ويحدد لهم المحرمات على سبيل الحصر . وليس منها ما يحرمونه على أنفسهم من رزق الله من بحيرة أو سائبة أو وصيلة أوحام :
( إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ، وما أهل لغير الله به ) . . وهي محرمة إما لأن فيها أذى للجسم والحس كالميتة والدم ولحم الخنزير ، أو أذى للنفس والعقيدة كالذي توجه به ذابحه لغير الله . ( فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم ) فهذا الدين يسر لا عسر . ومن خاف على نفسه الموت أو المرض من الجوع والظمأ فلا عليه أن يتناول من هذه المحرمات قدر ما يدفع الضرر [ على خلاف فقهي ذكرناه من قبل ] غير باغ على مبدأ التحريم ولا متجاوز قدر الضرورة التي أباحت المحظور .
ثم ذكر ما حرمه عليهم مما فيه مضرة لهم في دينهم ودنياهم ، من الميتة والدم ، ولحم الخنزير .
{ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ } ، أي : ذبح على غير اسم الله ، ومع هذا { فَمَنِ اضْطُرَّ } ، أي : احتاج في غير بغي ولا عدوان ، { فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
وقد تقدم الكلام على مثل هذه الآية في سورة " البقرة " {[16726]} بما فيه كفاية عن إعادته ، ولله الحمد [ والمنة ]{[16727]} .
هذه الجملة بيان لمضمون جملة { فكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيباً } [ سورة النحل : 114 ] لتمييز الطيّب من الخبيث ، فإن المذكورات في المحرّمات هي خبائث خُبثاً فطرياً لأن بعضها مفسد لتولد الغذاء لما يشتمل عليه من المضرّة . وتلك هي الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير ؛ وبعضها منافٍ للفطرة وهو ما أهلّ به لغير الله لأنه منافٍ لشكر المنعم بها ، فالله خلق الأنعام ، والمشركون يذكرون اسم غير الله عليها .
ولإفادة بيان الحلال الطيّب بهذه الجملة جيء فيها بأداة الحصر ، أي ما حرّم عليكم إلا الأربعَ المذكورات ، فبقي ما عداها طيّباً .
وهذا بالنظر إلى الطيِب والخُبث بالذات . وقد يعرض الخبث لبعض المطعومات عرضاً .
ومناسبة هذا التحديد في المحرّمات أن بعض المسلمين كانوا بأرض غُربة وقد يؤكل فيها لحم الخنزير وما أهلّ به لغير الله ، وكان بعضهم ببلد يؤكل فيه الدم وما أهلّ به لغير الله . وقد مضى تفسير نظير هذه الآية في سورة البقرة والأنعام .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم بين ما حرم، قال عز وجل: {إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل}، يعني: وما ذبح {لغير الله به} من الآلهة، {فمن اضطر} إلى شيء مما حرم الله عز وجل في هذه الآية، {غير باغ}، يستحلها في دينه، {ولا عاد}، يعني: ولا معتد، لم يضطر إليه فأكله، {فإن الله غفور} لما أصاب من الحرام، {رحيم} بهم حين أحل لهم عند الاضطرار.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره مكذّبا المشركين الذين كانوا يحرّمون ما ذكرنا من البحائر وغير ذلك: ما حرّم الله عليكم أيها الناس إلا الميتة والدم ولحم الخنزير وما ذبح للأنصاب فسُمّي عليه غير الله؛ لأن ذلك من ذبائح من لا يحلّ أكل ذبيحته، فمن اضطرّ إلى ذلك أو إلى شيء منه لمجاعة حلّت فأكله {غيرَ باغٍ وَلا عاد فإنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، يقول: ذو ستر عليه أن يؤاخذه بأكله ذلك في حال الضرورة، رحيم به أن يعاقبه عليه... عن قتادة، قوله: {إنّمَا حَرّمَ عَلَيْكُمْ المَيْتَةَ والدّمَ...}، قال: وإن الإسلام دين يطهره الله من كلّ سوء، وجعل لك فيه يا ابن آدم سعة إذا اضطررت إلى شيء من ذلك. قوله: {فَمَنِ اضْطُرّ غيرَ باغٍ وَلا عادٍ}، غير باغ في أكله ولا عاد أن يتعدّى حلالاً إلى حرام، وهو يجد عنه مندوحة.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{فمن اضطر} إلى ما ذكر من المحرمات {غير باغ} على ما نهي عنه، وهو الشبع كقوله: {فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم} (المائدة: 3) {ولا عاد} عليه. وقال بعضهم: {غير باغ}، يستحله في دينه، {ولا عاد}، ولا معتد في أكله. وقال بعضهم: {غير باغ} على المسلمين، مفارق لجماعتهم، مشاق لهم. {ولا عاد} عليهم أنفسهم. وقد ذكرنا هذا في ما تقدم وأقاويلهم. وأما تأويله عندنا: {غير باغ} على المسلمين سوى دفع الإهلاك عن نفسه.
{ولا عاد}، متعد ومتجاوز اضطراره.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
ثم عدد عليهم محرمات الله، ونهاهم عن تحريمهم وتحليلهم بأهوائهم وجهالاتهم، دون اتباع ما شرع الله على لسان أنبيائه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان الإذن إنما هو في بعض الرزق في الحال المذكور فاحتيج إلى معرفته، وكانت المباحات أكثر من المحظورات، حصر القليل ليعلم منه الكثير؛ لأن كل ضدين معروفين إجمالاً عُين أحدهما، عرف من تعيينه الآخر، فقال تعالى: {إنما حرم}، أي: الله الذي لا أمر لأحد معه. {عليكم الميتة} التي بينت على لسان الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنها ميتة وإن ذكيت. {والدم ولحم الخنزير}، خصه بالذكر بعد دخوله في الميتة لاتخاذ النصارى أكله كالدين. {وما أهل}، أي: بأيّ إهلال كان من أي مهل كان. ولما كان مقصود السورة لبيان الكمال، كان تقديم غيره لتقبيح حال المعتنى به أولى فقال تعالى: {لغير الله}، أي: الملك الأعظم الذي لا ملك سواه {به}. ولما كان الإنسان قد يضطر إلى أكل كلّ ما يمكن أكله، بين لهم أنه رفق بهم فأباح لهم سد الرمق من الحرام فقال تعالى: {فمن اضطر}، أي: كيفما وقع له الاضطرار. {غير باغ} على مضطر آخر، {ولا عاد} سدَّ الرمق. ولما كان الإذن في الأكل من هذه الأشياء حال الضرورة إنما هو رخصة، وكانت الشهوة داعية إلى ما فوق المأذون فيه قال تعالى: {فإن الله}، أي: المختص بصفات الكمال، بسبب تناوله منها على ما حده {غفور رحيم}، فمن زاد على ما أذن له فيه فهو جدير بالانتقام...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويحدد لهم المحرمات على سبيل الحصر. وليس منها ما يحرمونه على أنفسهم من رزق الله من بحيرة أو سائبة أو وصيلة أو حام: (إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير، وما أهل لغير الله به).. وهي محرمة إما لأن فيها أذى للجسم والحس كالميتة والدم ولحم الخنزير، أو أذى للنفس والعقيدة كالذي توجه به ذابحه لغير الله. (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم) فهذا الدين يسر لا عسر. ومن خاف على نفسه الموت أو المرض من الجوع والظمأ فلا عليه أن يتناول من هذه المحرمات قدر ما يدفع الضرر [على خلاف فقهي ذكرناه من قبل] غير باغ على مبدأ التحريم ولا متجاوز قدر الضرورة التي أباحت المحظور...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذه الجملة بيان لمضمون جملة {فكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيباً} [سورة النحل: 114] لتمييز الطيّب من الخبيث، فإن المذكورات في المحرّمات هي خبائث خُبثاً فطرياً لأن بعضها مفسد لتولد الغذاء لما يشتمل عليه من المضرّة. وتلك هي الميتة، والدم، ولحم الخنزير؛ وبعضها منافٍ للفطرة وهو ما أهلّ به لغير الله لأنه منافٍ لشكر المنعم بها، فالله خلق الأنعام، والمشركون يذكرون اسم غير الله عليها...
ولإفادة بيان الحلال الطيّب بهذه الجملة جيء فيها بأداة الحصر، أي ما حرّم عليكم إلا الأربعَ المذكورات، فبقي ما عداها طيّباً. وهذا بالنظر إلى الطيِب والخُبث بالذات. وقد يعرض الخبث لبعض المطعومات عرضاً...
ومناسبة هذا التحديد في المحرّمات أن بعض المسلمين كانوا بأرض غُربة وقد يؤكل فيها لحم الخنزير وما أهلّ به لغير الله، وكان بعضهم ببلد يؤكل فيه الدم وما أهلّ به لغير الله...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
اللحوم المحرمة وحالات الضرورة:
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}، فعليكم أن لا تأكلوا من ذلك كله؛ لأن الله لم يحرمه إلا لاستخباثه الذي يخرجه عن الطيب الذي أحله الله لعباده، سواء كان ذلك لجهة العناصر المادية المضرّة فيه، أو لجهة العناصر الروحية السلبيّة، وقد تحدثنا عن مضمون هذه الآية في ما قدمناه من تفسير الآية المماثلة في سورة البقرة، الآية 173، وفي سورة المائدة، الآية 3، وفي سورة الأنعام، الآية 145. فليراجع التفسير في مكانه.
{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}، ومن رحمته أنه لم يحرم على المضطر شيئاً اضطر إليه رأفةً به ورحمةً بحياته، بشرط أن لا يكون باغياً ولا عادياً، في مواقع اضطراره.
وهناك ملاحظة ذكرها صاحب الميزان «رحمه الله» حول سرّ التأكيد على هذه المحرمات الأربع حتى كررها في أكثر من سورة مما نزل في مكة ومما نزل في المدينة، فقد نستطيع القول بأن هذه هي المحرمات التي حرمها الله في كتابه، ولم يحرم غيرها... أما بقية الأمور، فقد أوكل الله أمر تحريمها إلى النبيصلى الله عليه وسلم الذي حرّم أشياء كثيرة موجودة في السنة الشريفة، ثم دعا الأمة إلى أن تأخذ بها في قوله تعالى: {وَمَآ آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ} [الحشر: 7].