اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَٱذۡكُرِ ٱسۡمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلۡ إِلَيۡهِ تَبۡتِيلٗا} (8)

قوله : { واذكر اسم رَبِّكَ } ، أي : ادعه بأسمائه الحسنى ليحصل لك مع الصلاة محمود العاقبة .

وقيل : اقصد بعملك وجه ربِّك .

وقال سهل : اقرأ باسم الله الرحمن الرحيم في ابتداء صلاتِك توصلك بركة قراءتها إلى ربك وتقطعك عما سواه .

وقيل : اذكر اسم ربِّك في وعده ، ووعيده ؛ لتتوفّر على طاعته وتعدل عن معصيته .

وقال الكلبي : صلِّ لربِّك ، أي : بالنهار .

قال القرطبيُّ{[58334]} : وهذا حسن ، لأنه لما ذكر الليل ذكر النهار ، إذ هو قسيمه ، وقد قال تعالى :{ وَهُوَ الذي جَعَلَ الليل والنهار خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ } [ الفرقان : 62 ] .

قوله : { وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً } ، هذا مصدر على غير المصدر ، وهو واقع موقع التبتل ، لأن مصدر " تفعَّل " " تفعُّل " نحو " تصرَّف تصرُّفاً ، وتكرَّم تكرُّماً " ، وأما " التفعيل " فمصدر " فعَّل " نحو " صرَّف تصريفاً " ؛ كقول الآخر : [ الرجز ]

4925 - وقَدْ تَطَوَّيْتَ انْطواءَ الحِضْبِ{[58335]} *** . . .

فأوقع «الانفعال » موقع «التفعل » .

قال الزمخشريُّ : لأنَّ معنى «تبتَّل » بتل نفسه ، فجيء به على معناه مراعاةً لحق الفواصل .

والبَتْلُ : الانقطاع ، ومنه امرأة بتول ، أي : انقطعت من النكاح ، وبتلت الحبل : قطعته .

قال الليثُ : التبتل : تمييز الشيء من الشيء ، وقالوا : طَلْقةٌ بَتْلةٌ ، يعنون انقطاعها عن صاحبها ، فالتبتُّل : ترك النكاح والزهد فيه ، ومنه سمي الراهب متبتلاً لانقطاعه عن النكاح ؛ قال امرؤ القيس : [ الطويل ]

4926 - تُضِيءُ الظَّلامَ بِالعشَاءِ كأنَّها*** مَنارةُ مُمْسَى رَاهبٍ مُتبتِّلِ{[58336]}

ومنه الحديث : أنه نهى عن التبتل ، وقال : «يَا مَعْشَرَ الشَّبابِ ، من اسْتَطَاعَ مِنْكمُ البَاءَةَ فَليتَزوَّجْ »{[58337]} والمراد به في الآية الكريمة : الانقطاع إلى عبادة الله تعالى دون ترك النكاح .

والتبتل في الأصل : الانقطاع عن الناس ، والجماعات ، وقيل : إن أصله عند العرب التفرد . قاله ابن عرفة .

قال ابن العربي : «هذا فيما مضي ، وأما اليوم ، وقد مرجت عهود الناس ، وخفت أماناتهم ، واستولى الحرام على الحطام ، فالعزلة خير من الخلطة ، والعُزبة أفضل من التأهل ، ولكن معنى الآية : وانقطع عن الأوثان ، والأصنام ، وعن عبادة غير الله .

وكذلك قال مجاهد : معناه : أخلص له العبادة ، ولم يرد التبتل ، فصار التبتُّلُ مأموراً به في القرآن ، مَنْهِيّاً عنه في السنَّةِ ، ومتعلق الأمر غير متعلق النهي فلا يتناقضان ، وإنما بعث ليبينَ للناس ما نزل إليهم ، والتبتل المأمور به : الانقطاع إلى الله بإخلاص كما قال تعالى :{ وَمَآ أمروا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين } ، والتبتل المنهي عنه : سلوك مسلك النصارى في ترك النكاحِ ، والترهب في الصوامع ، لكن عند فساد الزمان يكون خير مال المسلمِ غنماً يتبع بها شعف الجبال ، ومواقع القطر ، يفر بدينه من الفتن " .


[58334]:الجامع لأحكام القرآن 19/30.
[58335]:تقدم.
[58336]:ينظر: ديوانه (174) وشرح المعلقات للزوزني (24)، والقرطبي 19/30، والبحر 8/352، والدر المصون 6/406.
[58337]:تقدم.