قوله تعالى : { ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون } ، يجحدون ، قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين حضره الموت في وصيته لعمر بن الخطاب رضي الله عنه : إنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق في الدنيا ، وثقله عليهم ، وحق لميزان يوضع فيه الحق غداً أن يكون ثقيلاً ، وإنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل في الدنيا ، وخفته عليهم ، وحق لميزان يوضع فيه الباطل غدا أن يكون خفيفا . فإن قيل : قد قال : { من ثقلت موازينه } ذكر بلفظ الجمع ، والميزان واحد قيل : يجوز أن يكون لفظه جمعاً ومعناه واحد ، كقوله : ( يا أيها الرسل ) ، وقيل : لكل عبد ميزان ، وقيل : الأصل ميزان واحد عظيم ، ولكل عبد فيه ميزان علق به ، وقيل جمعه : لأن الميزان يشتمل على الكفتين ، والشاهدين ، واللسان ، ولا يتم الوزن إلا باجتماعها .
( ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون ) . .
فقد خفت في ميزان الله الذي لا يظلم ولا يخطئ . وقد خسروا أنفسهم . فماذا يكسبون بعد ؟ إن المرء ليحاول أن يجمع لنفسه . فإذا خسر ذات نفسه فما الذي يبقى له ؟
لقد خسروا أنفسهم بكفرهم بآيات الله : ( بما كانوا بآياتنا يظلمون ) والظلم - كما أسلفنا - يطلق في التعبير القرآني ويراد به الشرك أو الكفر : ( إن الشرك لظلم عظيم ) .
ولا ندخل هنا في طبيعة الوزن وحقيقة الميزان - كما دخل فيه المتجادلون بعقلية غير إسلامية في تاريخ الفكر " الإسلامي " ! . . . . فكيفيات أفعال الله كلها خارجة عن الشبية والمثيل . مذ كان الله سبحانه ليس كمثله شيء . . وحسبنا تقرير الحقيقة التي يقصد إليها السياق . . من أن الحساب يومئذ بالحق ، وأنه لا يظلم أحد مثقال ذرة ، وأن عملاً لا يبخس ولا يغفل ولا يضيع .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَنْ خَفّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلََئِكَ الّذِينَ خَسِرُوَاْ أَنْفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ } .
يقول جلّ ثناؤه : ومن خفت موازين أعماله الصالحة فلم تثقل بإقراره بتوحيد الله والإيمان به وبرسوله واتباع أمره ونهيه ، فأولئك الذين غبنوا أنفسهم حظوظها من جزيل ثواب الله وكرامته بِمَا كانَوا بآياتِنا يَظْلِمُونَ يقول : بما كانوا بحجج الله وأدلته يجحدون ، فلا يقرّون بصحتها ، ولا يوقنون بحقيقتها . كالذي :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن مجاهد : وَمَنْ خَفّتْ مَوَازِينُهُ قال : حسناته .
وقيل : «فأولئك » و«مَنْ » في لفظ الواحد ، لأن معناه الجمع ، ولو جاء موحدا كان صوابا فصيحا .
وقوله تعالى : { ومن خفت موازينه } الآية ، المعنى من خفت كفة حسناته فشالت ، و { خسروا أنفسهم } أي بالهلاك والخلود في النار وتلك غاية الخسارة ، وقوله : { بما كانوا } أي جزاء بذلك كما تقول أكرمتك بما أكرمتني ، و «ما » في هذا الموضع مصدرية ، و «الآيات » هنا البراهين والأوامروالنواهي و { يظلمون } أي يضعونها في غير مواضعها بالكفر والتكذيب .
ما صْدَقُ ( مَن ) واحد لقوله : { موازينه } ، وإذ قد كان هذا الواحد غير معيّن ، بل هو كلّ من تحقّق فيه مضمون جملة الشّرط ، فهو عام صح اعتباره جماعة في الإشارة والضّميرين من قوله : { فأولئك هم المفلحون } .
والاتيان بالإشارة للتّنبيه على أنّهم إنّما حصلوا الفلاَح لأجل ثقل موازينهم ، واختير اسم إشارة البعد تنبيهاً على البعد المعنوي الاعتباري .
وضمير الفصل لقصد الانحصار أي هم الذين انحصر فيهم تحقّق المفلحين ، أي إن علمتَ جماعة تعرف بالمفلحين فهم هُم .
والخسران حقيقته ضد الرّبح ، وهو عدم تحصيل التّاجر على ما يستفضله من بيعه ، ويستعار لفقدان نفع ما يرجى منه النّفع ، فمعنى { خسروا أَنفُسَهُم } فقدوا فوائدها ، فإن كلّ أحد يرجو من مواهبه ، وهي مجموع نفْسِه ، أن تجلب له النّفع وتدفع عنه الضرّ : بالرأي السَّديد ، وابتكار العمل المفيد ، ونفوس المشركين قد سوّلت لهم أعمالاً كانت سبب خفّة موازين أعمالهم ، أي سبب فقد الأعمال الصّالحة منهم ، فكانت نفوسهم كرأسسِ مال التّاجر الذي رجا منه زيادة الرّزق فأضاعه كلّه فهو خاسر له ، فكذلك هؤلاء خسروا أنفسهم إذ أوقعتهم في العذاب المقيم ، وانظر ما تقدّم في قوله تعالى : { الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون } في سورة الأنعام ( 20 ) . وقوله تعالى : { فما ربحت تجارتهم } في سورة البقرة ( 16 ) .
والباء في قوله : { بما كانوا } باء السّببيّة ، وما مصدرية أي بكونهم ظلموا بآياتنا في الدّنيا ، فصيغة المضارع في قوله : { يظلمون } لحكاية حالهم في تجدّد الظلم فيما مضى كقوله تعالى : { والله الذي أرسل الرياح فتثير سحاباً فسقناه } [ فاطر : 9 ] .
والظلم هنا ضدّ العدل : أي يظلمون الآيات فلا ينصفونها حقّها من الصدق . وضمن { يظلمون } معنى يُكَذّبون ، فلذلك عُدّي بالباء ، فكأنّه قيل : بما كانوا يظلمون فيكذبون بآياتنا على حد قوله تعالى : { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظُلماً وعلواً } [ النمل : 14 ] .
وإنّما جعل تكذيبهم ظلما لأنّه تكذيب ما قامت الأدلّة على صدقه فتكذيبه ظلم للأدلّة بدحضها وعدم إعمالها .
وتقديم المجرور في قوله : { بآياتنا } على عامله ، وهو { يظلمون } ، للاهتمام بالآيات . وقد ذكرت الآية حال المؤمنين الصّالحين وحال المكذّبين المشركين إذ كان النّاس يوم نزول الآية فريقين : فريق المؤمنين ، وهم كلّهم عاملون بالصّالحات ، مستكثرون منها ، وفريق المشركين وهم أخلياء من الصّالحات ، وبقي بين ذلك فريق من المؤمنين الذين يخلطون عملاً صالحاً وآخر سيّئاً وذلك لم تتعرّض له هذه الآية ، إذ ليس من غرض المقام ، وتعرّضت له آيات آخرى .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.