واللمسة الثالثة تشير إلى الحق الأصيل الكامن في طبيعة الوجود ، الذي تقوم به السماوات والأرض ، كما تشير إلى صنعة الله المبدعة في كيان المخلوق الإنساني . وتقرر رجعة الجميع إليه في نهاية المطاف :
( خلق السماوات والأرض بالحق ، وصوركم فأحسن صوركم ، وإليه المصير ) . .
وصدر هذا النص : ( خلق السماوات والأرض بالحق ) . . يقر في شعور المؤمن أن الحق أصيل في كيان هذا الكون ، ليس عارضا وليس نافلة ؛ فبناء الكون قام على هذا الأساس . والذي يقرر هذه الحقيقة هو الله الذي خلق السماوات والأرض ، والذي يعلم على أي أساس قامتا . واستقرار هذه الحقيقة في الحس يمنحه الطمأنينة والثقة في الحق الذي يقوم عليه دينه ، ويقوم عليه الوجود من حوله ؛ فهو لا بد ظاهر ، ولا بد باق ، ولا بد مستقر في النهاية بعد زبد الباطل !
والحقيقة الثانية : ( وصوركم فأحسن صوركم ) . . تشعر الإنسان بكرامته على الله ، وبفضل الله عليه في تحسين صورته : صورته الخلقية وصورته الشعورية . فالإنسان هو أكمل الأحياء في الأرض من ناحية تكوينه الجثماني ؛ كما أنه أرقاها من ناحية تكوينه الشعوري واستعداداته الروحية ذات الأسرار العجيبة . ومن ثم وكلت إليه خلافة الأرض ، وأقيم في هذا الملك العريض بالقياس إليه !
ونظرة فاحصة إلى الهندسة العامة لتركيب الإنسان ، أو إلى أي جهاز من أجهزته ، تثبت تلك الحقيقة وتجسمها : ( وصوركم فأحسن صوركم ) . . وهي هندسة يجتمع فيها الجمال إلى الكمال . ويتفاوت الجمال بين شكل وشكل . ولكن التصميم في ذاته جميل وكامل الصنعة ، وواف بكل الوظائف والخصائص التي يتفوق بها الإنسان في الأرض على سائر الأحياء .
( وإليه المصير ) . . مصير كل شيء وكل أمر وكل خلق . . مصير هذا الكون ومصير هذا الإنسان . فمن إرادته انبثق ، وإليه - سبحانه - يعود . ومنه المنشأ وإليه المصير . وهو الأول والآخر . المحيط بكل شيء من طرفيه : مبدئه ونهايته . وهو - سبحانه - غير محدود !
ثم قال : { خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ } أي : بالعدل والحكمة ، { وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } أي : أحسن أشكالكم ، كقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ } [ الانفطار : 6 - 8 ]
وكقوله : { اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ } الآية [ غافر : 64 ] وقوله : { وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } أي : المرجع والمآب .
وقرأ جمهور الناس : «صُوركم » بضم الصاد ، وقرأ أبو رزين : «صِوركم » بكسرها ، وهذا تعديد النعمة في حسن الخلقة ، لأن أعضاء ابن آدم متصرفة لجميع ما تتصرف به أعضاء الحيوان ، وبزيادات كثيرة فضل بها ثم هو مفضل بحسن الوجه ، وجمال الجوارح ، وحجة هذا قوله تعالى : { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم }{[11136]} [ التين : 4 ] ، وقال بعض العلماء : النعمة المعددة هنا إنما هي صورة الإنسان من حيث هو إنسان مدرك عاقل ، فهذا هو الذي حسن له حتى لحق ذلك كمالات كثيرة .
قال القاضي أبو محمد : والقول الأول أحرى في لغة العرب ، لأنها لا تعرف الصور إلا الشكل ، وذكر تعالى علمه بما في السماوات والأرض ، فعم عظام المخلوقات .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.