المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحۡمَ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيۡرِ ٱللَّهِ بِهِۦۖ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (115)

حصرت { إنما } هذه المحرمات وقت نزول الآية ، ثم نزلت المحرمات بعد ذلك . وقرأ جمهور الناس : «الميْتة » ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع : «الميّتة » ، وهذا هو الأصل ، وتخفيف الياء طارىء عليه ، والعامل في نصبها { حرم } ، وقرأت فرقة : «الميتةُ » ، بالرفع على أن تكون { ما } بمعنى الذي .

قال القاضي أبو محمد : وكون { ما } متصلة ب { إن } يضعف هذا ويحكم بأنها حاصرة و { ما } كافة ، وإذا كانت بمعنى الذي فيجب أن تكون منفصلة ، وذلك خلاف خط المصحف ، وقرأ الجمهور : «حرم » ، على معنى حرم الله ، وقرأت فرقة : «حُرِّم » ، على ما لم يسم فاعله ، وهذا برفع «الميتةُ » ولا بد .

قال القاضي أبو محمد : و { الميتة } المحرمة هي ما مات من حيوان البر الذي له نفس سائلة حتف أنفه ، وأما ما ليس له نفس سائلة كالجراد والبراغيث والذباب ودود التين وحيوان الفول ، وما مات من الحوت حتف أنفه وطفا على الماء ، ففيه قولان في المذهب ، وما مات حتف أنفه من الحيوان الذي يعيش في الماء وفي البر كالسلاحف ونحوها ، ففيه قولان ، والمنع هنا أظهر إلا أن يكون الغالب عليه العيش في الماء . { والدم } المحرم هو المنسفح الذي يسيل إن ترك مفرداً ، وأما ما خالط اللحم وسكن فيه فحلال طبخ ذلك اللحم فيه ، ولا يكلف أحد تتبعه ، ودم الحوت مختلف فيه وإن كان ينسفح لو ترك ، { ولحم الخنزير } ، هو معظمه والمقصود الأظهر فيه ، فلذلك خصه بالذكر ، وأجمعت الأمة على تحريم شحمه وغضاريفه ، ومن تخصيصه استدلت فرقة على جواز الانتفاع بجلده إذا دبغ ولبسه ، والأولى تحريمه جملة ، وأما شعره فالانتفاع به مباح ، وقالت فرقة ذلك غير جائز ، والأول أرجح ، وقوله : { وما أهل لغير الله به } ، يريد كل ما نوي بذبحه غير التقرب إلى الله والقرب إلى سواه ، وسواء تكلم بذلك على الذبيحة أو لم يتكلم ، لكن خَرجت العبارة عن ذلك ب { أهلّ } ، ومعناه صحيح على عادة العرب وقصد الغض منها ، وذلك أنها كانت إذا ساقت ذبيحة إلى صنم جهرت باسم ذلك الصنم وصاحت به ، وقوله : { فمن اضطر } ، قالت فرقة : معناه أكره ، وقال الجمهور : معناه اضطره جوع واحتياج ، وقرأت فرقة : «فمنُ » ، بضم النون ، «اضطُر » بضم الطاء ، وقرأت فرقة : «فمنِ » ، بكسر النون ، «اضطِر » بكسر الطاء ، على أن الأصل اضطرت ، فنقلت حركة الراء إلى الطاء وأدغمت الراء في الراء ، وقالت فرقة : «الباغي » : صاحب البغي على الإمام ، أو في قطع الطريق ، وبالجملة في سفر المعاصي ، و «العادي » بمعناه في أنه ينوي المعصية ، وقال الجمهور : { غير باغ } معناه غير مستعمل لهذه المحرمات مع وجود غيرها ، { ولا عاد } معناه لا يعدو حدود الله في هذا ، وهذا القول أرجح وأعم في الرخصة ، وقالت فرقة : { باغ } و { عاد } في الشبع والتزود ، واختلف الناس في صورة الأكل من الميتة ، فقالت فرقة : الجائز من ذلك ما يمسك الرمق فقط ، وقالت فرقة : بل يجوز الشبع التام ، وقالت فرقة منهم مالك رحمه الله : يجوز الشبع والتزود ، وقال بعض النحويين في قوله : { عاد } ، إنه مقلوب من عائد ، فهو كشاكي السلاح وكيوم راح ، وكقول الشاعر : لأن بها الأشياء والعنبري ، وقوله : { فإن الله غفور رحيم } ، لفظ يقتضي منه الإباحة للمضطر ، وخرجت الإباحة في هذه الألفاظ تحرجاً وتضييقاً في أمرها ليدل الكلام على عظم الخطر في هذه المحرمات ، فغاية هذا المرخص له غفران الله له ، وحطه عنه ما كان يلحقه من الإثم لولا ضرورته . قال القاضي أبو محمد : وهذا التحريم الذي ذكرناه يفهمه الفصحاء من اللفظ ، وليس في المعنى منه شيء ، وإنما هو إيماء ، وكذلك جعل في موضع آخر غايته أن لا إثم عليه ، وإن كان لا إثم عليه{[7437]} . وقوله هو له مباح يرجعان إلى معنى واحد فإن في هيئة اللفظين خلافاً .


[7437]:هذا الموضع هو قوله تعالى في الآية (173) من سورة (البقرة): {إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير و ما أهل لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم}.