فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحۡمَ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيۡرِ ٱللَّهِ بِهِۦۖ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (115)

{ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( 115 ) }

{ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنزِيرِ وَ } حرم الله { مَآ أُهِلَّ } ، أي : ما رفع الصوت { لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ } ، سواء كان صنما أو وثنا أو نصبا ، أو روحا خبيثا من جن ، أو روحا طيبا من إنس ، كالنبي والولي والصالح ، حيا كان أو ميتا فهو حرام .

وقد ورد في الحديث : ( ملعون من ذبح لغير الله ) {[1067]} ، سواء سمى الله عند ذبحه أو لم يسم ؛ لأن ما اشتهر لغيره سبحانه وتعالى ورفع به الصوت باسم الفلاني لا ينفع بعد ذلك ذكر الله تعالى عند ذبحه ؛ لأن هذا الحيوان قد انتسب إلى ذلك الغير ، وحدث فيه من الخبث ما زاد على خبث الميتة ، فإنها لم يذكر عليها اسم الله ، وهذا الحيوان قد عين روحه لغير خالقه ثم ذبح له ، وهو الشرك بعينه ، وحين سرى هذا الخبث وأثر فيه لا يحل بحال وإن ذكر اسم الله عليه ، كما لو ذبح الكلب أو الخنزير على اسمه سبحانه وتعالى لا يحل .

والسر في ذلك أن نذر الروح لغير خالق الروح لا يجوز ، وإن كان حكم جميع المأكولات والمشروبات والأموال المنذورة للتقرب إلى الله سبحانه هكذا فإنها شرك وحرام ، ولكن ثوابها الذي كان يعود إلى الناذر جاز جعله للغير كما جاز للإنسان أن يعطي ماله من شاء ، بخلاف روح الحيوان ، فإنه ليس بمملوك للإنسان حتى يعطيه لأحد غير الله ، وإنما وجب الأجر في إنفاق المال ؛ لأن المال شيء ينتفع به الحال .

ولما كان الموتى لا ينتفعون بعين المال جعل طريق إيصال النفع إليهم أن تجعل الأموال المعطاة لأهل الاستحقاق لهم ، فيعود ثوابها إليهم ، وأما روح الحيوان فلا يصلح للانتفاع في حياة الإنسان ، فكيف بعد مماته ومضي الأزمان .

وأما الأضحية عن الميت التي ورد بها الحديث ، فمعناها أن الأجر الذي كاد يثبت في إزهاق الروح لله سبحانه وتعالى يعطى لذلك الميت ، لا أنه يذبح لأجله ويرفع به الصوت للتقرب إليه .

وهذه الآية الكريمة جاءت في أربعة مواضع من التنزيل ، ومعناها : ما رفع به الصوت لغير الله لا ما ذبح باسم غير الله ، فمن رفع الصوت بحيوان لغيره تعالى ، ثم ذكر اسم الله عند ذبحه لا ينجع له هذا الذكر شيئا ولا يأتي بفائدة ولا يعود بعائدة ، ولا يحل أكله بهذا الذكر عند الذبح . وإنما الإهلال في لغة العرب بمعنى رفع الصوت لا بمعنى الذبح .

كيف ولم يرد به عرف ولا وقع في شعر قط ، هذه كتب اللسان العربي ودفاتر اللغات على وجه البسيطة ليس في أحد منها الإهلال بمعنى الذبح ، وإنما يقال الإهلال لرؤية الهلال ، ولبكاء الطفل ، وللتلبية بالحج لا للذبح ، فليس معنى أهللت لله ذبحت له ، في القاموس : استهل الصبي : رفع صوته بالبكاء ، كأهل ، وكذا كل متكلم رفع صوته أو خفض ، وأهل : نظر الهلال ، والملبي : رفع صوته بالتلبية .

وقال الجوهري : استهل الصبي ، أي : صاح عند الولادة ، وأهل لغير المعتمر : إذا رفع صوته بالتلبية ، وأهل بالتسمية على الذبيحة ، وقوله تعالى : { وما أهل لغير الله به } أي : نودي عليه بغير اسم الله ، وأصله رفع الصوت ، انتهى .

ولو سلم أن معناه ذبح لغير الله فأين هذا من معنى ذبح باسم غير الله حتى تنتهض به الحجة ، فالقول بأن الإهلال في هذه الآية ونظائرها بمعنى الذبح ، وغير الله بمعنى : اسم غير الله ، يقرب بتحريف كلامه سبحانه وتعالى حاشاه عن ذلك .

وقد حكى النظام النيسابوري في تفسيره إجماع أهل العلم على أن ذبيحة المسلم التي قصد بذبحها التقرب إلى غير الله ذبيحة مرتد ، وقد صار هو مرتدا أيضا . وكان الكفار في الجاهلية إذا خرجوا من ديارهم رفعوا الأصوات بأسماء الأصنام في الطرق والشوارع ، وإذا وصلوا إلى مكة المكرمة طافوا الكعبة ، مع أن طوافهم هذا لم يكن يقبل عند الله ، ولهذا نزل قوله تعالى : { فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } .

فكذلك فيما نحن فيه إذا رفع أحد الصوت بحيوان أنه لفلان أو لأجله ، أو يذبح له ، ثم ذكر عليه اسم الله عند الذبح ، فها هنا لا تترتب عليه الحلية أصلا ، نعم أن يغير النية ويبدل الأمنية ويزيل قصد التقرب به إلى غير الله ، ويرفع به الصوت خلاف ما رفع به أولا ويقول تبت عنه ، ثم يذبح ويذكر عليه اسم الله تعالى يحل أكله .

وإذا تقرر لك أن الإهلال بمعنى رفع الصوت في اللغة لا بمعنى الذبح علمت أن الذي فسره بالذبح قد غلط بينا ، أو تجوز ولا يصار إلى المجاز إلا عند تعدد الحقيقة ، أو تأول رفع الصوت بالذبح بناء على سبب النزول ، وإنما العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .

وقد فسرنا الإهلال في البقرة والمائدة والأنعام بما فسر به جمهور المفسرين وهو تسامح سبق به القلم ، وإنما الحق في المقام تفسيره برفع الصوت والغاء قيد الذبح ليتناول النظم الكريم كل حيوان رفع به الصوت لغير الله سبحانه وتعالى ، سواء ذبح باسم الله أو باسم غيره ، وعليه تدل اللغة العربية ، وهي الأصل المقدم في تفسير كلام الله العزيز على الجميع ما لم يعارضه نص مقدم ، أو ناقل مرجح ، أو دليل مساو ، والذي فسرنا به الآية هنا قد فسرها به الشيخ عبد العزيز المحدث الدهلوي رحمه الله في تفسيره ، وهو الصواب وبالله التوفيق .

ثم ذكر سبحانه الرخصة في تناول شيء مما ذكر فقال : { فَمَنِ اضْطُرَّ } ، أي : دعته ضرورة المخمصة إلى تناول شيء من ذلك حال كونه { غَيْرَ بَاغٍ } على مضطر آخر ، { وَلاَ عَادٍ } ، متعد قدر الضرورة وسد الرمق ، { فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ، لا يؤاخذه بذلك ، وقيل : معناه : غير باغ على الوالي ، ولا متعد على الناس بالخروج لقطع الطريق ، فعلى هذا لا يباح تناول شيء من المحرمات في سفر المعصية .


[1067]:أحمد بن حنبل 1 / 217.