قوله تعالى : { نحن أعلم بما يستمعون به } ، قيل : به صلة ، أي : يطلبون سماعه ، { إذ يستمعون إليك } ، وأنت تقرأ القرآن ، { وإذ هم نجوى } ، يتناجون في أمرك . وقيل : ذوو نجوى ، فبعضهم يقول : هذا مجنون ، وبعضهم يقول : كاهن ، وبعضهم يقول : ساحر ، وبعضهم يقول : شاعر . { إذ يقول الظالمون } ، يعني : الوليد بن المغيرة وأصحابه ، { إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً } ، مطبوباً . وقال مجاهد : مخدوعاً . وقيل : مصروفاً عن الحق . يقال : ما سحرك عن كذا أي ما صرفك ؟ وقال أبو عبيدة : أي رجلاً له سحر ، والسحر :الرئة أي : إنه بشر مثلكم معلل بالطعام والشراب يأكل ويشرب قال الشاعر :
ولقد كانت الفطرة تدفعهم إلى التسمع والتأثر ؛ والكبرياء تدفعهم عن التسليم والإذعان ؛ فيطلقون التهم على الرسول [ ص ] يعتذرون بها عن المكابرة والعناد :
( إذ يقول الظالمون : إن تتبعون إلا رجلا مسحورا ) . .
وهذه الكلمة ذاتها تحمل في ثناياها دليل تأثرهم بالقرآن ؛ فهم يستكثرون في دخيلتهم أن يكون هذا قول بشر ؛ لأنهم يحسون فيه شيئا غير بشري . ويحسون دبيبه الخفي في مشاعرهم فينسبون قائله إلى السحر ، يرجعون إليه هذه الغرابة في قوله ، وهذا التميز في حديثه ، وهذا التفوق في نظمه . فمحمد إذن لا ينطق عن نفسه ، إنما ينطق عن السحر بقوة غير قوة البشر ! ولو أنصفوا لقالوا : إنه من عند الله ، فما يمكن أن يقول هذا إنسان ، ولا خلق آخر من خلق الله .
يخبر تعالى نبيه - صلوات الله [ وسلامه ]{[17569]} عليه - بما تناجى به رؤساء كفار قريش ، حين جاءوا يستمعون قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم سرًا من قومهم ، بما قالوا من أنه رجل مسحور ، من السّحر على المشهور ، أو من " السَّحْر " ، وهو الرئة ، أي : إن تتبعون - إن اتبعتم محمدًا - { إِلا بَشَرًا } يأكل [ ويشرب ]{[17570]} ، كما قال الشاعر{[17571]} :
فَإن تَسألينا فيم نَحْنُ فَإنَّنا *** عصافيرُ مِنْ هَذا الأنَام المُسَحَّر
وقال الراجز{[17572]}
ونُسْحَر{[17573]} بالطَّعام وبالشراب
أي : نُغذى : وقد صوب هذا القول ابنُ جرير ، وفيه نظر ؛ لأنهم إنما أرادوا هاهنا أنه مسحور له رئي يأتيه بما استمعوه من الكلام الذي يتلوه ومنهم من قال : " شاعر " ، ومنهم من قال : " كاهن " ، ومنهم من قال : " مجنون " ، ومنهم من قال : " ساحر " ؛ ولهذا قال تعالى : { انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا }
{ نحن أعلم بما يستمعون به } بسببه ولأجله من الهزء بك وبالقرآن . { إذ يستمعون إليك } ظرف ل { أعلم } وكذا . { وإذ هم نجوى } أي نحن أعلم بغرضهم من الاستماع حين هم مستمعون إليك مضمرون له وحين هم ذوو نجوى يتناجون به ، و{ نجوى } مصدر ويحتمل أن يكون جمع نجى . { إذ يقول الظالمون أن تتّبعون إلا رجلا مسحورا } مقدر باذكر ، أو بدل من { إذ هم نجوى } على وضع { الظالمون } موضع الضمير للدلالة على أن تناجيهم بقولهم هذا من باب الظلم ، والمسحور هو الذي سُحر فزال عقله . وقيل الذي له سحر وهو الرئة أي إلا رجلا يتنفس ويأكل ويشرب مثلكم .
وقوله { نحن أعلم بما يستمعون به } الآية ، هذا كما تقول فلان يستمع بحرص وإقبال ، أو بإعراض وتغافل واستخفاف ، فالضمير في { به } عائد على { ما } ، وهي بمعنى الذي ، والمراد بالذي ما ذكرناه من الاستخفاف والإعراض ، فكأنه قال : نحن أعلم بالاستخفاف والاستهزاء الذي يستمعون به ، أي هو ملازمهم ، ففضح الله بهذه الآية سرهم ، والعامل في { إذ } الأولى وفي المعطوفة عليها { يستمعون } الأول ، وقوله { وإذ هم نجوى } وصفهم بالمصدر ، كما قالوا : قوم رضى وعدل ، وقيل المراد بقوله : { وإذ هم نجوى } اجتماعهم في دار الندوة ثم انتشرت عنهم ، وقوله { مسحوراً } الظاهر فيه أن يكون من السحر ، فشبهوا الخبال الذي عنده بزعمهم ، وأقواله الوخيمة برأيهم ، بما يكون من المسحور الذي قد خبل السحر عقله وأفسد كلامه ، وتكون الآية على هذا شبيهة بقول بعضهم { به جنة } [ المؤمنون : 25 ] ونحو هذا ، وقال أبو عبيدة : { مسحوراً } معناه ذا سحر ، وهي الرية يقال لها سحر وسُحر بضم السين ، ومنه قول عائشة رضي الله عنها : توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سحري ونحري{[7585]} ومنه قولهم للجبان : انتفخ سحره ، لأن الفازع تنتفخ ريته ، فكأن مقصد الكفار بهذا التنبيه على أنه بشر أي ذا رية ، قال : ومن هذا يقال لكل من يأكل ويشرب من آدمي وغيره : مسحور ومسحر ، ومنه قول امرىء القيس : [ الوافر ]
ونسحر بالطعام وبالشراب{[7586]} . . . وقول لبيد : بالطويل ]
فإن تسألينا فيمَ نَحْنُ فإننا . . . عصافيرُ من هذا الأنام المسحَّر{[7587]}
ومنه السحور ، وهو إلى هذه اللفظة أقرب منه إلى السحر ، ويشبه أن يكون من السحر ، كالصبوح من الصباح ، والآية التي بعد هذا تقوي أن اللفظة التي في الآية من السِّحر ، بكسر السين ( . . . . . . ){[7588]} ، لأن حينئذ في قولهم ضرب مثل له وأما على أنها من السحر الذي هو الرية ومن التغذي وأن تكون الإشارة إلى أنه بشر فلم يضرب له في ذلك مثل بل هي صفة حقيقة له .