{ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( 115 ) }
{ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنزِيرِ وَ } حرم الله { مَآ أُهِلَّ } ، أي : ما رفع الصوت { لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ } ، سواء كان صنما أو وثنا أو نصبا ، أو روحا خبيثا من جن ، أو روحا طيبا من إنس ، كالنبي والولي والصالح ، حيا كان أو ميتا فهو حرام .
وقد ورد في الحديث : ( ملعون من ذبح لغير الله ) {[1067]} ، سواء سمى الله عند ذبحه أو لم يسم ؛ لأن ما اشتهر لغيره سبحانه وتعالى ورفع به الصوت باسم الفلاني لا ينفع بعد ذلك ذكر الله تعالى عند ذبحه ؛ لأن هذا الحيوان قد انتسب إلى ذلك الغير ، وحدث فيه من الخبث ما زاد على خبث الميتة ، فإنها لم يذكر عليها اسم الله ، وهذا الحيوان قد عين روحه لغير خالقه ثم ذبح له ، وهو الشرك بعينه ، وحين سرى هذا الخبث وأثر فيه لا يحل بحال وإن ذكر اسم الله عليه ، كما لو ذبح الكلب أو الخنزير على اسمه سبحانه وتعالى لا يحل .
والسر في ذلك أن نذر الروح لغير خالق الروح لا يجوز ، وإن كان حكم جميع المأكولات والمشروبات والأموال المنذورة للتقرب إلى الله سبحانه هكذا فإنها شرك وحرام ، ولكن ثوابها الذي كان يعود إلى الناذر جاز جعله للغير كما جاز للإنسان أن يعطي ماله من شاء ، بخلاف روح الحيوان ، فإنه ليس بمملوك للإنسان حتى يعطيه لأحد غير الله ، وإنما وجب الأجر في إنفاق المال ؛ لأن المال شيء ينتفع به الحال .
ولما كان الموتى لا ينتفعون بعين المال جعل طريق إيصال النفع إليهم أن تجعل الأموال المعطاة لأهل الاستحقاق لهم ، فيعود ثوابها إليهم ، وأما روح الحيوان فلا يصلح للانتفاع في حياة الإنسان ، فكيف بعد مماته ومضي الأزمان .
وأما الأضحية عن الميت التي ورد بها الحديث ، فمعناها أن الأجر الذي كاد يثبت في إزهاق الروح لله سبحانه وتعالى يعطى لذلك الميت ، لا أنه يذبح لأجله ويرفع به الصوت للتقرب إليه .
وهذه الآية الكريمة جاءت في أربعة مواضع من التنزيل ، ومعناها : ما رفع به الصوت لغير الله لا ما ذبح باسم غير الله ، فمن رفع الصوت بحيوان لغيره تعالى ، ثم ذكر اسم الله عند ذبحه لا ينجع له هذا الذكر شيئا ولا يأتي بفائدة ولا يعود بعائدة ، ولا يحل أكله بهذا الذكر عند الذبح . وإنما الإهلال في لغة العرب بمعنى رفع الصوت لا بمعنى الذبح .
كيف ولم يرد به عرف ولا وقع في شعر قط ، هذه كتب اللسان العربي ودفاتر اللغات على وجه البسيطة ليس في أحد منها الإهلال بمعنى الذبح ، وإنما يقال الإهلال لرؤية الهلال ، ولبكاء الطفل ، وللتلبية بالحج لا للذبح ، فليس معنى أهللت لله ذبحت له ، في القاموس : استهل الصبي : رفع صوته بالبكاء ، كأهل ، وكذا كل متكلم رفع صوته أو خفض ، وأهل : نظر الهلال ، والملبي : رفع صوته بالتلبية .
وقال الجوهري : استهل الصبي ، أي : صاح عند الولادة ، وأهل لغير المعتمر : إذا رفع صوته بالتلبية ، وأهل بالتسمية على الذبيحة ، وقوله تعالى : { وما أهل لغير الله به } أي : نودي عليه بغير اسم الله ، وأصله رفع الصوت ، انتهى .
ولو سلم أن معناه ذبح لغير الله فأين هذا من معنى ذبح باسم غير الله حتى تنتهض به الحجة ، فالقول بأن الإهلال في هذه الآية ونظائرها بمعنى الذبح ، وغير الله بمعنى : اسم غير الله ، يقرب بتحريف كلامه سبحانه وتعالى حاشاه عن ذلك .
وقد حكى النظام النيسابوري في تفسيره إجماع أهل العلم على أن ذبيحة المسلم التي قصد بذبحها التقرب إلى غير الله ذبيحة مرتد ، وقد صار هو مرتدا أيضا . وكان الكفار في الجاهلية إذا خرجوا من ديارهم رفعوا الأصوات بأسماء الأصنام في الطرق والشوارع ، وإذا وصلوا إلى مكة المكرمة طافوا الكعبة ، مع أن طوافهم هذا لم يكن يقبل عند الله ، ولهذا نزل قوله تعالى : { فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } .
فكذلك فيما نحن فيه إذا رفع أحد الصوت بحيوان أنه لفلان أو لأجله ، أو يذبح له ، ثم ذكر عليه اسم الله عند الذبح ، فها هنا لا تترتب عليه الحلية أصلا ، نعم أن يغير النية ويبدل الأمنية ويزيل قصد التقرب به إلى غير الله ، ويرفع به الصوت خلاف ما رفع به أولا ويقول تبت عنه ، ثم يذبح ويذكر عليه اسم الله تعالى يحل أكله .
وإذا تقرر لك أن الإهلال بمعنى رفع الصوت في اللغة لا بمعنى الذبح علمت أن الذي فسره بالذبح قد غلط بينا ، أو تجوز ولا يصار إلى المجاز إلا عند تعدد الحقيقة ، أو تأول رفع الصوت بالذبح بناء على سبب النزول ، وإنما العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
وقد فسرنا الإهلال في البقرة والمائدة والأنعام بما فسر به جمهور المفسرين وهو تسامح سبق به القلم ، وإنما الحق في المقام تفسيره برفع الصوت والغاء قيد الذبح ليتناول النظم الكريم كل حيوان رفع به الصوت لغير الله سبحانه وتعالى ، سواء ذبح باسم الله أو باسم غيره ، وعليه تدل اللغة العربية ، وهي الأصل المقدم في تفسير كلام الله العزيز على الجميع ما لم يعارضه نص مقدم ، أو ناقل مرجح ، أو دليل مساو ، والذي فسرنا به الآية هنا قد فسرها به الشيخ عبد العزيز المحدث الدهلوي رحمه الله في تفسيره ، وهو الصواب وبالله التوفيق .
ثم ذكر سبحانه الرخصة في تناول شيء مما ذكر فقال : { فَمَنِ اضْطُرَّ } ، أي : دعته ضرورة المخمصة إلى تناول شيء من ذلك حال كونه { غَيْرَ بَاغٍ } على مضطر آخر ، { وَلاَ عَادٍ } ، متعد قدر الضرورة وسد الرمق ، { فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ، لا يؤاخذه بذلك ، وقيل : معناه : غير باغ على الوالي ، ولا متعد على الناس بالخروج لقطع الطريق ، فعلى هذا لا يباح تناول شيء من المحرمات في سفر المعصية .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.