وتدبيره الخفي المغيب على البشر . . ليتقوه ويحذروه . .
( فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ) . .
فما وراء الأمن والغفلة والاستهتار إلا الخسار . وما يغفل عن مكر الله هكذا إلا الذين يستحقون هذا الخسار ! أفأمنوا مكر الله ؛ وهم يرثون الأرض من بعد أهلها الذاهبين ، الذين هلكوا بذنوبهم ، وجنت عليهم غفلتهم ؟ أما كانت مصارع الغابرين تهديهم وتنير لهم طريقهم ؟
يقول تعالى ذكره : أفأمن يا محمد هؤلاء الذين يكذّبون الله ورسوله ويجحدون آياته ، استدراج الله إياهم بما أنعم به عليهم في دنياهم من صحة الأبدان ورخاء العيش ، كما استدرج الذين قصّ عليهم قصصهم من الأمم قبلهم ، فإن مكر الله لا يأمنه ، يقول : لا يأمن ذلك أن يكون استدراجا مع مقامهم على كفرهم وإصرارهم على معصيتهم إلاّ القوم الخاسرون وهم الهالكون .
المعنى : { أفأمنوا } هذه أو هذا كما تقول : أجاء زيد أو عمرو وليست هذه أو التي هي للإضراب عن الأول كما تقول : أنا أقوم أو أجلس وأنت تقصد الإضراب عن القيام والإثبات للجلوس وتقريره ، وقولنا التي هي لأحد الشيئين يعم الإباحة والتخيير كقولك : جالس الحسن أو ابن سيرين أو قولك : جالس الحسن أو جالس ابن سيرين ، وقوله { يلعبون } يريد في غاية الغفلة والإعراض .
و { مكر الله } هي إضافة مخلوق إلى الخالق كما تقول : ناقة الله وبيت الله ، والمراد فعل يعاقب به مكرة الكفار ، وأضيف إلى الله لما كان عقوبة الذنب فإن العرب تسمي العقوبة على أي وجه كانت باسم الذنب الذي وقعت عليه العقوبة ، وهذا نص في قوله { ومكروا ومكر الله } ، وهذا الموضع أيضاً كان كفرهم بعد الرسالة وظهور دعوة الله مكر وخديعة واستخفاف ، وقيل عومل في مثل هذا وغيره اللفظ دون المعنى في مثل قوله { الله يستهزىء بهم } و «أن الله لا يمل حتى تملوا » وغير ذلك .
قوله : { أفأمنوا مكر الله } تكرير لقوله : { أفأمنَ أهل القرى } قصد منه تقرير التعجيب من غفلتهم ، وتقرير معنى التعريض بالسامعين من المشركين ، مع زيادة التذكير بأن ما حل بأولئك من عذاب الله يماثل هيئة مكر الماكر بالممكور فلا يحسبوا الإمهال إعراضاً عنهم ، وليحذروا أن يكون ذلك كفعل الماكر بعدوّه .
والمكر حقيقته : فعل يقصد به ضر أحد في هيئة تخفَى أو هيئة يحسبها منفعة . وهو هنا استعارة للإمهال والإنعام في حال الإمهال ، فهي تمثيلية ، شبه حال الإنعام مع الإمهال وتعقيبه بالانتقام بحال المكر ، وتقدم في سورة آل عمران ( 54 ) عند قوله : { ومكَروا ومكر الله والله خير الماكرين } وقوله : { فلا يأمن مكر الله إلاّ القوم الخاسرون } مُترتب ومتفرع عن التعجيب في قوله : { أفأمنوا مكر الله } لأن المقصود منه تفريع أن أهل القرى المذكورين خاسرون لثبوت أنهم أمنوا مكر الله ، والتقدير : أفأمنوا مكر الله فهم قوم خاسرون .
وإنما صيغ هذا التفريع بصيغة تعُم المخبَر عنهم وغيرهم ليجري مجرى المثل ويصير تذييلاً للكلام ، ويدخل فيه المعرّض بهم في هذه الموعظة وهم المشركون الحاضرون ، والتقدير : فهم قوم خاسرون ، إذ لا يأمن مكر الله إلاّ القوم الخاسرون .
والخسران هنا هو إضاعة ما فيه نفعهم بسوء اعتقادهم ، شُبه ذلك بالخسران وهو إضاعة التاجر رأس ماله بسوء تصرفه ، لأنهم باطمئنانهم إلى السلامة الحاضرة ، وإعراضهم عن التفكر فيما يعقبها من الأخذ الشبيه بفعل الماكر قد خسروا الانتفاع بعقولهم وخسروا أنفسهم .
وتقدم قوله تعالى : { الذين خسروا أنفسهم } في سورة الأنعام ( 12 ) ، وقوله : { فأولئك الذين خسروا أنفسهم } في أول السورة ( 9 ) .
وتقدم أن إطلاق المَكْر على أخذ الله مستحقي العقاب بعد إمهالهم : أن ذلك تمثيل عند قوله تعالى : { ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين } في سورة آل عمران ( 54 ) .
واعلم أن المراد بأمن مكر الله في هذه الآية هو الأمن الذي من نوع أمن أهل القرى المكذبين ، الذي ابتُدىء الحديث عنه من قوله : { وما أرسلنا في قرية من نبيء إلاّ أخذنا أهلها بالبأساء والضّراء لعلهم يضرّعون } [ الأعراف : 94 ] ثم قوله : { أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً } الآياتتِ ، وهو الأمن الناشىء عن تكذيب خبر الرسول صلى الله عليه وسلم ، وعن الغرور بأن دين الشرك هو الحق فهو أمن ناشىء عن كفر ، والمأمون منه هو وعيد الرسل إياهم وما أطلق عليه أنه مكر الله .
ومن الأمن من عذاب الله أصنْاف أخرى تُغاير هذا الأمن ، وتتقارب منه ، وتتباعد ، بحسب اختلاف ضمائر الناس ومبالغ نياتهم ، فأما ما كان منها مستنداً لدليل شرعي فلا تَبعةَ على صاحبه ، وذلك مثل أمن المسلمين من أمثال عذاب الأمم الماضية المستند إلى قوله تعالى : { وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون } [ الأنفال : 33 ] ، وإلى قول النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل قوله تعالى : { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم } فقال النبي عليه الصلاة والسلام : أعوذ بسبحات وجهك الكريم { أَوْ مِن تحت أرجلكم } فقال : " أعوذ بسبحات وجهك الكريم { أو يلبسكم شيعا } [ الأنعام : 65 ] الآية فقال : هذه أهون " كما تقدم في تفسيرها في سورة الأنعام ومثل ، أمن أهل بدر من عذاب الآخرة لقول النبي صلى الله عليه وسلم " ما يدريك لعل الله اطّلع على أهل بدر فقال : « اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " في قصة حاطب بن أبي بلتعة .
ومثل إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عبدَ الله بن سلام أنه لا يزال آخذاً بالعروة الوثقى ، ومثل الأنبياء فإنهم آمنون من مكر الله بإخبار الله إياهم بذلك ، وأولياءُ الله كذلك ، قال تعالى : { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون } [ يونس : 62 ، 63 ] فمن العجيب ما ذكره الخفاجي أن الحنفية قالوا : الأمنُ من مكر الله كفر لقوله تعالى : { فلا يأمن مكر الله إلاّ القوم الخاسرون } .
والأمنُ مجمل ومكر الله تمثيل والخسران مشكك الحقيقة . وقال الخفاجي : الأمنُ من مكر الله كبيرة عند الشافعية ، وهو الاسترسال على المعاصي اتكالاً على عفو الله وذلك مما نسبه الزركشي في « شرح جمع الجوامع » إلى ولي الدين ، وروى البزار وابن أبي حاتم عن ابن عباس : " أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل : ما الكبائر فقال : الشرك بالله واليأس من روح الله والأمنُ من مكر الله " ولم أقف على مبلغ هذا الحديث من الصحة ، وقد ذكرنا غير مرة أن ما يأتي في القرآن من الوعيد لأهل الكفر على أعمال لهم مرادٌ منه أيضاً تحذير المسلمين مما يشبه تلك الأعمال بقدر اقتراب شبهه .