مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{يَخۡرُجُ مِنۢ بَيۡنِ ٱلصُّلۡبِ وَٱلتَّرَآئِبِ} (7)

المسألة الثانية : قرئ الصلب بفتحتين ، والصلب بضمتين ، وفيه أربع لغات : صلب وصلب وصلب وصالب :

المسألة الثالثة : ترائب المرأة عظام صدرها حيث تكون القلادة ، وكل عظم من ذلك تريبة ، وهذا قول جميع أهل اللغة . قال امرؤ القيس :

ترائبها مصقولة كالسجنجل *** . . .

المسألة الرابعة : في هذه الآية قولان : ( أحدهما ) أن الولد مخلوق من الماء الذي يخرج من صلب الرجل وترائب المرأة . وقال آخرون : إنه مخلوق من الماء الذي يخرج من صلب الرجل وترائبه ، واحتج صاحب القول الثاني على مذهبه بوجهين ( الأول ) : أن ماء الرجل خارج من الصلب فقط ، وماء المرأة خارج من الترائب فقط ، وعلى هذا التقدير لا يحصل هناك ماء خارج من بين الصلب والترائب ، وذلك على خلاف الآية ( الثاني ) : أنه تعالى بين أن الإنسان مخلوق { من ماء دافق } والذي يوصف بذلك هو ماء الرجل ، ثم عطف عليه بأن وصفه بأنه يخرج ، يعني هذا الدافق من بين الصلب والترائب ، وذلك يدل على أن الولد مخلوق من ماء الرجل فقط ( أجاب ) : القائلون بالقول الأول عن الحجة الأولى : أنه يجوز أن يقال للشيئين المتباينين : أنه يخرج من بين هذين خير كثير ، ولأن الرجل والمرأة عند اجتماعهما يصيران كالشيء الواحد ، فحسن هذا اللفظ هناك ، وأجابوا عن الحجة الثانية : بأن هذا من باب إطلاق اسم البعض على الكل ، فلما كان أحد قسمي المني دافقا أطلق هذا الاسم على المجموع ، ثم قالوا : والذي يدل على أن الولد مخلوق من مجموع الماءين أن مني الرجل وحده صغير فلا يكفي ، ولأنه روي أنه عليه السلام قال : «إذا غلب ماء الرجل يكون الولد ذكرا ويعود شبه إليه وإلى أقاربه ، وإذا غلب ماء المرأة فإليها وإلى أقاربها يعود الشبه » وذلك يقتضي صحة القول الأول .

واعلم أن الملحدين طعنوا في هذه الآية ، فقالوا : إن كان المراد من قوله : { يخرج من بين الصلب والترائب } أن المني إنما ينفصل من تلك المواضع فليس الأمر كذلك ، لأنه إنما يتولد من فضلة الهضم الرابع ، وينفصل عن جميع أجزاء البدن حتى يأخذ من كل عضو طبيعته وخاصيته ، فيصير مستعدا لأن يتولد منه مثل تلك الأعضاء ، ولذلك فإن المفرط في الجماع يستولي الضعف على جميع أعضائه ، وإن كان المراد أن معظم أجزاء المني يتولد هناك فهو ضعيف ، بل معظم أجزائه إنما يتربى في الدماغ ، والدليل عليه أن صورته يشبه الدماغ ، ولأن المكثر منه يظهر الضعف أولا في عينيه ، وإن كان المراد أن مستقر المني هناك فهو ضعيف ، لأن مستقر المني هو أوعية المني ، وهي عروق ملتف بعضها بالبعض عند البيضتين ، وإن كان المراد أن مخرج المني هناك فهو ضعيف ، لأن الحس يدل على أنه ليس كذلك ( الجواب ) : لا شك أن أعظم الأعضاء معونة في توليد المني هو الدماغ ، والدماغ خليفة وهي النخاع وهو في الصلب ، وله شعب كثيرة نازلة إلى مقدم البدن وهو التربية ، فلهذا السبب خص الله تعالى هذين العضوين بالذكر ، على أن كلامكم في كيفية تولد المني ، وكيفية تولد الأعضاء من المني محض الوهم والظن الضعيف ، وكلام الله تعالى أولى بالقبول .

المسألة الخامسة : قد بينا في مواضع من هذا الكتاب أن دلالة تولد الإنسان عن النطفة على وجود الصانع المختار من أظهر الدلائل ، لوجوه ( أحدها ) : أن التركيبات العجيبة في بدن الإنسان أكثر ، فيكون تولده عن المادة البسيطة أدل على القادر المختار ( وثانيها ) : أن اطلاع الإنسان على أحوال نفسه أكثر من اطلاعه على أحوال غيره ، فلا جرم كانت هذه الدلالة أتم ( وثالثها ) : أن مشاهدة الإنسان لهذه الأحوال في أولاده وأولاد سائر الحيوانات دائمة ، فكان الاستدلال به على الصانع المختار أقوى .