اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{نَّحۡنُ أَعۡلَمُ بِمَا يَسۡتَمِعُونَ بِهِۦٓ إِذۡ يَسۡتَمِعُونَ إِلَيۡكَ وَإِذۡ هُمۡ نَجۡوَىٰٓ إِذۡ يَقُولُ ٱلظَّـٰلِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلٗا مَّسۡحُورًا} (47)

قوله تعالى : { بِمَا يَسْتَمِعُونَ } : الباء في " بما " متعلق ب " أعْلَمُ " . وما كان من باب العلم والجهل في أفعل التفضيل ، وأفعل في التعجب تعدَّى بالباء ؛ نحو : أنت أعلمُ به ، وما أَعلمك به ! ! وهو أجهل به ، وما أجهله به ! ! ومن غيرهما يتعدَّى في البابين باللام ؛ نحو : أنت أكسى للفقراء ، و " مَا " بمعنى الذي ، وهي عبارةٌ عن الاستخفاف والإعراض ، فكأنه قال : نحن أعلم بالاستخفاف ، والاستهزاءِ الذي يستمعون به ، قاله ابن عطيَّة .

قوله : " به " فيه أوجه{[20459]} :

أحدها : أنه حال ، فيتعلق بمحذوف .

قال الزمخشري : " وبه في موضع الحالِ ، كما تقول : يستمعون بالهزءِ ، أي : هازئين " .

الثاني : أنها بمعنى اللامِ ، أي : بما يستمعون له .

الثالث : أنها على بابها ، أي : يستمعون بقلوبهم أو بظاهر أسماعهم ، قالهما أبو البقاء .

الرابع : قال الحوفيُّ : " لم يقلْ يستمعونه ، ولا يستمعونك ؛ لمَّا كان الغرضُ ليس الإخبار عن الاستماعِ فقط ، وكان مضمَّناً أنَّ الاستماع كان على طريق الهزء بأن يقولوا : مجنونٌ أو مسحورٌ ، جاء الاستماع بالباء وإلى ، ليعلم أنَّ الاستماع ليس المراد به تفهُّم المسموعِ دون هذا المقصد " فعلى هذا أيضا تتعلَّق الباء ب " يَسْتمِعُونَ " .

قوله تعالى : { إِذْ يَسْتَمِعُونَ } فيه وجهان :

أحدهما : أنه معمولٌ ل " أعْلَمُ " . قال الزمخشري : " إذ يستمعون نصب ب " أعْلَمُ " أي : أعلم وقت استماعهم بما به يستمعون ، وبما يتناجون ؛ إذ هم ذوو نجوى " .

والثاني : أنه منصوبٌ ب " يَسْتمِعُونَ " الأولى .

قال ابن عطيَّة - رحمه الله - : " والعامل في " إذ " الأولى ، وفي المعطوف " يَسْتمِعُونَ " الأولى " .

وقال الحوفيُّ : و " إذ " الأولى تتعلق ب " يَسْتمِعُونَ " وكذا " وإذْ هُمْ نجْوَى " لأن المعنى : نحن أعلم بالذي يستمعون إليك ، وإلى قراءتك وكلامك ، إنما يستمعون لسقطك ، وتتبُّع عيبك ، والتماسِ ما يطعنون به عليك ، يعني في زعمهم ؛ ولهذا ذكر تعديتهُ بالباء و " إلى " .

قوله - عز وجل- : " نَجْوَى " يجوز أن يكون مصدراً ، فيكون من إطلاق المصدر على العين مبالغة ، أو على حذف مضاف ، أي : ذوو نجوى ، كما قاله الزمخشري ، ويجوز أن يكون جمع نجيِّ ، كقتيلٍ وقتلى ، قاله أبو البقاء .

قوله تعالى : { إِذْ يَقُولُ } بدل من " إذ " الأولى في أحد القولين ، والقول الآخر : أنَّها معمولة ل " اذْكُرْ " مقدَّراً .

قوله تعالى : " مَسْحُوراً " الظاهر أنَّه اسم مفعول من " السِّحرِ " بكسر السين ، أي : مخبول العقل ، أو مخدوعه ، وقال أبو عبيدة : معناه أنَّ له سَحْراً ، أي : رئة بمعنى أنه لا يستغني عن الطَّعام والشَّراب ، فهو بشرٌ مثلكم ، وتقول العرب للجبان : " قد انتفخَ سَحرهُ " بفتح السين ، ولكلِّ من أكل وشرب : مسحورٌ ، ومسحرٌ ، فمن الأول قول امرئ القيس : [ الوافر ]

أرَانَا مُوضَعِينَ لأمْرِ غَيْبٍ *** ونُسْحَرُ بالطَّعامِ وبالشَّرابِ{[20460]}

أي : نُغذَّى ونُعَلَّلُ ، ومن الثاني قول لبيدٍ : [ الطويل ]

فَإنْ تَسْألِينَا فيمَ نَحْنُ فَإنَّنَا *** عَصَافِيرُ مِنْ هذا الأنَامِ المُسحَّرِ{[20461]}

وردَّ الناس على أبي عبيدة قوله ؛ لبعده لفظاً ومعنًى . قال ابن قتيبة : " لا أدري ما الذي حمل أبا عبيدة على هذا التَّفسير المستكرهِ مع ما فسَّره السَّلف بالوجوهِ الواضحة " .

قال شهاب الدين : وأيضاً فإن " السَّحْر " الذي هو الرِّئة لم يضرب له فيه مثلٌ ؛ بخلاف " السِّحْر " فإنهم ضربوا له فيه المثل ، فما بعد الآية من قوله { انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال } [ الإسراء : 48 ] لا يناسب إلا " السِّحْر " بالكسرِ .

فصل في معنى قوله : { نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ } .

قال المفسرون : معنى الآية { نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ } أي يطلبون سماعه ، { إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ } وأنت تقرأ القرآن ، { وَإِذْ هُمْ نجوى } يتناجون في أمرك ، فبعضهم يقول : هذا مجنونٌ ، وبعضهم يقول : شاعرٌ { إِذْ يَقُولُ الظالمون } يعني الوليد بن المغيرة وأصحابه : { إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً } مطبوباً .

وقال مجاهد - رحمه الله- : مخدوعاً{[20462]} ؛ لأنَّ السِّحر حيلة وخديعة ، وذلك لأنَّ المشركين كانوا يقولون : إنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم يتعلَّم من بعض النَّاس هذه الكلمات ، وأولئك النَّاس يخدعونه بهذه الكلمات ، فلذلك قالوا : " مَسْحُوراً " أي : مخدوعاً .

وأيضاً : كانوا يقولون : إنَّ الشيطان يتخيَّل له ، فيظنُّ أنه ملكٌ ، فقالوا : إنه مخدوع من قبل الشَّيطان .

وقيل : مصروفاً عن الحقِّ{[20463]} ، يقال : ما سحرك عن كذا ، أي : ما صرفك ، وقيل : المسحور هو الشَّيء المفسود ، يقال : طعام مسحور ، إذا فسد ، وأرض مسحورة ، إذا أصابها من المطر أكثر ممَّا ينبغي فأفسدها .

فإن قيل : إنَّهم لم يتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف يصحُّ أن يقولوا : { إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً } .

فالجواب أنَّ معناه : إن اتَّبعْتُموهُ ، فقد اتَّبعْتُمْ رجلاً مسحوراً .


[20459]:في ب: وجهان.
[20460]:تقدم.
[20461]:ينظر: ديوانه 71، مجاز القرآن 1/381، الطبري 2/31، روح المعاني 15/90، الدر المصون 4/397 اللسان [سحر].
[20462]:ذكره البغوي في "تفسيره" (3/118).
[20463]:ينظر: المصدر السابق.