قوله تعالى : { وواعدنا موسى ثلاثين ليلة } ، ذا القعدة .
قوله تعالى : { وأتممناها بعشر } ، من ذي الحجة .
قوله تعالى : { فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى } عند انطلاقه إلى الجبل للمناجاة .
قوله تعالى : { لأخيه هارون اخلفني } ، كن خليفتي .
قوله تعالى : { في قومي وأصلح } ، أي أصلحهم بحملك إياهم على طاعة الله ، وقال ابن عباس : يريد الرفق بهم ، والإحسان إليهم .
قوله تعالى : { ولا تتبع سبيل المفسدين } ، أي : لا تطع من عصى الله ولا توافقه على أمره ، وذلك أن موسى عليه السلام وعد بني إسرائيل وهم بمصر : أن الله إذا أهلك عدوهم أتاهم بكتاب فيه بيان ما يأتون وما يذرون ، فلما فعل الله ذلك بهم سأل موسى ربه الكتاب : فأمره الله عز وجل أن يصوم ثلاثين يوماً ، فلما تمت ثلاثون أنكر خلوف فمه ، فتسوك بعود خرنوب ، وقال أبو العالية : أكل من لحاء شجرة ، فقالت له الملائكة : كنا نشم من فيك رائحة المسك ، فأفسدته بالسواك ، فأمره الله تعالى أن يصوم عشرة أيام من ذي الحجة ، وقال : أما علمت أن خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك ؟ فكانت فتنتهم في العشر التي زادها .
وينتهي هذا المشهد بين موسى وقومه ، ليبدأ المشهد الثامن الذي يليه . . مشهد تهيؤ موسى - عليه السلام - للقاء ربه العظيم ؛ واستعداده للموقف الهائل بين يديه في هذه الحياة الدنيا ؛ ووصيته لأخيه هارون - عليه السلام - قبل ذهابه لهذا اللقاء العظيم :
( وواعدنا موسى ثلاثين ليلة ، وأتممناها بعشر ، فتم ميقات ربه أربعين ليلة . . وقال موسى لأخيه هارون : اخلفني في قومي ، وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين ) . .
لقد انتهت المرحلة الأولى من مهمة موسى التي أرسل لها . انتهت مرحلة تخليص بني إسرائيل من حياة الذل والهوان والنكال والتعذيب بين فرعون وملئه ؛ وإنقاذهم من أرض الذل والقهر إلى الصحراء الطليقة ، في طريقهم إلى الأرض المقدسة . . ولكن القوم لم يكونوا بعد على استعداد لهذه المهمة الكبرى . . مهمة الخلافة في الأرض بدين الله . . ولقد رأينا كيف اشرأبت نفوسهم إلى الوثنية والشرك بمجرد أن رأوا قوماً يعكفون على أصنام لهم ؛ وتخلخلت عقيدة التوحيد التي جاءهم بها موسى - عليه السلام - ولم يمض إلا القليل ! فلم يكن بد من رسالة مفصلة لتربية هؤلاء القوم ؛ وإعدادهم لما هم مقبلون عليه من الأمر العظيم . . ومن أجل هذه الرسالة المفصلة كانت مواعدة الله لعبده موسى ليلقاه ويتلقى عنه . وكانت هذه المواعدة إعداداً لموسى لنفسه ، كي يتهيأ في هذه الليالي للموقف الهائل العظيم ، ويستعد لتلقيه .
وكانت فترة الإعداد ثلاثين ليلة ، أضيفت إليها عشر ، فبلغت عدتها أربعين ليلة ، يروض موسى فيها نفسه على اللقاء الموعود ؛ وينعزل فيها عن شواغل الأرض ليستغرق في هواتف السماء ؛ ويعتكف فيها عن الخلق ليستغرق فيها في الخالق الجليل ؛ وتصفو روحه وتشف وتستضيء ؛ وتتقوى عزيمته على مواجهة الموقف المرتقب وحمل الرسالة الموعودة . .
وألقى موسى إلى أخيه هارون - قبل مغادرته لقومه واعتزاله واعتكافه - بوصيته تلك :
( وقال موسى لأخيه هارون : اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين ) . .
ذلك وموسى يعلم أن هارون نبي مرسل من ربه معه . ولكن المسلم للمسلم ناصح . والنصيحة حق وواجب للمسلم على المسلم . . ثم إن موسى يقدر ثقل التبعة ، وهو يعرف طبيعة قومه بني إسرائيل ! . . وقد تلقى هارون النصيحة . لم تثقل على نفسه ! فالنصيحة إنما تثقل على نفوس الأشرار لأنها تقيدهم بما يريدون أن ينطلقوا منه ؛ وتثقل على نفوس المتكبرين الصغار ، الذين يحسون في النصيحة تنقصاً لأقدارهم ! . . إن الصغير هو الذي يبعد عنه يدك التي تمتد لتسانده ؛ ليظهر أنه كبير ! ! !
فأما قصة الليالي الثلاثين وإتهامها بالعشر الليالي فقال عنها ابن كثير في التفسير : " فذكر تعالى أنه واعد موسى ثلاثين ليلة ؛ قال المفسرون : فصامها موسى - عليه السلام - وطواها ، فلما تم الميقات استاك بلحاء شجرة ، فأمره الله تعالى أن يكمل العشرة أربعين " . .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَوَاعَدْنَا مُوسَىَ ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمّ مِيقَاتُ رَبّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَىَ لأخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ } . .
يقول تعالى ذكره : وواعدنا موسى لمناجاتنا ثلاثين ليلة وقيل : إنها ثلاثون ليلة من ذي القعدة . وأتمَمْناها بِعَشْرٍ يقول : وأتممنا الثلاثين الليلة بعشر ليال تتمة أربعين ليلة . وقيل : إن العشر التي أتمها به أربعين ، عشر ذي الحجة . ذكر من قال ذلك .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد : وَوَاعَدْنا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وأتمَمْناها بِعَشْرٍ قال : ذو القعدة وعشر ذي الحجة .
قال : ثنا جرير ، عن ليث ، عن مجاهد : وَوَاعَدْنا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وأتمَمْناها بِعَشْرٍ قال : ذو القعدة وعشر ذي الحجة ، ففي ذلك اختلفوا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَوَاعَدْنا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً هو ذو القعدة وعشر من ذي الحجة ، فذلك قوله : فَتَمّ مِيقاتُ رَبّهِ أرْبَعِينَ لَيْلَةً .
حدثني محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، قال : زعم حضرميّ أن الثلاثين التي كان واعد موسى ربه كانت ذا القعدة والعشر من ذي الحجة التي تمم الله بها الأربعين .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : وَوَاعَدْنا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً قال : ذو القعدة . وأتمَمْناها بِعَشْرٍ قال : عشر ذي الحجة . قال ابن جريج : قال ابن عباس ، مثله .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو سعد ، قال : سمعت مجاهدا يقول في قوله : وَوَاعَدْنا مِوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وأتْمَمْناها بِعَشْرٍ قال : ذو القعدة ، والعشر الأوّل من ذي الحجة .
قال : ثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن مسروق : وأتمَمْناها بِعَشْرٍ قال : عشر الأضحى .
وأما قوله : فَتَمّ مِيقاتُ رَبّهِ أرْبَعِينَ لَيْلَةً فإنه يعني : فكمل الوقت الذي واعد الله موسى أربعين ليلة وبلغها . كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : فَتَمّ مِيقاتُ رَبّهِ قال : فبلغ ميقات ربه أربعين ليلة .
القول في تأويل قوله تعالى : وَقالَ مُوسَى لأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي في قَوْمي وأصْلِحْ وَلا تَتّبِعْ سَبِيلَ المُفْسِدِينَ .
يقول تعالى ذكره : لما مضى لموعد ربه ، قال لأخيه هارون : اخْلُفْنِي فِي قَوْمي يقول : كن خليفتي فيهم إلى أن أرجع ، يقال منه : خَلَفه يخلُفُه خلافة . وأَصْلِحْ يقول : وأصلحهم بحملك إياهم على طاعة الله وعبادته . كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال موسى لأخيه هارون : اخْلُفْنِي فِي قَومي وأصْلِحْ وكان من إصلاحه أن لا يدع العجل يُعبد .
وقوله : وَلا تَتّبِعْ سَبِيلَ المُفْسِدِينَ يقول : ولا تسلك طريق الذين يفسدون في الأرض بمعصيتهم ربهم ، ومعونتهم أهل المعاصي على عصيانهم ربهم ، ولكن اسلك سبيل المطيعين ربهم . فكانت مواعدة الله موسى عليه السلام بعد أن أهلك فرعون ونجى من بني إسرائيل فيما قال أهل العلم ، كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني الحجاج ، عن ابن جريج ، قوله : وَوَاعَدْنا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً . . . الاَية ، قال : يقول : إن ذلك بعد ما فرغ من فرعون ، وقبل الطور لما نجى الله موسى عليه السلام من البحر وغرق آل فرعون وخلص إلى الأرض الطيبة ، أنزل الله عليهم فيها المنّ والسلوى وأمره ربه أن يلقاه ، فلما أراد لقاء ربه استخلف هارون على قومه ، وواعدهم أن يأتيهم إلى ثلاثين ليلة ميعادا من قِبله من غير أمر ربه ولا ميعاده فتوجّه ليلقى ربه ، فلما تمت ثلاثون ليلة ، قال عدوّ الله السّامريّ : ليس يأتيكم موسى ، وما يصلحكم إلاّ إله تعبدونه فناشدهم هارون وقال : لا تفعلوا انظروا ليلتكم هذه ويومكم هذا ، فإن جاء وإلاّ فعلتم ما بدا لكم فقالوا : نعم . فلما أصبحوا من غد ولم يروا موسى عاد السامريّ لمثل قوله بالأمس ، قال : وأحدث الله الأجل بعد الأجل الذي جعله بينهم عشرا ، فتمّ ميقات ربه أربعين ليلة ، فعاد هارون فناشدهم ، إلا ما نظروا يومهم ذلك أيضا ، فإن جاء وإلاّ فعلتم ما بدا لكم . ثم عاد السامريّ الثالثة لمثل قوله لهم ، وعاد هارون فناشدهم أن ينتظروا . فلما لم يروه . . . .
قال القاسم : قال الحسن : حدثني حجاج ، قال : ثني أبو بكر بن عبد الله الهذليّ ، قال : قام السامريّ إلى هارون حين انطلق موسى ، فقال : يا نبيّ الله إنا استعرنا يوم خرجنا من القبط حليّا كثيرا من زينتهم ، وإن الذين معك قد أسرعوا في الحليّ يبيعونه وينفقونه ، وإنما كان عاريَة من آل فرعون فليسوا بأحياء فنردّها عليهم ، ولا ندري لعلّ أخاك نبيّ الله موسى إذا جاء يكون له فيها رأي ، إما يقربها قربانا فتأكلها النار ، وإما يجعلها للفقراء دون الأغنياء . فقال له هارون : نعم ما رأيت وما قلت فأمر مناديا فنادى : من كان عنده شيء من حليّ آل فرعون فليأتنا به فأتوه به ، فقال هارون : يا سامريّ أنت أحقّ من كانت عنده هذه الخزانة . فقبضها السامريّ ، وكان عدوّ الله الخبيث صائغا ، فصاغ منه عجلاً جسدا ، ثم قذف في جوفه تربة من القبضة التي قبض من أثر فرس جبريل عليه السلام إذ رآه في البحر ، فجعل يخور ، ولم يخر إلاّ مرّة واحدة ، وقال لبني إسرائيل : إنما تخلف موسى بعد الثلاثين ليلة يلتمس هذا هَذَا إلهُكُم وإلهُ مُوسَى فنَسِيَ يقول : إن موسى عليه السلام نسي ربه .
{ وواعدنا موسى ثلاثين ليلة } ذا القعدة ، وقرأ أبو عمرو ويعقوب " ووعدنا " . { وأتممناها بعشر } من ذي الحجة . { فتمّ ميقات ربه أربعين ليلة } بالغا أربعين . روي : أنه عليه الصلاة والسلام وعد بني إسرائيل بمصر أن يأتيهم بعد مهلك فرعون بكتاب من الله فيه بيان ما يأتون وما يذرون ، فلما هلك فرعون سأل ربه فأمره الله بصوم ثلاثين ، فلما أتم أنكر خلوف فيه فتسوك ، فقالت الملائكة كنا نشم منك رائحة المسك فأفسدته بالسواك ، فأمره الله تعالى أن يزيد عليها عشرا . وقيل أمره بأن يتخلى ثلاثين بالصوم والعبادة ثم أنزل عليه التوراة في العشر وكلمة فيها . { وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي } كن خليفتي فيهم . { وأصلح } ما يجب أن يصلح من أمورهم أو كن مصلحا . { ولا تتّبع سبيل المفسدين } ولا تتبع من سلك الإفساد ولا تطع من دعاك إليه .
{ وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي قرأ أبو عمرو وأبيّ بن كعب وأبو رجاء وأبو جعفر وشيبة «ووعدنا » وقد تقدم في البقرة ، وأخبر الله تعالى موسى عليه السلام أن يتهيأ لمناجاته { ثلاثين ليلة } ثم زاده في الأجل بعد ذلك عشر ليال ، فذكر أن «موسى » عليه السلام أعلم بني إسرائيل بمغيبه «ثلاثين ليلة » فلما زاده العشر في حال مغيبه دون أن تعلم بنو إسرائيل ذلك وجست نفوسهم للزيادة على ما أخبرهم به ، فقال لهم السامري : إن «موسى » قد هلك وليس براجع وأضلهم بالعجل فاتبعوه ، قاله كله ابن جريج ، وقيل : بل أخبرهم بمغيبه { أربعين } وكذلك أعلمه الله تعالى وهو المراد بهذه الآية ، قاله الحسن ، وهو مثل قوله { فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة } وأنهم عدوا الأيام والليالي فلما تم «أربعون » من الدهر قالوا قد أخلف «موسى » فضلوا ، قال مجاهد إن «الثلاثين » هي شهر ذي القعدة وإن «العشر » هي «عشر » ذي الحجة ، وقاله ابن عباس ومسروق .
وروي أن «الثلاثين » إنما وعد بأن يصومها ويتهيأ فيها للمناجاة ويستعد وأن مدة المناجاة هي «العشر » ، وقيل بل مدة المناجاة «الأربعون » ، وإقبال «موسى » على الأمر والتزامه يحسن لفظ المواعدة ، وحيث ورد أن المواعدة أربعون ليلة فذلك إخبار بجملة الأمر هو في هذه الآية إخبار بتفصيله كيف وقع ، و { أربعين } في هذه الآية وما بعدها في موضع الحال ، ويصح أن تكون { أربعين } ظرفاً من حيث هي عدد أزمنة ، وفي مصحف أبي بن كعب «وتممناها » بغير ألف وتشديد الميم ، وذكر الزجاج عن بعضه قال : لما صام ثلاثين يوماً أنكر خلوف فمه فاستاك بعود خروب فقالت الملائكة : إنا كنا نستنشق من فيك رائحة المسك فأفسدته بالسواك فزيدت عليه عشر ليال ، و { ثلاثين } نصب على تقدير أجلناه «ثلاثين » وليست منتصبة على الظرف لأن المواعدة لم تقع في «الثلاثين » ، ثم ردد الأمر بقوله { فتم ميقات ربه أربعين ليلة } قيل ليبين أن «العشر » لم تكن ساعات وبالجملة تأكيد وإيضاح .
وقوله تعالى : { وقال موسى لأخيه }*** . الآية ، المعنى : وقال موسى حين أراد المضي للمناجاة والمغيب فيها ، و { اخلفني } معناه كن خليفتي وهذا استخلاف في حياة كالوكالة التي تنقضي بعزل الموكل أو موته لا يقتضي أنه متمادٍ بعد وفاة فينحل على هذا ما تعلق به الإمامية في قولهم إن النبي صلى الله عليه وسلم استخلف علياً بقوله أنت مني كهارون من «موسى » وقال موسى { اخلفني } فيترتب على هذا أن علياً خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما ذكرناه يحل هذا القياس ، وأمره في هذه الآية بالإصلاح ثم من الطرق الأخر في أن لا يتبع سبيل مفسد ، قال ابن جريج : كان من الإصلاح أن يزجر السامري ويغير عليه .
عَوْد إلى بقية حوادث بني إسرائيل ، بعد مجاوزتهم البَحر ، فالجملة عطف على جملة : { وجاوزنا ببني إسرائيل البحر } [ الأعراف : 138 ] .
وقد تقدم الكلام على معنى المواعدة في نظير هذه الآية في سورة البقرة ، وقرأ أبو عمرو : وَوَعَدْنَا . وحذف الموعود به اعتماداً على القرينة في قوله : { ثلاثين ليلة } الخ ، و { ثلاثين } منصوب على النيابة عن الظرف ، لأن تمييزه ظرف للمواعد به وهو الحضور لتلقي الشريعة ، ودل عليه { واعدنا } لأن المواعدة للقاء فالعامل { واعدنا } باعتبار المقدر ، أي حضوراً مدة ثلاثين ليلة .
وقد جعل الله مدة المناجاة ثلاثين ليلة تيسيراً عليه ، فلما قضاها وزادت نفسه الزكية تعلقاً ورغبة في مناجاة الله وعبادته ، زاده الله من هذا الفضل عشر ليال ، فصارت مدة المناجاة أربعين ليلة ، وقد ذكر بعض المفسرين قصة في سبب زيادة عشر ليال ، لم تصح ، ولم يزده على أربعين ليلة : إما لأنه قد بلغ أقصى ما تحتمله قوته البشرية فباعَدهُ الله من أن تعرض له السّآمة في عبادة ربه ، وذلك يُجنّب عنه المتقون بَله الأنبياء ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " عليكم من الأعمال بما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا " وإما لأن زيادة مغيبه عن قومه تفضي إلى أضرار ، كما قيل : إنهم عبدوا العجل في العشر الليالي الأخيرة من الأربعين ليلة ، وسميت زيادةُ الليالي العشر إتماماً إشارة إلى أن الله تعالى أراد أن تكون مناجاة موسى أربعين ليلة ، ولكنه لما أمره بها أمره بها مفرقة ، إما لحكمة الاستيناس ، وإما لتكون تلك العشر عبادة أخرى فيتكرر الثواب ، والمراد الليالي بأيامها فاقتصر على الليالي ؛ لأن المواعدة كانت لأجل الانقطاع للعبادة وتلقي المناجاة .
والنفس في الليل أكثر تجرداً للكمالات النفسانية ، والأحوال المَلَكية ، منها في النهار ، إذ قد اعتادت النفوس بحسب أصل التكوين الاستيناسُ بنور الشمس والنشاط به للشغل ، فلا يفارقها في النهار الاشتغال بالدنيا ولو بالتفكر وبمشاهدة الموجودات ، وذلك ينحّط في الليل والظلمة ، وتنعكس تفكرات النفس إلى دَاخلها ، ولذلك لم تزل الشريعة تحرض على قيام الليل وعلى الابتهال فيه إلى الله تعالى ، قال : { تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً } [ السجدة : 16 ] الآية ، وقال : { وبالأسحار هم يستغفرون } ، وفي الحديث : " ينزل ربّنا كل ليلة إلى السماء الدنيا في ثلث الليل الأخير فيقول هل من مستغفر فأغفر له ، هل من داع فأستجيب له " ولم يزل الشغل في السهر من شعار الحكماء والمرتاضين لأن السهر يلطف سلطان القوة الحيوانية كما يلطفها الصوم قال في « هياكل النور » « النّفوسُ الناطقة من عالم الملكوت ، وإنما شغَلها عن عالَمها القوى البدنية ومشاغَلتُها فإذا قويتْ النفس بالفضائل الرُوحانية وضعُف سلطان القُوى البدنية بتقليل الطعام وتكثير السهر تتخلص أحياناً إلى عالم القُدس وتتصل بربها وتتلقى منه المعارف » .
على أن الغالب في الكلام العربي التوقيتُ بالليالي ، ويُريدون أنها بأيامها ، لأن الأشهر العربية تُبتدأ بالليالي إذ هي منوطة بظهور الأهلة .
وقوله { فَتَم ميقاتُ ربه أربعينَ ليلة } فذلكةُ الحساب كما في قوله : { فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلكَ عشرة كاملة } [ البقرة : 196 ] ، فالفاء للتفريع .
والتمام الذي في قوله : { فتم ميقات ربه } مستعمل في معنى النماء والتفوق فكان ميقاتاً أكمل وأفضل كقوله تعالى : { تماماً على الذي أحسنَ } [ الأنعام : 154 ] إلى قوله : { وأتممت عليكم نعمتي } [ المائدة : 3 ] إشارة إلى أن زيادة العشر كانت لحكمة عظيمة تكون مدة الثلاثين بدونها غير بالغة أقصى الكمال ، وأن الله قدر المناجاة أربعين ليلة ، ولكنه أبرز الأمر لموسى مفرقاً وتيسيراً عليه ، ليكون إقبالُه على إتمام الأربعين باشتياق وقوة .
وانتصب { أربعين } على الحال بتأويل : بالغاً أربعين .
والميقات قيل : مرادف للوقت ، وقيل هو وقت قدّر فيه عمل مّا ، وقد تقدم في قوله تعالى : { قل هي مواقيت للناس والحج } في سورة البقرة ( 189 ) .
وإضافته إلى { ربه } للتشريف ، وللتعريض بتحميق بعض قومه حين تأخر مغيب موسى عنهم في المناجاة بعد الثلاثين ، فزعموا أن موسى هلَك في الجبَل كما رواه ابن جُريج ، ويشهد لبعضه كلام التوراة في الإصحاح الثاني والثلاثين من سفر الخروج .
أي : قال موسى لأخيه عند العزم على الصعود إلى الجبل للمناجاة فإنه صعد وحدَه ومعه غلامُهْ يُوشعُ بنُ نَون .
ومعنى { اخلُفني } كُنْ خلَفاً عني وخليفة ، وهو الذي يتولى عمل غيره عند فقده فتنتهي تلك الخلافة عند حضور المستخلَف ، فالخلافة وكالة ، وفعْلُ خَلَف مشتق من الخَلْف بسكون اللام وهو ضد الإمام ، لأن الخليفة يقوم بعمل مَن خَلَفَه عند مغيبه ، والغائِب يَجعل مكانَه وراءَه .
وقد جمع له في وصيته ملاك السياسة بقوله : { وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين } فإن سياسة الأمة تدور حول مِحور الإصلاح ، وهو جعل الشيء صالحاً ، فجميعُ تصرفات الأمة وأحوالها يجب أن تكون صالحة ، وذلك بأن تكون الأعمال عائدة بالخير والصلاح لفاعلها ولغيره ، فإن عادت بالصلاح عليه وبضده على غيره لم تعتبر صلاحاً ، ولا تلبث أن تؤول فساداً على مَن لاحت عنده صلاحاً ، ثم إذا تردد فعلٌ بين كونه خيراً من جهة وشراً من جهة أخرى وجب اعتبار أقوى حالتيه فاعتُبر بها إن تعذر العدول عنه إلى غيره مما هو أوفرُ صلاحاً ، وإن استوى جهتاه ألغي إن أمكَنَ إلغاؤُه وإلاّ تخيّر ، وهذا أمر لهارون جامع لما يتعين عليه عمله من أعماله في سياسة الأمة .
وقوله : { ولا تتبع سبيل المفسدين } تحذير من الفساد بأبلغ صيغة لأنها جامعة بين نَهي والنهي عن فعل تنصرف صيغته أول وهلة إلى فساد المنهي عنه وبينَ تعليق النهي باتباع سبيل المفسدين .
والإتباع أصله المشي على حلف ماش ، وهو هنا مستعار للمشاركة في عمل المفسد ، فإن الطريق مستعار للعمل المؤدي إلى الفساد والمفسِد من كان الفساد صفتَه ، فلما تعلق النهي بسلوك طريق المفسدين كان تحذيراً من كل ما يستروح منه مآل إلى فساد ، لأن المفسدين قد يعملون عملاً لا فساد فيه ، فنُهي عن المشاركة في عمل من عُرف بالفساد ، لأن صدوره عن المعروف بالفساد ، كافٍ في توقع إفضائه إلى فساد . ففي هذا النهي سد ذريعة الفساد ، وسَد ذرائع الفساد من أصول الإسلام ، وقد عني بها مالك بن أنس وكررها في كتابه واشتهرت هذه القاعدة في أصول مذهبه .
فلا جرم أن كان قوله تعالى : { ولا تتبع سبيل المفسدين } جامعاً للنهي عن ثلاث مراتب من مراتب الإفضاء إلى الفساد وهو العمل المعروف بالانتساب إلى المفسد ، وعمل المفسد وإن لم يكن مما اعتاده ، وتجنبُ الاقتراب من المفسد ومخالطته .
وقد أجرى الله على لسان رسوله موسى ، أو أعلمه ، ما يقتضي أن في رعية هارون مفسدين ، وإنه يوشك إن سلكوا سبيل الفساد أن يسايرهم عليه لما يعلم في نفس هارون من اللين في سياسته ، والاحتياط من حدوث العصيان في قومه ، كما حكى الله عنه في قوله : { إن القوم استضعفوني وكادوا يقتُلونني } [ الأعراف : 150 ] وقوله : { إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل } [ طه : 94 ] .
فليست جملة : { ولا تتبع سبيل المفسدين } مجرد تأكيد لمضمون جملة { وأصلح } تأكيداً للشيء بنفي ضده مثل قوله : { أموات غير أحياء } [ النحل : 21 ] لأنها لو كان ذلك هو المقصَد منها لجُرّدت من حرف العطف ، ولاقتصر على النهي عن الإفساد فقيل : وأصلح لا تفسد ، نعم يحصل من معانيها ما فيه تأكيد لمضمون جملة : { وأصلح } .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وواعدنا موسى لمناجاتنا ثلاثين ليلة..."وأتمَمْناها بِعَشْرٍ" يقول: وأتممنا الثلاثين الليلة بعشر ليال تتمة أربعين ليلة... وأما قوله: "فَتَمّ مِيقاتُ رَبّهِ أرْبَعِينَ لَيْلَةً" فإنه يعني: فكمل الوقت الذي واعد الله موسى أربعين ليلة وبلغها. "وَقالَ مُوسَى لأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي في قَوْمي وأصْلِحْ وَلا تَتّبِعْ سَبِيلَ المُفْسِدِينَ" يقول تعالى ذكره: لما مضى لموعد ربه، قال لأخيه هارون: "اخْلُفْنِي فِي قَوْمي" يقول: كن خليفتي فيهم إلى أن أرجع...
"وأَصْلِحْ" يقول: وأصلحهم بحملك إياهم على طاعة الله وعبادته. وقوله: "وَلا تَتّبِعْ سَبِيلَ المُفْسِدِينَ" يقول: ولا تسلك طريق الذين يفسدون في الأرض بمعصيتهم ربهم، ومعونتهم أهل المعاصي على عصيانهم ربهم، ولكن اسلك سبيل المطيعين ربهم. فكانت مواعدة الله موسى عليه السلام بعد أن أهلك فرعون ونجى منه بني إسرائيل فيما قال أهل العلم...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
قوله تعالى:"وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح" المعنى: وقال موسى حين أراد المضي للمناجاة والمغيب فيها لأخيه هارون: كن خليفتي، فدل على النيابة. وفي صحيح مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعلي حين خلفه في بعض مغازيه: (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي). "وأصلح "أمر بالإصلاح. قال ابن جريج: كان من الإصلاح أن يزجر السامري ويغير عليه. وقيل: أي ارفق بهم، وأصلح أمرهم، وأصلح نفسك؛ أي كن مصلحا...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
يقول تعالى ممتنا على بني إسرائيل، بما حصل لهم من الهداية، بتكليمه موسى، عليه السلام، وإعطائه التوراة، وفيها أحكامهم وتفاصيل شرعهم، فذكر تعالى أنه واعد موسى ثلاثين ليلة. فلما تم الميقات عزم موسى على الذهاب إلى الطور، كما قال تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأيْمَنَ} الآية [طه: 80]، فحينئذ استخلف موسى على بني إسرائيل أخاه هارون، وأوصاه بالإصلاح وعدم الإفساد. وهذا تنبيه وتذكير، وإلا فهارون، عليه السلام، نبي شريف كريم على الله، له وجاهة وجلالة، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى سائر الأنبياء.
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
تنبيه: قال الجشمي: تدل الآية على أنه استخلف هرون عند خروجه، لما رأى أنهم أشد طاعة له، وأكثر قبولا منه، ومخاطبات موسى عليه السلام لهرون وجوابه له كقوله: {أفعصيتَ أمري} وقول هرون {ولا تأخذ بلحيتي} {فلا تُشْمِتْ بي الأعداء} كل ذلك كالدال على أن موسى كان يختص بنوع من الولاية، وإن اشتركا في النبوة. والظاهر أنه استخلفه على أن يرجع، لأنه المعقول من الاستخلاف عند الغيبة. وتدل على أنه يجوز أن ينهاه عن شيء يعلم أنه لا يفعله، ويأمره بما يعلم أنه سيفعله، عظة له، واعتبارا لغيره، وتأكيدا ومصلحة للجميع. انتهى.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
هذه الآيات نزلت في بيان بدء وحي الشريعة لموسى عليه السلام وقد بدأ الوحي المطلق إليه في جانب الطور الأيمن من سيناء منصرفه من مدين إلى مصر، وإنما المذكور هنا بدء وحي كتاب التوراة بعد أن أنجى الله قومه بني إسرائيل من العبودية وجعلهم أمة حرة مستقلة قادرة على القيام بما يشرعه الله لها من العبادات وأحكام المعاملات، والأمة المستعبدة للأجنبي لا تقدر على ذلك، ألم تر أن جميع أحكام المعاملات الدنيوية من شريعتنا المطهرة وأكثر أحكام العبادات لم تشرع إلا بعد الهجرة؟ وأن الصلاة التي هي عبادة بدنية لما شرعت في مكة كأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي هو ومن آمن به في البيوت سرا اتقاء أذى المشركين الذين كانوا يمنعونهم من الصلاة في المسجد الحرام وقد صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم مرة فجاء المشركون بسلا جزور- أي كرش بعير برفثه- فوضعوه عليه وهو ساجد فلم يستطع رفع رأسه حتى جاءت ابنته السيدة فاطمة عليها السلام فألقته عن ظهره؟ وهمَّ أبو جهل مرة أن يجلس عليه وهو ساجد فكفه الله عنه؟
قال تعالى: {وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتمّ ميقات ربّه أربعين ليلة} هذا السياق الذي قبله المبدوء بقوله تعالى: {وجاوزنا ببني إسرائيل البحر} الآيات. قرأ أبو عمرو ويعقوب (وعدنا) من الوعد والباقون (واعدنا) من المواعدة فقيل إنها هنا بمعنى الوعد وقيل إن فيها معنى صيغة المفاعلة باعتبار أن الله تعالى ضرب لموسى عليه السلام موعدا لمكالمته وإعطائه الألواح المشتملة على أصول الشريعة فقبل ذلك ثم صعد جبل سيناء في أول الموعد وهبط في آخره، وفرق بين الاتفاق على الشيء بين اثنين أو أكثر كالتلاقي في مكان معين أو زمان معين وبين الوعد به من واحد لآخر لا يطلب منه شيء لأجل الوفاء كقولك لآخر سأدعو الله لك في البيت الحرام مثلا – فهذا وعد محض وذاك يحتمل الأمرين باعتبارين كعبارة الآية. والميقات أخص من الوقت فهو الوقت الذي قرر فيه عمل من الأعمال كمواقيت الحج. وفي سورة البقرة {وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة} [البقرة: 51] وهو إجمال لما فصل هنا من قبل لأن الأعراف مكية والبقرة مدنية فهي متأخرة عنها في النزول والمراد بالليلة ما يشمل الليل والنهار في عرف العرب عند الإطلاق.
روى ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في تفسير الآية أن موسى قال لقومه: إن ربي وعدني ثلاثين ليلة أن ألقاه وأخلف هارون فيكم، فلما وصل موسى إلى ربه زاده الله عشرا فكانت فتنتهم في العشر التي زاده الله – وذكر قصة عجل السامري- وروى الثاني عن أبي العالية في قوله: {وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر} يعني ذا القعدة وعشرا من ذي الحجة فمكث على الطور أربعين ليلة وأنزل عليه التوراة في الألواح فقربه الرب نجيا وكلمه وسمع صريف القلم، وبلغنا أنه لم يحدث في الأربعين ليلة حتى هبط من الطور، وفي معنى هذا روايات أخرى صريحة في أن هذا الزمن ضرب لمناجاة موسى ربه في الجبل منقطعا فيه عن بني إسرائيل، وهو الحق الموافق لما ورد في هذه السورة وغيرها من قصة السامري وعبادة العجل في غيبة موسى ومنه قولهم لهارون {لن نبرح عليه عاكفين حتّى يرجع إلينا موسى} [طه: 91] وأخرج الديلمي عن ابن عباس رفعه "لما أتى موسى ربه وأراد أن يكلمه بعد الثلاثين يوما وقد صام ليلهن ونهارهن فكره أن يكلم ربه وريح فمه ريح فم الصائم فتناول من نبات الأرض فمضغه فقال له ربه: لم أفطرت؟ وهو أعلم بما كان قال: أي رب، كرهت أن أكلمك إلا وفمي طيب الريح، قال: أو ما علمت يا موسى إن فم الصائم عندي أطيب من ريح المسك؟ اذهب فصم عشرة أيام ثم ائتني. ففعل موسى الذي أمره "ربه "وهذا الحديث ضعيف السند ومتنه معارض بما أشرنا إليه من آيات قصة السامري ومن الروايات التي بمعناها.
ويستدل الصوفية بهذه الرواية على أيام خلوتهم التي يصومون أيامها الأربعين لا يفطرون إلا على حبات من الزبيب لما ورد في الأحاديث الصحيحة من النهي عن الوصال في الصيام، والأولى أن يستأنس بالروايات الصحيحة للتفرغ لذكر الله ومناجاته بالصلاة أربعين يوما وليلة فيجعل مقصدا لا وسيلة...
وهذا ما ورد في التوراة الحاضرة في المسألة {وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتّبع سبيل المفسدين} يعني أن موسى لما أراد الذاهب لميقات ربه استخلف عليهم أخاه الكبير هارون عليهما السلام للحكم بينهم والإصلاح فيهم، إذ كانت الرياسة فيهم لموسى وكان هارون وزيره ونصيره ومساعده كما سأل ربه بقوله: {واجعل لي وزيرا من أهلي * هارون أخي * اشدد به أزري * وأشركه في أمري} [طه: 29- 32] وأوصاه بالإصلاح فيهم وفيما بينهم ونهاه عن اتباع سبيل المفسدين في الأرض.
والإفساد أنواع بعضها جلي وبعضها خفي ومن كل منهما وسيلة ومقصد، فمنها الحرام البين ومنها الذرائع المشتبهات التي يختلف فيها الاجتهاد، ويأخذ التقي فيها بالاحتياط، واتباع سبيل المفسدين يشمل مشاركتهم في أعمالهم، ومساعدتهم عليها، ومعاشرتهم والإقامة معهم في حال اقترافها، ولو بعد العجز عن إرجاعهم عنها، ومن ذلك ما يجوز وقوعه من الأنبياء عليهم السلام فيصح نهيهم عنه تحذيرا من وقوعهم فيه بضرب من الاجتهاد كالذي وقع الاختلاف فيه بين موسى وهارون عليهما السلام في قصة عجل السامري الذي حكاه تعالى عنه في سورة طه بقوله: {قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلّوا * ألّا تتّبعن أفعصيت أمري * قال يا ابن أمّ لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إنّي خشيت أن تقول فرّقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي} [طه: 92- 94] فالرسالة كانت لموسى بالإصالة ولهارون بالتبع ليكون وزيرا لا رئيسا، وموسى هو الذي أعطى الشريعة (التوراة) وكان هارون مساعدا له على تنفيذها في بني إسرائيل كما كان مساعدا له على تبليغ فرعون الدعوة وإنقاذ بني إسرائيل.
وقد روى الشيخان وغيرهما من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي كرم الله وجهه (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى) وذلك أنه استخلفه على المدينة في غزوة تبوك قبل خروجه فقال: يا رسول الله تخلفني في النساء والصبيان؟ فقاله. وفي رواية لأحمد أن عليا رضي الله عنه قال: رضيت رضيت، وإنما قال في النساء والصبيان لأنه لم يتخلف عن الخروج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى تبوك غير النساء والصبيان ومن في حكمهم من ضعيف ومريض إلا من استأذن من المنافقين.
قال القاضي عياض في شرحه لمسلم: هذا الحديث مما تعلقت به الروافض والإمامية وسائر فرق الشيعة في أن الخلافة كانت حقا لعلي وأنه أوصى له بها. قال: ثم اختلف هؤلاء فكفرت الروافض سائر الصحابة في تقديمهم غيره وزاد بعضهم فكفر عليا لأنه لم يقم بطلب حقه. وهؤلاء أسخف مذهبا وأفسد عقلا من أن يرد عليهم الخ ما قال. وقد ذكرت هذا من قوله لأذكر القارئ بأن هذين الفريقين لم يقولا ما قالا عن اعتقاد بل كانوا من جمعيات المجوس والسبئيين الذين يبغون الفتنة لإبطال الإسلام وإزالة ملك العرب بالشقاق الديني. وأما الاستخلاف فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستخلف على المدينة بعض الصحابة كلما خرج إلى غزوة ولم يكن يختار أفضلهم لذلك، وفي الحديث من المنقبة لعلي ما هو فوق استخلافه وهو جعله أخا للنبي صلى الله عليه سلم ولا يتضمن ذلك استخلافه بعده صلى الله عليه وسلم لأن هارون مات قبل موسى عليهما السلام قطعا.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} وهم الذين يعملون بالمعاصي.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(وقال موسى لأخيه هارون: اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين).. ذلك وموسى يعلم أن هارون نبي مرسل من ربه معه. ولكن المسلم للمسلم ناصح. والنصيحة حق وواجب للمسلم على المسلم.. ثم إن موسى يقدر ثقل التبعة، وهو يعرف طبيعة قومه بني إسرائيل!.. وقد تلقى هارون النصيحة. لم تثقل على نفسه! فالنصيحة إنما تثقل على نفوس الأشرار لأنها تقيدهم بما يريدون أن ينطلقوا منه؛ وتثقل على نفوس المتكبرين الصغار، الذين يحسون في النصيحة تنقصاً لأقدارهم!.. إن الصغير هو الذي يبعد عنه يدك التي تمتد لتسانده؛ ليظهر أنه كبير!!!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ مُدَّةَ الْمُنَاجَاةِ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً تَيْسِيرًا عَلَيْهِ، فَلَمَّا قَضَاهَا وَزَادَتْ نَفْسُهُ الزَّكِيَّةُ تَعَلُّقًا وَرَغْبَةً فِي مُنَاجَاةِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ، زَادَهُ اللَّهُ مِنْ هَذَا الْفَضْلِ عَشْرَ لَيَالٍ، فَصَارَتْ مُدَّةُ الْمُنَاجَاةِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ قِصَّةً فِي سَبَبِ زِيَادَةِ عَشْرِ لَيَالٍ، لَمْ تَصِحَّ، وَلَمْ يَزِدْهُ عَلَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً: إِمَّا لِأَنَّهُ قَدْ بَلَغَ أَقْصَى مَا تَحْتَمِلُهُ قُوَّتُهُ الْبَشَرِيَّةُ فَبَاعَدَهُ اللَّهُ مِنْ أَنْ تَعْرِضَ لَهُ السَّآمَةُ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَذَلِكَ يُجَنَّبُ عَنْهُ الْمُتَّقُونَ بَلهَ الْأَنْبِيَاءُ، وَقَدْ قَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ بِمَا تُطِيقُونَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا، وَإِمَّا لِأَنَّ زِيَادَةَ مَغِيبِهِ عَنْ قَوْمِهِ تُفْضِي إِلَى إِضْرَارٍ، كَمَا قِيلَ: إِنَّهُمْ عَبَدُوا الْعِجْلَ فِي الْعَشْرِ اللَّيَالِي الْأَخِيرَةِ مِنَ الْأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَسُمِّيَتْ زِيَادَةُ اللَّيَالِي الْعَشْرِ إِتْمَامًا إِشَارَةً إِلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ أَنْ تَكُونَ مُنَاجَاةُ مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَلَكِنَّهُ لَمَّا أَمَرَهُ بِهَا أَمَرَهُ بِهَا مُفَرَّقَةً، إِمَّا لِحِكْمَةِ الِاسْتِينَاسِ، وَإِمَّا لِتَكُونَ تِلْكَ الْعَشْرُ عِبَادَةً أُخْرَى فَيَتَكَرَّرَ الثَّوَابُ، وَالْمُرَادُ اللَّيَالِي بِأَيَّامِهَا فَاقْتُصِرَ عَلَى اللَّيَالِي لِأَنَّ الْمُوَاعَدَةَ كَانَتْ لِأَجْلِ الِانْقِطَاعِ لِلْعِبَادَةِ وَتَلَقِّي الْمُنَاجَاةِ. وَالنَّفْسُ فِي اللَّيْلِ أَكْثَرُ تَجَرُّدًا لِلْكَمَالَاتِ النَّفْسَانِيَّةِ، وَالْأَحْوَالِ الْمَلَكِيَّةِ، مِنْهَا فِي النَّهَارِ، إِذْ قَدِ اعْتَادَتِ النُّفُوسُ بِحَسَبِ أصل التكوين الاستيناس بِنُورِ الشَّمْسِ وَالنَّشَاطَ بِهِ لِلشُّغْلِ، فَلَا يُفَارِقُهَا فِي النَّهَارِ الِاشْتِغَالُ بِالدُّنْيَا وَلَوْ بِالتَّفَكُّرِ وَبِمُشَاهَدَةِ الْمَوْجُودَاتِ، وَذَلِكَ يَنْحَطُّ فِي اللَّيْلِ وَالظُّلْمَةِ، وَتَنْعَكِسُ تَفَكُّرَاتُ النَّفْسِ إِلَى دَاخِلِهَا، وَلِذَلِكَ لَمْ تَزَلِ الشَّرِيعَةُ تُحَرِّضُ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ وَعَلَى الِابْتِهَالِ فِيهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ:"تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً [السَّجْدَة: 16] الْآيَةَ، وَقَالَ:" وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ"، وَفِي الْحَدِيثِ: «يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فِي ثُلُثِ اللَّيْلِ الْأَخِيرِ فَيَقُولُ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ، هَلْ مِنْ دَاعٍ فَأَسْتَجِيبَ لَهُ»، وَلَمْ يَزَلِ الشُّغْلُ فِي السَّهَرِ مِنْ شِعَارِ الْحُكَمَاءِ وَالْمُرْتَاضِينَ لِأَنَّ السَّهَرَ يُلَطِّفُ سُلْطَانَ الْقُوَّةِ الْحَيَوَانِيَّةِ كَمَا يُلَطِّفُهَا الصَّوْمُ...
وَالتَّمَامُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: "فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ "مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى النَّمَاءِ وَالتَّفَوُّقِ فَكَانَ مِيقَاتًا أَكْمَلَ وَأَفْضَلَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ [الْأَنْعَام: 154] إِلَى قَوْله: "وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي "[الْمَائِدَة: 3] إِشَارَةً إِلَى أَنَّ زِيَادَةَ الْعَشْرِ كَانَتْ لِحِكْمَةٍ عَظِيمَةٍ تَكُون مُدَّةُ الثَلَاثِينَ بِدُونِهَا غَيْرَ بَالِغَةٍ أَقْصَى الْكَمَالِ، وَأَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ الْمُنَاجَاةَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَلَكِنَّهُ أَبْرَزَ الْأَمْرَ لِمُوسَى مَفْرِقًا وَتَيْسِيرًا عَلَيْهِ، لِيَكُونَ إِقْبَالُهُ عَلَى إِتْمَامِ الْأَرْبَعِينَ بِاشْتِيَاقٍ وَقُوَّةٍ.
وَالْمِيقَاتُ قِيلَ: مُرَادِفٌ لِلْوَقْتِ، وَقِيلَ هُوَ وَقْتٌ قُدِّرَ فِيهِ عَمَلٌ مَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [189]. وَإِضَافَتُهُ إِلَى رَبِّهِ لِلتَّشْرِيفِ، وَلِلتَّعْرِيضِ بِتَحْمِيقِ بَعْضِ قَوْمِهِ حِينَ تَأَخَّرَ مَغِيبُ مُوسَى عَنْهُمْ فِي الْمُنَاجَاةِ بَعْدَ الثَّلَاثِينَ، فَزَعَمُوا أَنَّ مُوسَى هَلَكَ فِي الْجَبَلِ كَمَا رَوَاهُ ابْن جريج، وَيَشْهَدُ لِبَعْضِهِ كَلَامُ التَّوْرَاةِ فِي الْإِصْحَاحِ الثَّانِي وَالثَلَاثِينَ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ.
"وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ."
أَيْ: قَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ عِنْدَ الْعَزْمِ عَلَى الصُّعُودِ إِلَى الْجَبَلِ لِلْمُنَاجَاةِ...
وَمَعْنَى اخْلُفْنِي كُنْ خَلَفًا عَنِّي وَخَلِيفَةً، وَهُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى عَمَلَ غَيْرِهِ عِنْدَ فَقْدِهِ فَتَنْتَهِي تِلْكَ الْخِلَافَةُ عِنْدِ حُضُورِ الْمُسْتَخْلِفِ، فَالْخِلَافَةُ وَكَالَةٌ، وَفِعْلُ خَلَفَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْخَلْفِ- بِسُكُونِ اللَّامِ- وَهُوَ ضِدُّ الْأَمَامِ، لِأَنَّ الْخَلِيفَةَ يَقُومُ بِعَمَلِ مَنْ خَلَفَهُ عِنْدَ مَغِيبِهِ، وَالْغَائِبُ يَجْعَلُ مَكَانَهُ وَرَاءَهُ.
وَقَدْ جَمَعَ لَهُ فِي وَصِيَّتِهِ مِلَاكَ السِّيَاسَةِ بِقَوْلِهِ: "وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ" فَإِنَّ سِيَاسَةَ الْأُمَّةِ تَدُورُ حَوْلَ مِحْوَرِ الْإِصْلَاحِ، وَهُوَ جَعْلُ الشَّيْءِ صَالِحًا، فَجَمِيعُ تَصَرُّفَاتِ الْأُمَّةِ وَأَحْوَالِهَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ صَالِحَةً، وَذَلِكَ بِأَنْ تَكُونَ الْأَعْمَالُ عَائِدَةً بِالْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ لِفَاعِلِهَا وَلِغَيْرِهِ، فَإِنْ عَادَتْ بِالصَّلَاحِ عَلَيْهِ وَبِضِدِّهِ عَلَى غَيْرِهِ لَمْ تُعْتَبَرْ صَلَاحًا، وَلَا تلبث أَن تؤول فَسَادًا عَلَى مَنْ لَاحَتْ عِنْدَهُ صَلَاحًا، ثُمَّ إِذَا تَرَدَّدَ فِعْلٌ بَيْنَ كَوْنِهِ خَيْرًا مِنْ جِهَةٍ وَشَرًّا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى وَجَبَ اعْتِبَارُ أَقْوَى حَالَتَيْهِ فَاعْتُبِرَ بِهَا إِنْ تَعَذَّرَ الْعُدُولُ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ مِمَّا هُوَ أَوْفَرُ صَلَاحًا، وَإِنِ اسْتَوَى جِهَتَاهُ أُلْغِيَ إِنْ أَمْكَنَ إِلْغَاؤُهُ وَإِلَّا تَخَيَّرَ، وَهَذَا أَمْرٌ لِهَارُونَ جَامِعٌ لِمَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ عَمَلُهُ مِنْ أَعْمَالِهِ فِي سِيَاسَةِ الْأُمَّةِ.
وَقَوْلُهُ: "وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ" تَحْذِيرٌ مِنَ الْفَسَادِ بِأَبْلَغِ صِيغَةٍ لِأَنَّهَا جَامِعَةٌ بَيْنَ نَهْيٍ- وَالنَّهْيُ عَنْ فِعْلٍ تَنْصَرِفُ صِيغَتُهُ أَوَّلَ وَهْلَةٍ إِلَى فَسَادِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ- وَبَيْنَ تَعْلِيقِ النَّهْي بِاتِّبَاعِ سَبِيلِ الْمُفْسِدِينَ.
وَالْإِتْبَاعُ أَصْلُهُ الْمَشْيُ عَلَى حِلْفِ مَاشٍ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلْمُشَارَكَةِ فِي عَمَلِ الْمُفْسِدِ، فَإِنَّ الطَّرِيقَ مُسْتَعَارٌ لِلْعَمَلِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْفَسَادِ وَالْمُفْسِدُ مَنْ كَانَ الْفَسَادُ صِفَتَهُ، فَلَمَّا تَعَلَّقَ النَّهْيُ بِسُلُوكِ طَرِيقِ الْمُفْسِدِينَ كَانَ تَحْذِيرًا مِنْ كُلِّ مَا يُسْتَرْوَحُ مِنْهُ مَآلٌ إِلَى فَسَادٍ، لِأَنَّ الْمُفْسِدِينَ قَدْ يَعْمَلُونَ عَمَلًا لَا فَسَادَ فِيهِ، فَنُهِيَ عَنِ الْمُشَارَكَةِ فِي عَمَلِ مَنْ عُرِفَ بِالْفَسَادِ، لِأَنَّ صُدُورَهُ عَنِ الْمَعْرُوفِ بِالْفَسَادِ، كَافٍ فِي تَوَقُّعِ إِفْضَائِهِ إِلَى فَسَادٍ. فَفِي هَذَا النَّهْيِ سَدُّ ذَرِيعَةِ الْفَسَادِ، وَسَدُّ ذَرَائِعِ الْفَسَادِ مِنْ أُصُولِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ عُنِيَ بِهَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَكَرَّرَهَا فِي كِتَابِهِ وَاشْتُهِرَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ فِي أُصُولِ مَذْهَبِهِ. فَلَا جَرَمَ أَنْ كَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: "وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ" جَامِعًا لِلنَّهْيِ عَنْ ثَلَاثِ مَرَاتِبَ مِنْ مَرَاتِبِ الْإِفْضَاءِ إِلَى الْفَسَادِ وَهُوَ الْعَمَلُ الْمَعْرُوفُ بِالِانْتِسَابِ إِلَى الْمُفْسِدِ، وَعَمَلُ الْمُفْسِدِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِمَّا اعْتَادَهُ، وَتَجَنُّبُ الِاقْتِرَابِ مِنَ الْمُفْسِدِ وَمُخَالَطَتِهِ.
وَقَدْ أَجْرَى اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ مُوسَى، أَوْ أَعْلَمَهُ، مَا يَقْتَضِي أَنَّ فِي رَعِيَّةِ هَارُونَ مُفْسِدِينَ، وَأَنَّهُ يُوشِكُ إِنْ سَلَكُوا سَبِيلَ الْفَسَادِ أَنْ يُسَايِرَهُمْ عَلَيْهِ لِمَا يَعْلَمُ فِي نَفْسِ هَارُونَ مِنَ اللِّينِ فِي سياسته، وَالِاحْتِيَاط مِنْ حُدُوثِ الْعِصْيَانِ فِي قَوْمِهِ، كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: "إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي [الْأَعْرَاف: 150] وَقَوله: "إنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ" [طه: 94]...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
قال موسى لأخيه هارون {اخلفني في قومي}، أي كن خليفتي في قومي، ترعاهم وتصلح أمرهم؛ ولذا قال في تحقيق الخلافة: {وأصلح} أقم فيهم الحق، والعدل والإصلاح بينهم، فاحفظ وحدتهم وحارب دعاة التفرق؛ ولذا قال له: {ولا تتبع سبيل المفسدين}، أي تجنب أن تساير المفسدين، بل اقطع عليهم الطريق، ولا تمكنهم من فسادهم، وكأنه بفطنة النبوة أدرك أنهم سيحدثون أحداثا من بعده – كما سيجيئ – باتخاذهم العجل، وإن لم يكن قد توقع ذلك بالذات، ولكن توقع غيره وسبل الشيطان مثارات مختلفة.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
ولعل السر في ضرب هذا الأجل، واستغراقه لهذه المدة التي ليست بقصيرة، هو تمكين موسى من التفرغ عن جميع الشواغل، التي تستغرق نشاطه ليل نهار، ولا سيما الشواغل الجديدة التي طرأت عليه منذ جواز بني إسرائيل معه، وإفلاتهم من قبضة فرعون وملإه
ونستفيد من الآية سنة الاستخلاف الواردة في نفس السياق، فقد سنها موسى عندما استخلف أخاه هارون عنه أثناء غيبته، فبقيت سنة متبعة من بعده، وبرزت أثناء عهد الرسالة المحمدية، في عدة مناسبات، منها مناسبة غزوة تبوك، حيث فارق رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة على رأس جيش قوامه ثلاثون ألف مسلم معهم عشرة آلاف من الخيل، وترك على المدينة خليفة من قبله محمد ابن مسلمة الأنصاري، كما حققه الإمام ابن قيم الجوزية في كتابه "زاد المعاد".
فاستخلاف موسى لهارون ليس تكليفا لهارون بامتداد إرسال الله لموسى وهارون، فأسلوب تقديم موسى وهارون أنفسهما لفرعون جاء بضمير التثنية التي تجمع بين موسى وهارون: {إنا رسولا ربك} (من الآية 47 سورة طه): لأن كلا منهما رسول، وقوله الحق: {وقال موسى لأخيه هارون} فيه التحنن، أي أنني لي بك صلة قبل أن تكون شريكا لي في الرسالة فأنا أخ لك وأنت أخ لي، ومن حقي عليك أن تسمع كلامي وتخلفني. فالأخوة مقرونة بأنك شريك معي في الرسالة، إذن نجد أن موسى قد قدم حيثية الأخوة، والمشاركة في الرسالة. وأكد موسى عليه السلام بكلمة "قومي "أنهم أعزاء عليه، ولا يريد بهم إلا الخير الذي يريده لنفسه، فإذا جاءكم بأمر فاعلموا أنه لصالحكم، وإذا نهاكم نهيا فاعلموا أن موسى هو أول من يطبقه على نفسه.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَقَالَ مُوسَى لأخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي} فلا بدّ لهم من أن يعيشوا مع القيادة الروحية، التي تبقي لهم الجو الروحي الذي يربطهم بالله، ويذكرهم بخط الإيمان، ويهيّئ جوّهم العقلي والروحي لاستقبال الكتاب الإلهي في المرحلة الجديدة، لأن ابتعادهم عن القيادة قد يبعدهم عن الأجواء الإيمانية، ويُسلِّمهم إلى الذكريات المنحرفة، ويدفعهم إلى العودة إلى رواسب ذلك التاريخ من خلال عقليّة الشّرك المنفتح على الذلّ والعبودية في شخصياتهم المسحوقة تحت وطأة الاستعباد، فربّما يحتاج هؤلاء إلى الرعاية الدائمة من أجل إكمال عملية البناء الجديد للشخصية، بعيداً عن كل مؤثرات الشخصية القديمة. وهكذا أراد موسى لأخيه هارون أن يخلفه في قومه، ووضع له الخطّ العريض خط الرسالات في إدارة شؤون الإنسان والحياة {وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ}. إنه خط الإصلاح في مضمونه الفكري، وفي طريقة تنفيذه، وفي إدارة حركة العلاقات فيما بين الناس من خلافات ومنازعات وما يتعرضون له من تعقيدات الواقع. هذا في الجانب الإيجابي للخطّ، أمّا في الجانب السلبي منه، فهو الامتناع عن اتّباع سبيل المفسدين في إثارة المشاكل، وتعقيد العلاقات، وضعف الإدارة، واهتزاز الإرادة، وتوجيه الأوضاع في اتجاه الأنانيات والذاتيات والعصبيات...