اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ٱتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيۡكُم مِّن رَّبِّكُمۡ وَلَا تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِۦٓ أَوۡلِيَآءَۗ قَلِيلٗا مَّا تَذَكَّرُونَ} (3)

لمَّا أُمر الرَّسولُ بالتَّبليغ ، والإنذارِ ؛ أمر الأمة بمتابعة الرسول .

قوله : " مِنْ ربِّكُمْ " يجوزُ فيه وجهان :

أحدهما : أنه يتعلَّقُ ب " أنزل " وتكون " مِنْ " لابتداء الغايةِ المجازية .

الثاني : أنْ يتعلَّق بمحذوف على أنَّهُ حالٌ : إمّا من الموصول ، وإمَّا من عائده القائم مقام الفاعل .

فصل في دحض شبهة لنفاة القياس

استدلَّ نُفَاةُ القياسِ بقوله : { اتبعوا مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ } والمرادُ به ، القرآنُ والسَّنُة ، واستدلُّوا أيضاً بها على أن تخصيصَ عموم القرآن القياسِ لا يُجوزُ{[15733]} ، لأنَّ عُمُوم القُرْآنِ منزَّلٌ من عند الله ، والله - تعالى - أوجبَ متابعتَهُ فوجب العمل بِعُمُومِ القرآن ، ولمَّا وجب العمل به ؛ امتنع العملُ بالقِيَاسِ ، وإلاَّ لَزِمَ التَّنَاقَضُ .

وأجيبوا بأن قوله تعالى { فاعتبروا } [ الحشر : 2 ] يدلُّ على وجوب العمل بالقياس ، فكان العمل بالقياس عملاً بإنزال .

فإن قيل : لو كان العمل بالقِيَاس عملاً بما أنزله اللَّهُ لكان تارك العمل بلا قياس كافراً ؛ لقوله : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون } [ المائدة : 44 ] وحيث اجتمعت الأمَّةُ على عدمِ التَّكْفير ؛ علمنا أنَّ العمل بالقياس ليس عملاً بما أنْزَلَ اللَّهُ .

وأجيبوا بأنَّ كون القياس حجَّةً ثبت بإجماع الصَّحابة{[15734]} والإجماع دليل قَاطِعٌ ، وما ذكرتمُوهُ تمسُّكٌ بالعُمُومِ ، وهو دليل مَظْنُونٌ والقَاطِعُ أولى من المَظْنُونِ .

وأجَابَ نفاةُ القياسِ بأن كون الإجماع حجَّةً قاطِعَةً إنَّما ثبت بِعُمُومَاتِ القُرْآنِ والسُّنَّةِ ، والفرع لا يكون أقْوَى من الأصْلِ ، وأجِيبُوا بأنَّ الآيَاتِ والأحاديث لما تعاضدت قويت .

قوله : { وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ } أي : لا تَتَّخِذُوا غيره أوْلِيَاءَ تطيعونَهُم في مَعْصِيَةِ اللَّهِ .

قوله : " مِنْ دُونِهِ " يجُوزُ أن يتعلق بالفعل قَبْلَهُ ، والمعنى : لا تَعْدِلُوا عَنْهُ إلى غيره من الشَّيَاطِينِ والكُهَّانِ .

والثاني : أن يتعلق بِمَحْذُوفٍ ؛ لنه كان في الأصْلِ صفة ل " أولياء " فلمَّا تقدَّم نُصِبَ حالاً ، وإليه يميل تَفْسِيرُ الزَّمَخْشَرِيِّ ، فإنَّهُ قال : " أي لا تتولَّوْا من دونه شياطين الإنس والجن ؛ فيحملوكم على الأهواء والبدع " . والضَّمِيرُ في " دونه " يعود على " ربِّكُمْ " ولذلك قال الزَّمَخشريُّ{[15735]} " مِنْ دُونِ اللَّهِ " ، ويجُوزُ أن يعود على " مَا " الموصُولةِ ، وأن يعود على الكتابِ المُنَزَّل ، والمعنى : لا تَعْدِلُوا عنه إلى الكُتُبِ المَنْسُوخَةِ .

وقرأ الجَحْدَرِيُّ{[15736]} : " ابَْغُوا " بالغين المعجمة من الابتغاء . ومالك بن دينار ومجاهد : " ولا تَبْتَغُوا " من الابتغاء أيضاً من قوله : { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً } [ آل عمران : 85 ] .

قوله : { قَلِيلاً مَّا تَذَكَرُونَ } قد تقدَّم نظيرُهُ في قوله : { فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ } [ البقرة : 88 ] وهو أنَّ " قَلِيلاً " نعت مصدر محذوف أي : تذكُّراً قليلاً تذكرون ، أوْ نعت ظرف زمانٍ مَحْذُوفٍ أيضاً أي : زماناً قَلِيلاً تذكَّرون ، فالمصدرُ أو الظَّرْفُ منصوب بالفعل بعدهُ ، و " مَا " مزيدةٌ للتَّوكيد ، وهذا إعْرابٌ جليٌّ .

وقد أجَازَ الحُوفِيُّ{[15737]} أن تكون نَعْتَ مصدرٍ محذوف لقوله : " ولا تَتَّبِعُوا " أي : ولا تَتَّبِعُوا من دونه أوْلِيَاءَ اتِّبَاعاً قليلاً ، وهو ضعيف ؛ لأنه يصيرُ مَفْهُومُهُ أنَّهم غير مَنْهيِّين عن اتِّبَاعِ الكَثيرِ ، ولكِنَّهُ مَعْلُومٌ من جهة المَعْنَى ، فلا مَفْهُوم لَهُ .

وحكى ابْنُ عطيَّة{[15738]} عن أبِي عَلِيٍّ أنَّ " مَا " مصدرية موصولة بالفِعْلِ بَعْدَها ، واقْتَصَرَ على هذا القَدْر ، ولا بُدَّ لَهُ من تَتِمَّة ، فقال بعض الناس : ويكون " قَلِيلاً " نعت زمان محذوف ، وذلك الزَّمَانُ المحذوف في محلِّ رفع خبر مقدّماً و " مَا " المصدريَّةُ ، وما بَعْدَها بتأويل مصدر مبتدأ مؤخراً ، والتَّقدِيرُ : زمناً قليلاً تذكُّرُكم أي : أنَّهُم لا يقع تذكرهم إلا في بعض الأحْيَانِ ونظيره : " زمناً قليلاً قيامك " .

وقد قِيلَ : إنَّ " ما " هذه نَافِيَةٌ ، وهو بعيد ؛ لأن " ما " لا يَعْمَلُ ما بَعْدَهَا فيما قبلها عند البصريين ، وعلى تقدير تَسْلِيم ذلك فيصيرُ المعنى : ما تذكرون قليلاً ، وليس بِطَائِلٍ ، وهذا كما سيأتي في قوله تعالى : { كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ } [ الذاريات : 17 ] عند من جعلها نافية .

وهناك وَجْهٌ لا يمكن أن يأتي ههنا وهو أن تكون " مَا " مصدريَّةٌ ، وهي وما بعدها في محل رفع بالفاعلية ب " قَلِيلاً " الذي هو خبر كان ، اولتقدير : كانُوا قليلاً هُجُوعُهُم ، وأمَّا هنا فلا يمكن ذلك لعدم صحَّةِ نصب " قليلاً " بقوله : " وَلاَ تَتَّبِعُوا " حتى يجعل " ما تَذَكَّرُون " مرفوعاً به . ولا يجوز أَن يكون " قَلِيلاً " حالاً من فاعل " تَتَّبِعُوا " و " ما تَذَكَّرُونَ " مرفوعاً به ، إذْ يصيرُ المعنى : أنَّهُم نُهُوا عن الاتِّباعِ في حال قلَّة تذكرهم ، وليس ذلك بمُرَادٍ .

وقرأ ابن عامر{[15739]} : " قَلِيلاً ما تَذكرُونَ " باليَاءِ تَارةً والتَّاءِ أخرى ، وقرأ حَمْزَةُ والكِسَائِي وحفص عن عاصم بتاء واحدة وتخفيف الذال ، والباقون بتاء وتشديد الذَّالِ .

قال الواحِديُّ{[15740]} : " تذكَّرُون " أصله " تتذَكَّرُونَ " فأدغمت تاء تفعل في الذَّال ؛ لأنَّ التَّاء مهموسة والذَّال مجهورة ، والمجهور أزيد صوتاً من المَهْمُوسِ ، فحسن إدغام الأنقص في الأزيد ، و " مَا " موصولة بالفِعْلِ ، وهي معه بِمَنْزلَةِ المصْدَرِ فالمعنى : قَلِيلاً تَذَكُّرُكُمْ .

وأمَّا قراءةُ ابْنِ عامر " يَتَذكَّرُونَ " بياء وتاء فوجهها أنَّ هذا خطابٌ للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أي : قَلِيلاً ما يتذكرون هؤلاء الَّذِينَ ذُكِّرُوا بها الخِطَابِ .

وأمَّا قراءةُ الأخَوَيْنِ ، وحفص خفيفة الذَّالِ شدِيدَة الكَافِ ، فقد حَذَفُوا التي أدْغَمَهَا الأوَّلُون ، وتقدَّم الكلامُ على ذلك في الأنعام{[15741]} .


[15733]:قد يرد عن الشارع أمر متعلق بعام ثم يظهر أن بعض أفراد هذا العام يستحق حكما يخالف سائر الأفراد وهذا الحكم معلل بعلة توجد في غيره من الأفراد كأن يقول قائل لمن له أن يأمره " لا تعط من سألك شيئا" فمن عام ينتظم جميع أفراد السائلين أغنياء أو فقراء علماء أو جهلاء، ثم تلا ذلك أمر آخر يقول "وأعط محمدا لفقره" فلما علمنا العلة وأردنا تعميم محل الإعطاء فهل نقول إنه مأمور بإعطاء كل فقير سواء كان محمدا أو غيره؟ وبعبارة أخرى هل لنا أن نخصص العام الأول بهذا القياس ونقول إنه مراد الناهي بلفظ العام غير الفقراء ويكون المخرج نوعين أحدهما بالنص وهو "محمد" والثاني بالقياس وهو غيره من الفقراء؟. هذا هو محل النزاع بين الأصوليين. وكان من أثر اختلاف الأصوليين في دلالة العام اختلافهم في جواز تخصيص العام من الكتاب أو السنة المتواترة بالقياس، إذا لم يخصصا بدليل مستقل مقارن قطعي الثبوت، ونذكر هنا أمرا آخر كان سببا من أسباب الخلاف بينهم في جواز التخصيص بالقياس وهو وجود الضعف في القياس الناشىء من احتياجه في الغالب إلى الاجتهاد في أمور: كون حكم الأصل معللا، وتعيين علته، ووجودها في الأصل، ووجودها في الفرع، وخلوها عن المعارض فيهما، وكل ذلك بعد معرفة حكم الأصل والأمور الاجتهادية يتطرق إليها احتمال الخطأ، وهذا بخلاف الخبر فإن محل الاجتهاد فيه –إن كان- أمران، عدالة الراوي وكيفية الدلالة. لهذين الأمرين وقع الخلاف بين علماء الأصول في جواز تخصيص العام بالقياس وعدم جوازه وذهبوا فيه مذاهب شتى. فذهب الأئمة الأربعة والأشعري وأبو هاشم من المعتزلة إلى الجواز إلا أن الذين قالوا بأن دلالة العام في أفراده قطعية شرطوا لذلك أن يكون العام مخصصا بغير القياس بدليل متصل مقارن قطعي الدلالة –إن كان العام كذلك. وذهب أبو علي الجبائي من المعتزلة إلى تقديم العام على القياس مطلقا سواء كان القياس جليا أو خفيا وسواء كان العام مخصوصا أو لا، ونقله القاضي في التقريب عن الأشعري. وذهب ابن سريج إلى الجواز إن كان القياس جليا وهو ما كان الجامع فيه وصفا مناسبا للحكم لا أنه كان خفيا وهو قياس الشبه كقياس طهارة الخبث على طهارة الحدث في تعين الماء للطهارة بجامع أن كلا طهارة تراد للصلاة فإن هذه العلة غير مناسبة للحكم بذاتها إلا أنه يتوهم فيها المناسبة لأن الشارع رتب عليها تعين الماء في الطهارة الحدثية وقيل الجلي ما قطع فيه بنفي الفارق بين الأصل والفرع كقياس الأمة على العبد في تقويم البعض على معتق بعضه الآخر ليعتق الكل أو ما كان تأثير الفارق فيه ضعيفا كقياسهم العمياء على العوراء في عدم الإجزاء في الضحية بجامع النقص. والخفي ما كان تأثير الفارق فيه قويا كقياس القتل بالمثقل على القتل بالمحدد. وقيل يجوز إن كان أصله وهو المقيس عليه مخرجا من ذلك العام بنص وقيل يجوز إن كان المقيس عليه مخرجا من العام أو ثبتت علة القياس بنص أو إجماع وإلا اعتبرت القرائن فإن ظهر ما يرجح القياس خصص العام ولا عمل به وألغي القياس وهو مختار ابن الحاجب. وذهب الإمام حجة الإسلام الغزالي إلى أنه إن تفاوت القياس والعام في غلبة الظن رجح الأقوى فإن تعادلا فالوقف. وذهب القاضي أبو بكر وإمام الحرمين إلى الوقف. والحاصل من جملة هذه المذاهب أنها راجعة إلى القول: بالجواز مطلقا وعدمه مطلقا وإلى التفصيل والوقف.
[15734]:ينظر الكلام في مباحث القياس للدكتور علي عبد التواب، وينظر المستصفى 2/244، والأحكام للآمدي 3/82، وأعلام الموقعين 1/244-258، والتقرير 3/246، ونبراس العقول ص 96، وإرشاد الفحول ص 178، والمختصر 2/251، والمسلم 2/314.
[15735]:ينظر: الكشاف 2/86.
[15736]:ينظر: المحرر الوجيز 2/373، والبحر المحيط 4/268، والدر المصون 3/231.
[15737]:ينظر: الدر المصون 3/231.
[15738]:ينظر: المحرر الوجيز 2/373.
[15739]:ينظر: السبعة 278، والحجة 4/5، وفيه: وقرأ ابن عامر: "قليلا ما يتذكرون" بياء وتاء ، وقد روي عنه بتاءين. وينظر: حجة القراءات 279، وإعراب القراءات 1/176، والعنوان 95، وشرح شعلة 386، وشرح الطيبة 4/290، وإتحاف 2/44.
[15740]:ينظر: تفسير الفخر الرازي 14/17.
[15741]:ينظر: تفسير سورة الأنعام آية 152.