فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَمَنۡ خَفَّتۡ مَوَٰزِينُهُۥ فَأُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوٓاْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِـَٔايَٰتِنَا يَظۡلِمُونَ} (9)

ومثله الكلام في قوله { ومن خفت } بالسيئات عدلا { موازينه } والمراد موازين أعماله وهم الكفار بدليل قوله { فأولئك الذين خسروا أنفسهم } أي غبنوا حظوظها من جزيل ثواب الله وكرامته ، والباء في { بما كانوا } سببية { بآياتنا يظلمون } أي يكذبون ويجحدون .

وهذا الوزن للمسلمين عند الأكثر ، وأما الكفار فتحبط أعمالهم على أحد الوجهين في تفسير قوله تعالى { فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا } وقيل إنها توزن أيضا وإن لم تكن راجحة ليخفف بها لهم العذاب عنهم ، وهو ظاهر النظم ، وبقي من تساوت حسناته وسيآته مسكوتا عنه وهم أهل الأعراف على قول ، وقد يدرج في القسم الأول لقوله { خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم } وعسى من الله تحقيق كما صرحوا به .

وللحافظ تأليف مستقل في الميزان قال فيه : إنهم اختلفوا في تعدد الميزان وعدمه والصحيح الثاني والوزن بعد الحساب وأعمال الكفرة يخفف بها عذابهم كما ورد في حق أبي طالب ، وهو الصحيح كما قاله القرطبي ، وقال السخاوي المعتمد أنه مخصوص بأبي طالب والمعتمد ما قاله القرطبي فلا وجه للتردد فيه .

أخرج أحمد والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يصاح برحل من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر له تسعة وتسعون سجلا كل سجل منها مد البصر ، فيقول أتنكر من هذا شيئا أظلمك كتبتي الحافظون ، فيقول لا يا رب فيقول أفلك عذر أو حسنة فيهاب الرجل فيقول لا يا رب ، فيقول بلى لك عندنا حسنة وأنه لا ظلم عليك اليوم ، فيخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، فيقول يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات فيقال إنك لا تظلم فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ) {[737]} . وقد صححه أيضا الترمذي وإسناده عند أحمد ( حسن ) . ولنعم ما قيل :

مهما تفكرت في ذنوبي خفت على قلبي احتراقه

لكنه ينطفي لهيبي بذكر ما جاء في البطاقة

والسجل الكتاب ، وقيل : إنه معرب وأصل معناه الكتاب وسجل عليه بكذا شهره ورسمه ، قاله الزمخشري في شرح مقاماته .

وفي مسلم : نظرت إلى مد بصري مكان مد البصر قال النووي كذا هو في جميع النسخ وهو صحيح ومعناه منتهى بصري ، وأنكره بعض أهل اللغة وقال الصواب مدى بصري وليس بمنكر بل هما لغتان والمدى أشهر انتهى .

وقوله بطاقة بكسر الباء رقعة صغيرة وتطلق على حمام تعلق في جناحه ، وليس مولدة كما قيل فإنها وردت في هذا الحديث وغيره ، وفي فقه اللغة إنها معربة من الرومية ، وفي الحكم الرقعة الصغيرة تكون في الثوب وفيها رقم ثمنه ، حكاه شمر ، وقال لأنها بطاقة من الثوب قيل وهو خطأ لأنه يقتضي أن الباء حرف جر ، والصحيح ما تقدم كما حكاه الهروي .

ويؤيده ما أخرجه البخاري مرفوعا ( كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان هما كلمتا الشهادة ) قال الخفاجي ولك أن تقول المراد بها كلمة التوحيد فتأمل .

والكفة بفتح فتشديد كل مستدير ، وبه سميت كفة الميزان المعروفة ، وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ليأتي العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة ) {[738]} .


[737]:المستدرك كتاب الدعاء 1/529.
[738]:مسلم 2785 – البخاري 2023.