلق الأمر غير متعلق النهي ، فلا يتناقضان ، وإنما بعث ليبين للناس ما نزل إليهم ، فالتبتل المأمور به : الانقطاع إلى الله بإخلاص العبادة ، كما قال تعالى : " وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين{[15517]} " [ البينة : 5 ] والتبتل المنهي عنه : هو سلوك مسلك النصارى في ترك النكاح والترهيب في الصوامع ، لكن عند فساد الزمان يكون خير مال المسلم غنما يتبع بها شغف الجبال ومواقع القطر ، يفر بدينه من الفتن .
ولما كان التقدير : فاجتهد في التهجد ، عطف عليه قوله حاثاً على {[69442]}حضور الفكر{[69443]} : { واذكر اسم ربك } أي المحسن إليك والموجد والمدبر لك بكل ما يكون ذكراً من اسم وصفة وثناء وخضوع وتسبيح وتحميد وصلاة وقراءة ودعاء وإقبال على علم شرعي وأدب مرعي ودم على ذلك ، فإذا عظمت الاسم بالذكر فقد عظمت المسمى بالتوحيد والإخلاص ، وذلك عون{[69444]} لك على مصالح الدارين ، أما الآخرة فواضح ، وأما الدنيا فقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم أعز الخلق عليه {[69445]}فاطمة ابنته{[69446]} رضي الله عنها لما سألته خادماً يقيها التعب إلى التسبيح والتحميد والتكبير عند النوم .
ولما كان الذكر قد يكون مع التعلق بالغير ، أعلم أن الذاكر{[69447]} في الحقيقة{[69448]} إنما هو المستغرق فيه سبحانه وبه يكون تمام العون فقال : { وتبتل } أي اجتهد في قطع نفسك عن كل شاغل ، والإخلاص في جميع أعمالها بالتدريج قليلاً قليلاً ، منتهياً : { إليه } ولا تزل على ذلك حتى يصير لك ذلك خلقاً فتكون نفسك كأنها منقطعة بغير قاطع ومقطعة تقطعياً كثيراً بكل قاطع ، فيكون التقدير - بما أرشد إليه المصدر " تبتلاً " وبتلها { تبتيلاً * } فأعلم بالتأكيد بالمصدر المرشد إلى الجمع بين التفعل والتفعيل بشدة{[69449]} الاهتمام وصعوبة المقام ، وهو من البتل وهو القطع ، صدقة {[69450]}بتلة{[69451]} أي مقطوعة عن صاحبها ، ولذلك قال زيد بن أسلم{[69452]} : التبتل رفض الدنيا وما فيها والتماس ما عند الله تعالى ، والبتول مريم عليها السلام لانقطاعها إلى الله تعالى ، عن جميع خلقه ، وكذا فاطمة الزهراء البتول أيضاً{[69453]} لانقطاعها عن {[69454]}قرين ومثيل ونظير{[69455]} ، فالمراد بهذا{[69456]} هو المراد بكلمة التوحيد المقتضية للإقبال عليه والإعراض عن كل ما سواه ، وذلك بملازمة الذكر وخلع الهوى ، والآية من الاحتباك و{[69457]}هو ظاهر{[69458]} : ذكر فعل التبتل دليلاً على حذف مصدره ، وذكر مصدر بتل دليلاً على حذف فعله{[69459]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.