وفي الوقت الذي وجه الله - سبحانه - هذا التكليف إلى رسوله ، وجه إلى قومه المخاطبين بهذا القرآن أول مرة - وإلى كل قوم يواجههم الإسلام ليخرجهم من الجاهلية - الأمر باتباع ما أنزل في هذا الكتاب ، والنهي عن اتباع الأولياء من دون الله . ذلك أن القضية في صميمها هي قضية " الاتباع " . . من يتبع البشر في حياتهم ؟ يتبعون أمر الله فهم مسلمون . أم يتبعون أمر غيره فهم مشركون ؟ إنهما موقفان مختلفان لا يجتمعان :
( اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ، ولا تتبعوا من دونه أولياء . قليلا ما تذكرون ) .
هذه هي قضية هذا الدين الأساسية . . إنه إما اتباع لما أنزل الله فهو الإسلام لله ، والاعتراف له بالربوبية ، وإفراده بالحاكمية التي تأمر فتطاع ، ويتبع أمرها ونهيها دون سواه . . وإما اتباع للأولياء من دونه فهو الشرك ، وهو رفض الاعتراف لله بالربوبية الخالصة . . وكيف والحاكمية ليست خالصة له سبحانه ؟ !
وفي الخطاب للرسول [ ص ] كان الكتاب منزلاً إليه بشخصه : ( كتاب أنزل إليك ) . . وفي الخطاب للبشر كان الكتاب كذلك منزلاً إليهم من ربهم : ( اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ) . . فأما الرسول [ ص ] فالكتاب منزل إليه ليؤمن به ولينذر ويذكر . وأما البشر فالكتاب منزل إليهم من ربهم ليؤمنوا به ويتبعوه ، ولا يتبعوا أمر أحد غيره . . والإسناد في كلتا الحالتين للاختصاص والتكريم والتحضيض والاستجاشة . فالذي ينزل له ربه كتاباً ، ويختاره لهذا الأمر ، ويتفضل عليه بهذا الخير ، جدير بأن يتذكر وأن يشكر ؛ وأن يأخذ الأمر بقوة ولا يستحسر . .
ثم قال تعالى مخاطبًا للعالم : { اتَّبِعُوا مَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ } أي : اقتفوا آثار النبي الأمي الذي جاءكم بكتاب أنزل إليكم من رب كلّ شيء ومليكه ، { وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ } أي : لا تخرجوا عما جاءكم به الرسول إلى غيره ، فتكونوا قد عدلتم عن حكم الله إلى حكم غيره .
{ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ } كقوله : { وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } [ يوسف : 103 ] . وقوله : { وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } [ الأنعام : 116 ] وقوله : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } [ يوسف : 106 ] .
بيان لجملة : { لتنذر به } [ الأعراف : 2 ] بقرينة تذييلها بقوله : قليلاً ما تذكرون . فالخطاب موجّه للمشركين ويندرج فيه المسلمون بالأولى ، فبعد أن نوّه الله بالكتاب المنزّل إلى الرّسول صلى الله عليه وسلم وبيّن أن حكمة إنزاله للإنذار والذّكرى ، أمر النّاس أن يتّبعوا ما أنزل إليهم ، كلٌ يتبع ما هو به أعلق ، والمشركون أنزل إليهم الزّجر عن الشّرك والاحتجاج على ضلالهم ، والمسلمون أنزل إليهم الأمر والنّهي والتّكليف ، فكلٌ مأمور باتّباع ما أنزل إليه ، والمقصود الأجْدَر هم المشركون تعريضاً بأنّهم كفروا بنعمة ربّهم ، فوصْفُ ( الرب ) هنا دون اسم الجلالة : للتّذكير بوجوب اتّباع أمره ، لأنّ وصف الربوبيّة يقتضي الامتثال لأوامره ، ونهاهم عن اتّباع أوليائهم الذين جعلوهم آلهة دونه ، والموجه إليهم النّهي هم المشركون بقرينة قوله : { قليلاً ما تذكرون } .
والاتِّباع حقيقته المشي وراء ماشٍ ، فمعناه يقتضي ذاتين : تابعاً ومتوبعاً ، يقال : اتَّبع وتَبِع ، ويستعار للعمل بأمر الآمر نحو : { ما منعك إذ رأيتهم ضلوا أن لا تتبعني أفعصيت أمري } [ طه : 92 ، 93 ] وهو استعارة تمثيليّة مبنيّة على تشبيه حالتين ، ويستعار للاقتداء بسيرة أو قَوْل نحو : { ولا تَتّبعوا خطوات الشيطان } [ البقرة : 168 ] وهو استعارة مصرّحة تنبني على تشبيه المحسوس بالمعقول مثل قوله تعالى : { إن أتَّبِع إلاّ مَا يُوحى إليّ } [ الأنعام : 50 ] ، ومنه قوله هنا : { اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم } .
والمراد بما أنزل هو الكتاب المذكور بقوله : { كتاب أنزل إليك } [ الأعراف : 2 ] .
وقوله : { ولا تتبعوا من دونه أولياء } تصريح بما تضمّنه : { اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم } لأنّ فيما أنزل إليهم من ربّهم أنّ الله إلهٌ واحد لا شريك له ، وأنّه الولي ، وأنّ الذين اتَّخذوا من دونه أولياء اللَّهُ حفيظ عليهم ، أي مجازيهم لا يخفى عليه فعلَهم ، وغيرَ ذلك من آي القرآن ؛ والمقصود من هذا النّهي تأكيد مقتضى الأمر باتّباع ما أنزل إليهم اهتماماً بهذا الجانب ممّا أنزل إليهم ، وتسجيلاً على المشركين ، وقطعاً لمعاذيرهم أن يقولوا إنّنا اتَّبعنا ما أنزل إلينا ، وما نرى أولياءنا إلاّ شفعاءَ لنا عند الله فما نعبدهم إلاّ ليقرّبونا إلى الله زلفى ، فإنّهم كانوا يموهون بمثل ذلك ، ألا ترى أنّهم كانوا يقولون في تلبيتهم : « لبّيك لا شريك لك إلاّ شريكاً هو لك تملكه وما ملك » فموقع قوله : { اتبعوا ما أنزل إليكم } موقع الفَصل الجامع من الحد ، وموقع { ولا تتبعوا } موقع الفصل المانع في الحَدّ .
والأولياء جمع ولي ، وهو المُوالي ، أي الملازم والمعاون ، فيطلق على النّاصر ، والحليف ، والصاحب الصّادق المودّة ، واستعير هنا للمعبود وللإله : لأنّ العبادة أقوى أحوال الموالاة ، قال تعالى : { أم اتّخذوا من دونه أولياء فالله هو الولي } [ الشورى : 9 ] وقد تقدّم عند قوله تعالى : { قل أغير الله أتّخذ ولياً } في سورة الأنعام ( 14 ) ، وهذا هو المراد هنا .
والاتّباع في قوله : { ولا تتبعوا من دونه أولياء } يجوز أن يكون مستعملاً في المعنى الذي استعمل فيه الاتّباع في قوله : { اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم } وذلك على تقدير : لا تتّبعوا ما يأتيكم من أولياء دون الله ، فإن المشركين ينسبون ما هم عليه من الدّيانة الضّالة إلى الآلهة الباطلة ، أو إلى سدنة الآلهة وكُهّانها ، كما تقدّم عند قوله تعالى : { وكذلك زَيّن لكثير من المشركين قتلَ أولادهم شركاؤهم } [ الأنعام : 137 ] ، وقوله : { فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا } كما في سورة الأنعام ( 136 ) ، وعلى تلك الاعتبارات يجري التّقدير في قوله : { أولياء } أي لا تمتثلوا للأولياء أو أمرهم أو لدعاة الأولياء وسدنتهم .
ويجوز أن يكون الاتّباع مستعاراً للطّلب والاتّخاذ ، أي ولا تتّخذوا أولياء غيره نحو قولهم : هو يتّبع زلة فلان . وفي الحديث : « يتّبع بها شَعَف الجبال ومواقعَ القطر » أي يتطلبها .
و ( مِنْ ) في قوله : { من دونه } ابتدائيّة ، و ( دون ) ظرف للمكان المجاوز المنفصل ، وقد جرّ بمن الجارة للظروف ، وهو استعارة للترك والإعراض . والمجرور في موضع الحال من فاعل { تتّبعوا } ، أي لا تتّبعوا أولياء متّخذينَها دونه ، فإنّ المشركين وإن كانوا قد اعترفوا لله بالإلهيّة واتبعوا أمره بزعمهم في كثير من أعمالهم : كالحج ومناسكه ، والحَلِف باسمه ، فهم أيضاً اتّبعوا الأصنام بعبادتها أو نسبةِ الدّين إليها ، فكلّ عمل تقرّبوا به إلى الأصنام ، وكلّ عمل عملوه امتثالا لأمر ينسب إلى الأصنام ، فهم عند عمله يكونون متّبعين اتِّباعاً فيه اعراض عن الله وترك للتّقرب إليه ، فيكون اتّباعاً من دون الله ، فيدخل في النّهي ، وبهذا النّهي قد سُدت عليهم أبواب الشّرك وتأويلاته كقولهم : { ما نعبدهم إلاّ ليقرّبونا إلى الله زلفى } [ الزمر : 3 ] فقد جاء قوله : { ولا تتبعوا من دونه أولياء } في أعلى درجة من الايجاز واستيعاب المقصود .
وأفاد مجموع قوله : { اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء } مفاد صيغة قصر ، كأنّه قال : لا تتّبعوا إلاّ ما أمر به ربّكم ، أي دون ما يأمركم به أولياؤكم ، فعُدل عن طريق القصر لتكون جملة : { ولا تتبعوا من دونه أولياء } مستقلّة صريحة الدّلالة اهتماماً بمضمونها على نحو قول السَّمَوْأل أوْ الحَارثي :
تَسيِلُ على حد الظُّبات نفوسنا *** وليست على غير الظبَات تسيل
وجملة : { قليلاً ما تذكرون } هي في موضع الحال من { لا تَتَّبعوا } ، وهي حال سببيّة وكاشفة لصاحبها ، وليست مقيِّدَة للنّهي : لظهور أنّ المتّبعين أولياءَ من دون الله ليسوا إلاّ قليلي التذكر . ويجوز جعل الجملة اعتراضاً تذييلياً . ولفظ ( قليلاً ) يجوز أن يحمل على حقيقته لأنّهم قد يتذكّرون ثمّ يعرضون عن التّذكّر في أكثر أحوالهم فهم في غفلة معرضون ، ويجوز أن يكون ( قليلاً ) مستعاراً لمعنى النّفي والعدم على وجه التّلميح كقوله تعالى : { فقليلاً ما يؤمنون } [ البقرة : 88 ] ( فإنّ الإيمان لا يوصف بالقلّة والكثرة ) .
والتّذكّر مصدر الذّكر بضمّ الذال وهو حضور الصورة في الذّهن .
وقليل مستعمل في العدم على طريقة التّهكّم بالمضيع للأمر النّافع يقال له : إنّك قليل الإتيان بالأمر النّافع ، تنبيهاً له على خطئه ، وإنّه إن كان في ذلك تفريط فلا ينبغي أن يتجاوز حدّ التّقليل دون التّضييع له كلّه .
و ( ما ) مصدريّة والتّقدير : قليلاً تَذَكُّركم ، ويجوز أن يكون { قليلاً } صفة مصدر محذوف دلّ عليه { تذكرون } و ( ما ) مزيدة لتوكيد القلّة ، أي نوع قلّة ضعيف ، نحو قوله تعالى : { أنْ يضرِبَ مثلا مَّا } [ البقرة : 26 ] . وتقدّم القول في نظيره عند قوله تعالى : { فقليلاً ما يؤمنون } في سورة البقرة ( 88 ) . والمعنى : لو تذكّرتم لما اتّبعتم من دونه أولياء ولما احتجتم إلى النّهي عن أن تتّبعوا من دونه أولياء ، وهذا نداء على إضاعتهم النّظر والاستدلال في صفات الله وفي نقائص أوليائهم المزعومين .
وقرأ الجمهور : { ما تذّكرون } بفوقية واحدة وتشديد الذال على أنّ أصله تَتَذكّرون بتاءين فوقيتين فقلبت ثانيتُهما ذالاً لتقارب مخرجيهما ليتأتى تخفيفه بالإدغام .
وقرأه حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم ، وخلف بتخفيف الذال على حذف إحدى التاءين اختصاراً . وقرأه ابن عامر : { يتذكّرون } بتحتيّة في أوّله ثمّ فوقيّة ، والضّمير عائد إلى المشركين على طريقة الالتفات من الخطاب إلى الغيبة ، أعرض عنهم ووجَّه الكلام على غيرهم من السّامعين : إلى النّبيء صلى الله عليه وسلم والمسلمين .