الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{۞وَوَٰعَدۡنَا مُوسَىٰ ثَلَٰثِينَ لَيۡلَةٗ وَأَتۡمَمۡنَٰهَا بِعَشۡرٖ فَتَمَّ مِيقَٰتُ رَبِّهِۦٓ أَرۡبَعِينَ لَيۡلَةٗۚ وَقَالَ مُوسَىٰ لِأَخِيهِ هَٰرُونَ ٱخۡلُفۡنِي فِي قَوۡمِي وَأَصۡلِحۡ وَلَا تَتَّبِعۡ سَبِيلَ ٱلۡمُفۡسِدِينَ} (142)

قوله تعالى : { وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ } : تقدَّم الخلاف في وَعَدْنا وواعَدْنا . وأتى الظرف بعده مفعول ثان على حَذْفِ مضاف ، ولا يجوز أن يكون ظرفاً لفساد المعنى في البقرة فكذا هنا ، أي : وَعَدْناه تمامَ ثلاثين ، أو أثناءها أو مناجاتها .

قوله : { وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ } في هذا الضميرِ قولان ، أحدهما : أنه يعودُ على المُواعدة المفهومةِ مِنْ " واعَدْنا " ، أي : وأَتْمَمْنا مواعدته بعشر . والثاني : أنها تعودُ على ثلاثين قاله الحوفي . قال الشيخ : " ولا يَظْهر لأنَّ الثلاثين لم تكن ناقصةً فتمَّ بعشر " . وحُذِف تمييز " عشر " لدلالة الكلام عليه ، أي : وأَتْمَمْناها بعشرِ ليال . وفي مُصْحف أُبَيّ " تَمَّمناها " بالتضعيف ، عَدَّاه بالتضعيف .

قوله : { فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ } الفرق بين الميقات والوقت : أن المِيقات ما قُدِّر فيه عملٌ من الأعمال ، والوقت وقت للشيء من غير تقديرِ عمل أو تقريره . وفي نصب " أربعين " أوجهٌ أحدها : أنه حال . قال الزمخشري : " وأربعين " نصب على الحال أي : تَمَّ بالغاً هذا العدد " . قال الشيخ : " فعلى هذا لا تكونُ الحال " أربعين " ، بل الحالُ هذا المحذوفُ فيُنافَى قوله " . قلت : لا تنافيَ فيه لأن النحاة لم يزالوا ينسبون الحكم للمعمول الباقي بعد حَذْف عامله المنوبِ عنه ، وله شواهد منها : " زيد في الدار أو عندك " فيقولون : الجارُّ والظرف خبر ، والخبر في الحقيقة إنما هو الحَدَثُ المقدَّر العاملُ فيهما . وكذا يقولون : " جاء زيد بثيابه " " بثيابه " حال ، والحال إنما هو العامل فيه ، إلى غير ذلك . وقدَّره الفارسي ب " معدوداً " قال : كقولك : " تمَّ القوم عشرين رجلاً " أي : معدودين هذا العدد " وهو تقدير حسن .

الثاني : أن ينتصب " أربعين " على المفعول به ، قال أبو البقاء : " لأنَّ معناه بلغ ، فهو كقولهم : بَلَغَتْ أرضك جَرِيبَيْن " ، أي يُضَمِّن " تَمَّ " معنى " بلغ " . الثالث : أنه منصوبٌ على الظرف . قال ابن عطية : " ويصحُّ أن تكون " أربعين " ظرفاً من حيث هي عددُ أزمنة " . وفي هذا نظر كيف يكون ظرفاً للتمام ، والتمام إنما هو بآخر جزء من تلك الأزمنة ؟ إلا بتجوز بعيد : وهو أنَّ كلَّ جزءٍ من أجزاء الوقت سواء كان أولاً أم آخراً إذا نقص ذهب التمامُ . الرابع : أن ينتصب على التمييز . قال الشيخ : " والأصل : " فتمَّ أربعون ميقاتُ ربه " ثم أسند التمام إلى ميقات ، وانتصب " أربعون " على التمييز ، فهو منقولٌ من الفاعلية " يعني فيكون كقولِه :

{ وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً } [ مريم : 4 ] وهذا الذي قاله وجَعَلَه هو الذي يظهر يُشكل بما ذكره هو في الردِّ على الحوفي ، حيث قال هناك : " إن الثلاثين لم تكن ناقصةً فتتمَّ " كذلك ينبغي أن يُقالَ هنا إن الأربعين لم تكن ناقصةً فتتمَّ ، فكيف يُقَدِّر " فتمَّ أربعون ميقات ربه " ؟ فإنْ أجابَ هنا بجواب فهو جوابٌ هناك لِمَنْ اعترض عليه .

وقوله : { فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ } في هذه الجملة قولان ، أظهرهُما : أنها للتأكيد لأنَّ قولَه قبل ذلك " وأَتْمَمْناها بعشر " فُهِم أنها أربعون ليلةً . وقيل : بل هي للتأسيس لاحتمالِ أن يَتَوَّهم متوهِّم بعشر ساعات أو غير ذلك ، وهو بعيدٌ جداً .

قوله : " ربِّه " ولم يقل : ميقاتنا جَرْياً على " واعَدْنا " لِما في إظهار هذا الاسم الشريف من الاعترافِ بربوبية الله له وإصلاحه له .

قوله " هارونَ " الجمهورُ على فتح نونه وفيه ثلاثة أوجه . الأول : أنه مجرورٌ بدلاً من " أخيه " الثاني : أنه عطفُ بيان له . الثالث : أنه منصوبٌ بإضمار أعني . وقرئ شاذاً " هارونُ " بالضم وفيه وجهان أحدهما : أنه منادى حُذف منه حرفُ النداء ، أي : يا هرون كقوله : { يُوسُفُ أَعْرِضْ }

[ يوسف : 29 ] . والثاني : أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو هارون ، وهذا في المعنى كالوجه الذي تقدَّم من أنه منصوبٌ بإضمار أعني فإنَّ كليهما قطع . وقال أبو البقاء : " ولو قرئ بالرفع " فذكرهما ، كأنَّه لم يطَّلِعْ على أنها قراءة .