قوله : { ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ } أي : من بعد نوحٍ ، { رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ } ولمْ يسمِّ الرسل ، وقد كان منهم هودٌ ، وصالحٌ ، وإبراهيمُ ، ولوطٌ ، وشعيبٌ ، { فَجَآءُوهُمْ بالبينات } ، وهي المعجزات الباهرة ، و " بالبيِّنَاتِ " متعلقٌ ب " فَجاءوهُمْ " أو بمحذوف على أنه حال أي : ملتبسين بالبينات ، { فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ } أي : أنَّ حالهم بعد بعثةِ الرسل ، كحالهم قبلها في كونهم أهل جاهلية .
قال القرطبيُّ : التقدير : بما كذَّب به قوم نُوحٍ من قبل ، وقيل " بِمَا كذَّبُوا بهِ " أيْ : من قبل يوم الذرِّ فإنه كان فيهم من كذَّب بقلبه ، وإن قال الجميعُ : بلى .
وقال النحاس : أحسن ما قيل في هذا : أنَّه لقوم بأعيانهم ، مثل : { أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ البقرة : 6 ] . و " بالبيِّنَاتِ " متعلق ب " جَاءوهُم " ، أو بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ ، أي : مُلتبسين بالبيِّناتِ .
وقوله : { لِيُؤْمِنُواْ } أتى بلام الجحود توكيداً ، والضَّمير في { كَذَّبُواْ } عائدٌ على من عاد عليه الضَّمير في كانُوا ، وهم قومُ الرُّسُل .
وقال أبُو البقاء{[18550]} ومكِّي{[18551]} : إنَّ الضمير في كانوا يعُود على قوم الرُّسُل ، وفي " كَذَّبُوا " يعود على قوم نوح ، والمعنى : فما كان قوم الرُّسُل ليؤمنوا بما كذَّب به قوم نُوح ، أي : بمثله ، ويجوز أن تكون الهاءُ عائدة على نوح نفسه ، من غير حذف مضافٍ ، والتقدير : فما كان قومُ الرُّسُل بعد نوح ليؤمنوا بنوحٍ ؛ إذ لو آمنوا به ، لآمنوا بأنبيائهم .
و " مِنْ قَبْلُ " متعلقٌ ب " كَذَّبُوا " أي : من قبل بعثةِ الرُّسُل .
وقيل : الضَّمائرُ كُلُّها تعودُ على قوم الرسل بمعنى آخر : وهو أنَّهم بادرُوا رسلهم بالتكذيب ، كُلما جاء رسولٌ ، لجُّوا في الكفر ، وتمادوا عليه ، فلم يكونوا ليؤمنوا بما سبق به تكذيبهم من قبل لجِّهم في الكفر ، وتماديهم .
وقال ابن عطية{[18552]} : ويحتمل اللَّفظُ عندي معنى آخر ، وهو أن تكون " ما " مصدرية ، والمعنى : فكذَّبُوا رسلهم ، فكان عقابهم من الله أن لم يكونوا ليُؤمِنُوا بتكذيبهم من قبل ، أي : من سببه ومن جرَّائه ، ويُؤيِّد هذا التأويل : " كذلِكَ نَطْبَعُ " وهو كلام يحتاجُ إلى تأمُّل .
قال أبو حيان : والظَّاهر أنَّ " ما " موصولةٌ ؛ ولذلك عاد الضميرُ عليها في قوله : { بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ } ولو كانت مصدرية ، بقي الضمير غير عائدٍ على مذكور ؛ فتحتاج أن يُتكلَّفَ ما يعود عليه الضمير .
قال شهاب الدِّين{[18553]} - رحمه الله - : " الشيخ بناه على قول جمهور النُّحاة : في عدم كونِ " ما " المصدريَّة اسماً ؛ فيعُود عليها ضميرٌ ، وقد تقدَّم مراراً ، أنَّ مذهب الأخفش ، وابن السراج : أنَّها اسمٌ فيعود عليها الضمير " .
قرأ العامَّةُ : " نَطْبَع " بالنُّون الدَّالة على تعظيم المتكلِّم . وقرأ العبَّاس{[18554]} بن الفضل : بياء الغيبة ، وهو الله - تعالى - ؛ ولذلك صرَّح به في موضعٍ آخر : { كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله } [ الأعراف : 101 ] . والكافُ نعتٌ لمصدر محذوف ، أو حالٌ من ذلك المصدر على حسب ما عرفته من الخلاف ، أي : مثل ذلك الطَّبع المحكم الممتنع زواله ، نطبع على قلوب المعتدين على خلق الله .
احتجَّ أهل السُّنَّة على أنَّه - تعالى - قد يمنع المكلَّف عن الإيمان بهذه الآية .
قالت المعتزلة : فقد قال - تعالى - : { بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } [ النساء : 155 ] ولو كان هذا الطَّبع مانِعاً ، لما صحَّ هذا الاستثناء ، وقد تقدَّم البحث في ذلك عند قوله - تعالى - : { خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ } [ البقرة : 7 ] .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.