وفي اختصار وإجمال يشير السياق إلى الرسل بعد نوح ، وما جاءوا به من البينات والخوارق وكيف تلقاها المكذبون الضالون :
( ثم بعثنا من بعده رسلاً إلى قومهم فجاءوهم بالبينات ، فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل ، كذلك نطبع على قلوب المعتدين ) . .
فهؤلاء الرسل جاءوا قومهم بالبينات . والنص يقول : إنهم ما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل . . وهذا يحتمل أنهم بعد مجيء الآيات ظلوا يكذبون كما كانوا قبلها يكذبون . فلم تحولهم الآيات عن عنادهم . كما يحتمل أن المكذبين جماعة واحدة على اختلاف أجيالهم ، لأنهم ذوو طبيعة واحدة . فهؤلاء ما كان يمكن أن يؤمنوا بما كذب به أسلاف لهم ، أو بما كذبوا هم به في أشخاص هؤلاء الأسلاف ! فهم منهم ، طبيعتهم واحدة ، وموقفهم تجاه البينات واحد . لا يفتحون لها قلوبهم ، ولا يتدبرونها بعقولهم . وهم معتدون متجاوزون
حد الاعتدال والاستقامة على طريق الهدى ، ذلك أنهم يعطلون مداركهم التي أعطاها اللّه لهم ليتدبروا بها ويتبينوا . وبمثل هذا التعطيل ، تغلق قلوبهم وتوصد منافذها :
( كذلك نطبع على قلوب المعتدين ) .
حسب سنة اللّه القديمة في أن القلب الذي يغلقه صاحبه ينطبع على هذا ويجمد ويتحجر ، فلا يعود صالحاً للتلقي والاستقبال . . لا أن الله يغلق هذه القلوب ليمنعها ابتداء من الاهتداء . فإنما هي السنة تتحقق مقتضياتها في جميع الأحوال .
القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَىَ قَوْمِهِمْ فَجَآءُوهُمْ بِالْبَيّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَىَ قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ } .
يقول تعالى ذكره : ثم بعثنا من بعد نوح رسلاً إلى قومهم ، فأتوهم ببينات من الحجج والأدلة على صدقهم ، وأنهم لله رسل ، وأن ما يدعونهم إليه حقّ . فما كَانُوا ليُؤْمِنُوا بما كَذّبُوا به مِنْ قَبْلُ يقول : فما كانوا ليصدّقوا بما جاءتهم به رسلهم بما كذّب به قوم نوح ومن قبلهم من الأمم الخالية من قبلهم . كذلكَ نَطْبَعُ على قُلُوبِ المُعْتَدِينَ يقول تعالى ذكره : كما طبعنا على قلوب أولئك فختمنا عليها فلم يكونوا يقبلون من أنبياء الله نصيحتهم ولا يستجيبون لدعائهم إياهم إلى ربهم بما اجترموا من الذنوب واكتسبوا من الاَثام ، كذلك نطبع على قلوب من اعتدى على ربه ، فتجاوز ما أمره به من توحيده ، وخالف ما دعاهم إليه رسلهم من طاعته ، عقوبة لهم على معصيتهم ربهم من هؤلاء الاَخرين من بعدهم .
الضمير في قوله { من بعده } عائد على نوح عليه السلام والضمير في { قومهم } عائد على الرسل ، ومعنى هذه الآيات كلها ضرب المثل لحاضري محمد صلى الله عليه وسلم ، أي كما حل بهؤلاء يحل بكم ، و { البينات } المعجزات والبراهين الواضحة ، والضمير في قوله { كانوا } وفي { ليؤمنوا } عائد على قوم الرسل ، والضمير في { كانوا } عائد على قوم نوح ، وهذا قول بعض المتأولين ، وقال بعضهم : بل تعود الثلاثة على قوم الرسل على معنى أنهم بادروا رسلهم بالتكذيب كلما جاء رسول ثم لجوا في الكفر وتمادوا فلم يكونوا ليؤمنوا بما سبق به تكذيبهم ، وقال يحيى بن سلام{[6183]} { من قبل } معناه من قبل العذاب .
قال القاضي أبو محمد : وفي هذا القول بعد ، ويحتمل اللفظ عندي معنى آخر وهو أن تكون «ما » مصدرية والمعنى فكذبوا رسلهم فكان عقابهم من الله أن لم يكونوا ليؤمنوا بتكذيبهم من قبل أي من سببه ومن جرائه{[6184]} ، ويؤيد هذا التأويل قوله { كذلك نطبع } ، وقال بعض العلماء : عقوبة التكذيب الطبع على القلوب ، وقرأ جمهور الناس : «نطبع » بالنون ، وقرأ العباس بن الفضل : «يطبع » بالياء ، وقوله { كذلك } أي هذا فعلنا بهؤلاء ، ثم ابتدأ { كذلك نطبع } أي كفعلنا هذا و { المعتدين } هم الذين تجاوزوا طورهم واجترحوا ما لا يجوز لهم وهي ها هنا في الكفر .
{ ثم } للتراخي الرتبي ، لأن بعثة رسل كثيرين إلى أمم تَلقوهم بمثل ما تلقَّى به نوحاً قومه أعجب من شأن قوم نوح حيث تمالأت تلك الأمم على طريقة واحدة من الكفر . وليست ( ثم ) لإفادة التراخي في الزمن للاستغناء عن ذلك بقوله : { من بعده } .
وقد أُبهم الرسل في هذه الآية . ووقع في آيات أخرى التصريح بأنهم : هود وصالح ، وإبراهيم ، ولوط ، وشعيب . وقد يكون هنالك رسل آخرون كما قال تعالى : { ورسلاً لم نقصصهم عليك } [ النساء : 164 ] ، ويتعين أن يكون المقصود هنا من كانوا قبل موسى لقوله : { ثم بعثنا من بعدهم موسى } [ يونس : 75 ] . وفي الآية إشارة إلى أن نوحاً أول الرسل .
والبينات : هي الحجج الواضحة الدلالة على الصدق . والفاءُ للتعقيب ، أي أظهروا لهم المعجزات بإثر إرسالهم . والباء للملابسة ، أي جاءوا قومهم مبلغين الرسالة ملابسين البينات .
وقد قوبل جمع الرسل بجمع ( البينات ) فكان صادقاً ببينات كثيرة موزعة على رسل كثيرين ، فقد يكون لكل نبيء من الأنبياء آيات كثيرة ، وقد يكون لبعض الأنبياء آية واحدة مثل آية صالح وهي الناقة .
والفاء في قوله : { فما كانوا ليؤمنوا } للتفريع ، أي فترتب على ذلك أنهم لم يؤمنوا .
وصيغ النفي بصيغة لام الجحود مبالغة في انتفاء الإيمان عنهم بأقصى أحوال الانتفاء . حتى كأنهم لم يوجدوا لأن يؤمنوا بما كذبوا به ، أي لم يتزحزحوا عنه . ودلت صيغة الجحود على أن الرسل حاولوا إيمانهم محاولة متكررة .
ودل قوله : { بما كذبوا به من قبل } أن هنالك تكذيباً بادروا به لرسلهم ، وأنهم لم يقلعوا عن تكذيبهم الذي قابلوا به الرسل ، لأن التكذيب إنما يكون لخبرِ مخبر فقوله : { فجاءهم بالبينات } مؤذن بحصول التكذيب فلما كذبوهم جاؤوهم بالبينات على صدقهم فاستمروا على التكذيب فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل . وهذا من إيجاز الحذف لجمل كثيرة . وهذا يقتضي تكرر الدعوة وتكرر البينات وإلا لما كان لقوله : { فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل } وقع لأن التكذيب الذي حصل أول مرة إذا لم يطرأ عليه ما من شأنه أن يقلعه كان تكذيباً واحداً منسياً . وهذا من بلاغة معاني القرآن .
وبذلك يظهر وقع قوله عقبه { كذلك نطبع على قلوب المعتدين } فان الطبع مؤذن بأن قلوبهم قد ورد عليها ما لو خلت عند وروده عن الطبع عليها لكان شأنه أن يصل بهم إلى الإيمان ، ولكن الطبع على قلوبهم حال دون تأثير البينات في قلوبهم .
وقد جُعل الطبع الذي وقع على قلوب هؤلاء مثلاً لكيفيات الطبع على قلوب المعتدين فقوله : { كذلك نطبع على قلوب المعتدين } ، أي مثل هذا الطبع العجيب نطبع على قلوب المعتدين فتأملوه واعتبروا به .
والطبع : الختم . وهو استعارة لعدم دخول الإيمان قلوبهم . وتقدم في قوله تعالى : { ختم الله على قلوبهم } في سورة البقرة ( 7 .
( والاعتداء : افتعال من عدا عليه ، إذا ظلمه ، فالمعتدين مرادف الظالمين ، والمراد به المشركون لأن الشرك اعتداء ، فإنهم كذبوا الرسل فاعتدوا على الصادقين بلمزهم بالكذب وقد جاء في نظير هذه الآية من سورة [ الأعراف : 101 ] { كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين } فهذا التَّحالف للتفنّن في حكاية هذه العبرة في الموضعين .