اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ثُمَّ بَعَثۡنَا مِنۢ بَعۡدِهِۦ رُسُلًا إِلَىٰ قَوۡمِهِمۡ فَجَآءُوهُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤۡمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِۦ مِن قَبۡلُۚ كَذَٰلِكَ نَطۡبَعُ عَلَىٰ قُلُوبِ ٱلۡمُعۡتَدِينَ} (74)

قوله : { ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ } أي : من بعد نوحٍ ، { رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ } ولمْ يسمِّ الرسل ، وقد كان منهم هودٌ ، وصالحٌ ، وإبراهيمُ ، ولوطٌ ، وشعيبٌ ، { فَجَآءُوهُمْ بالبينات } ، وهي المعجزات الباهرة ، و " بالبيِّنَاتِ " متعلقٌ ب " فَجاءوهُمْ " أو بمحذوف على أنه حال أي : ملتبسين بالبينات ، { فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ } أي : أنَّ حالهم بعد بعثةِ الرسل ، كحالهم قبلها في كونهم أهل جاهلية .

قال القرطبيُّ : التقدير : بما كذَّب به قوم نُوحٍ من قبل ، وقيل " بِمَا كذَّبُوا بهِ " أيْ : من قبل يوم الذرِّ فإنه كان فيهم من كذَّب بقلبه ، وإن قال الجميعُ : بلى .

وقال النحاس : أحسن ما قيل في هذا : أنَّه لقوم بأعيانهم ، مثل : { أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ البقرة : 6 ] . و " بالبيِّنَاتِ " متعلق ب " جَاءوهُم " ، أو بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ ، أي : مُلتبسين بالبيِّناتِ .

وقوله : { لِيُؤْمِنُواْ } أتى بلام الجحود توكيداً ، والضَّمير في { كَذَّبُواْ } عائدٌ على من عاد عليه الضَّمير في كانُوا ، وهم قومُ الرُّسُل .

وقال أبُو البقاء{[18550]} ومكِّي{[18551]} : إنَّ الضمير في كانوا يعُود على قوم الرُّسُل ، وفي " كَذَّبُوا " يعود على قوم نوح ، والمعنى : فما كان قوم الرُّسُل ليؤمنوا بما كذَّب به قوم نُوح ، أي : بمثله ، ويجوز أن تكون الهاءُ عائدة على نوح نفسه ، من غير حذف مضافٍ ، والتقدير : فما كان قومُ الرُّسُل بعد نوح ليؤمنوا بنوحٍ ؛ إذ لو آمنوا به ، لآمنوا بأنبيائهم .

و " مِنْ قَبْلُ " متعلقٌ ب " كَذَّبُوا " أي : من قبل بعثةِ الرُّسُل .

وقيل : الضَّمائرُ كُلُّها تعودُ على قوم الرسل بمعنى آخر : وهو أنَّهم بادرُوا رسلهم بالتكذيب ، كُلما جاء رسولٌ ، لجُّوا في الكفر ، وتمادوا عليه ، فلم يكونوا ليؤمنوا بما سبق به تكذيبهم من قبل لجِّهم في الكفر ، وتماديهم .

وقال ابن عطية{[18552]} : ويحتمل اللَّفظُ عندي معنى آخر ، وهو أن تكون " ما " مصدرية ، والمعنى : فكذَّبُوا رسلهم ، فكان عقابهم من الله أن لم يكونوا ليُؤمِنُوا بتكذيبهم من قبل ، أي : من سببه ومن جرَّائه ، ويُؤيِّد هذا التأويل : " كذلِكَ نَطْبَعُ " وهو كلام يحتاجُ إلى تأمُّل .

قال أبو حيان : والظَّاهر أنَّ " ما " موصولةٌ ؛ ولذلك عاد الضميرُ عليها في قوله : { بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ } ولو كانت مصدرية ، بقي الضمير غير عائدٍ على مذكور ؛ فتحتاج أن يُتكلَّفَ ما يعود عليه الضمير .

قال شهاب الدِّين{[18553]} - رحمه الله - : " الشيخ بناه على قول جمهور النُّحاة : في عدم كونِ " ما " المصدريَّة اسماً ؛ فيعُود عليها ضميرٌ ، وقد تقدَّم مراراً ، أنَّ مذهب الأخفش ، وابن السراج : أنَّها اسمٌ فيعود عليها الضمير " .

قرأ العامَّةُ : " نَطْبَع " بالنُّون الدَّالة على تعظيم المتكلِّم . وقرأ العبَّاس{[18554]} بن الفضل : بياء الغيبة ، وهو الله - تعالى - ؛ ولذلك صرَّح به في موضعٍ آخر : { كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله } [ الأعراف : 101 ] . والكافُ نعتٌ لمصدر محذوف ، أو حالٌ من ذلك المصدر على حسب ما عرفته من الخلاف ، أي : مثل ذلك الطَّبع المحكم الممتنع زواله ، نطبع على قلوب المعتدين على خلق الله .

فصل

احتجَّ أهل السُّنَّة على أنَّه - تعالى - قد يمنع المكلَّف عن الإيمان بهذه الآية .

قالت المعتزلة : فقد قال - تعالى - : { بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } [ النساء : 155 ] ولو كان هذا الطَّبع مانِعاً ، لما صحَّ هذا الاستثناء ، وقد تقدَّم البحث في ذلك عند قوله - تعالى - : { خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ } [ البقرة : 7 ] .


[18550]:ينظر: الإملاء 2/31.
[18551]:ينظر: المشكل 1/388.
[18552]:ينظر: المحرر الوجيز 3/133.
[18553]:ينظر: الدر المصون 4/56.
[18554]:ينظر: المحرر الوجيز 3/133، البحر المحيط 5/179، الدر المصون 4/56.