{ ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون ( 9 ) } .
{ ومن خفت موازينه } أي : حسناته في الميزان { فأولئك الذين خسروا أنفسهم } بالعقوبة { بما كانوا بآياتنا يظلمون } أي : يكفرون .
الأول : قال السيوطي في ( الإكليل ) : في هذه الآية ذكر الميزان ، ويجب الإيمان به . انتهى .
وقال الإمام الغزالي في ( المضنون ) : تعلّق النفس بالبدن كالحجاب لها عن حقائق الأمور . وبالموت ينكشف الغطاء ، كما قال تعالى{[3834]} : { فكشفنا عنك غطاءك } ، ومما يكشف له تأثير أعماله مما يقربه إلى الله تعالى ويبعده ، وهي مقادير تلك الآثار ، وإن بعضها أشد تأثيرا من البعض ، ولا يمتنع في قدرة الله تعالى أن يجري سببا يعرف الخلق في لحظة واحدة مقادير الأعمال ، بالإضافة إلى تأثيراتها في التقريب والإبعاد . فحد الميزان ما يتميز به الزيادة من النقصان ، ومثاله في العالم المحسوس مختلف ، فمنه الميزان المعروف ، ومنه القبان للأثقال ، والاصطرلات لحركات الفلك والأوقات ، والمسطرة للمقادير والخطوط ، والعروض لمقادير/ حركات الأصوات . فالميزان الحقيقي ، إذا مثله الله عز وجل للحواس ، مثله بما شاء من هذه الأمثلة أو غيرها . فحقيقة الميزان وحده موجود في جميع ذلك ، وهو ما يعرف به الزيادة من النقصان . وصورته تكون مقدرة للحس عند التشكيل ، وللخيال عند التمثيل ، والله تعالى أعلم بما يقدره من صنوف التشكيلات . والتصديق بجميع ذلك واجب . انتهى .
الثاني : الذي يوضع في الميزان يوم القيامة . قيل : الأعمال وإن كانت أعراضا إلا أن الله تعالى يقلبها يوم القيامة أجساما .
قال البغوي : يروى هذا عن ابن عباس ، كما جاء في ( الصحيح ) {[3835]} " أن البقرة وآل عمران يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان ، أو فرقان من طير صواف " . ومن ذلك في ( الصحيح ) {[3836]} قصة القرآن ، " وأنه يأتي صاحبه في صورة شاب شاحب اللون ، فيقول : من أنت ؟ فيقول : أنا القرآن الذي أسهرتُ ليلك ، وأظمأت نهارك " . وفي حديث البراء{[3837]}/ في قصة سؤال القبر : " فيأتي المؤمن شاب حسن اللون ، طيب الريح ، فيقول : من أنت ؟ فيقول : أنا عملك الصالح . وذكر عكسه في شأن الكافر والمنافق " .
فالأعمال الظاهرة في هذه النشأة بصور عرضية ، تبرز على هذا القول في النشأة الآخرة بصورة جوهرية ، مناسبة لها في الحسن والقبح . فالذنوب والمعاصي تتجسم هناك ، وتتصور بصورة النار ، وعلى ذلك حمل قوله تعالى : { وإن جهنم لمحيطة بالكافرين }{[3838]} ، وقوله تعالى : { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا }{[3839]} الآية – وكذا قوله صلى الله عليه وسلم{[3840]} في حق من يشرب في إناء الذهب والفضة : " إنما يجرجر في بطنه نار جهنم " . ولا بعد في ذلك . ألا يرى أن العلم يظهر في عالم المثال على صورة اللبن .
وقيل : صحائف الأعمال هي التي توزن ، ويؤيده حديث البطاقة . فقد أخرج أحمد{[3841]} / والترمذي وصححه ، وابن ماجة والحاكم والبيهقي وابن مردويه عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يصاح برجل من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة . فينشر له تسعة وتسعون سجلا ، كل سجل منها مدّ البصر ، فيقول : أتنكر من هذا شيئا ؟ أظلمك كتبتي الحافظون ؟ فيقول : لا ، يا رب ! فيقول : أفلك عذر أو حسنة ؟ فيهاب الرجل ، فيقول : لا ، يا رب . فيقول : بلى . إن لك عندنا حسنة ، فإنه لا ظلم عليك اليوم . فيخرج له بطاقة فيها ( أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ) فيقول : يا رب ! ما هذه البطاقة مع هذه السجلات ؟ فيقال : إنك لا تظلم . فوضع السجلات في كفة ، والبطاقة في كفة ، فطاشت السجلات ، وثقلت البطاقة " .
وقيل : يوزن صاحب العمل ، كما في الحديث{[3842]} : " يؤتى يوم القيامة بالرجل السمين ، / فلا يزن عند الله جناح بعوضة . ثم قرأ : { فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا } " {[3843]} .
وفي مناقب عبد الله بن مسعود{[3844]} : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أتعجبون من دقة ساقيه ؟ والذي نفسي بيده ! لهما في الميزان أثقل من أحد " .
قال الحافظ ابن كثير : وقد يمكن الجمع بين هذه الآثار ، بأن يكون ذلك صحيحا . فتارة توزن الأعمال ، وتارة يوزن محلها ، وتارة يوزن فاعلها . والله أعلم . انتهى .
قال أبو السعود : وقيل : الوزن عبارة عن القضاء السوي ، والحكم العادل . وبه قال مجاهد والأعمش والضحاك ، واختاره كثير من المتأخرين ، بناء على استعمال لفظ الوزن في هذا المعنى شائع في اللغة والعرف بطريق الكناية . قالوا : إن الميزان إنما يراد به التوصل إلى معرفة مقادير الشيء . ومقادير أعمال العباد لا يمكن إظهارها بذلك ، لأنها أعراض قد فنيت . وعلى تقرير بقائها ، لا تقبل الوزن- انتهى- وأصله للرازي .
قال في ( العناية ) : فمنهم من أول الوزن بأنه بمعنى القضاء والحكم العدل ، أو مقابلتها بجزائها . ن قولهم ؛ وازنه ، إذا عادله . وهو إما كناية أو استعارة . بتشبيه ذلك بالوزن المتصف بالخفة والثقل ، بمعنى الكثرة والقلة . والمشهور من مذهب أهل السنة أنه حقيقة بمعناه المعروف . انتهى .
فإن جمهور الصدر الأول على الأخذ بهذه الظواهر من غير تأويل .
قال في ( فتح البيان ) : وأما المستبعدون لحمل هذه الظواهر على حقائقها فلم يأتوا في استبعادهم بشيء من الشرع يرجع إليه . بل غاية ما تشبثوا به مجرد الاستبعادات العقلية ، وليس في ذلك حجة لأحد . فهذا إذا لم تقبله عقولهم ، فقد قبلته عقول قوم هي أقوى من عقولهم : من الصحابة والتابعين وتابعيهم ، حتى جاءت البدع كالليل المظلم ، وقال كل ما شاء الله ، وتركوا الشرع خلف ظهورهم . وليتهم جاءوا بأحكام عقلية يتفق العقلاء عليها ، ويتحد قبولهم لها . بل كل فريق يدعي على العقل ما يطابق هواه ، ويوافق ما يذهب إليه هو ومن تابعه ، فتتناقض عقولهم على حسب ما تناقضت مذاهبهم . يعرف هذا كل منصف . ومن أنكره فليصف فهمه وعقله عن شوائب التعصب والتمذهب ، فإنه إن فعل ذلك أسفر الصبح لعينيه . وقد ورد ذكر الوزن والميزان في مواضع من القرآن كقوله : { ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا }{[3845]} وقوله : { فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ، ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون }{[3846]} . وقوله : { إن الله لا يظلم مثقال ذرة }{[3847]} . وقوله : { وأما من خفت موازينه ، فأمه هاوية }{[3848]} / والأحاديث في هذا الباب كثيرة جدا مذكورة في كتب السنة المطهرة . وما في الكتاب والسنة يغني عن غيرهما . فلا يلتفت إلى تأويل أحد أو تحريفه ، مع قوله تعالى وقول رسوله الصادق المصدوق ، والصباح يغني عن المصباح-انتهى .
وخلاصته ؛ أن الأصل في الإطلاق الحقيقة ، ولا يعدل عنها إلى المجاز إلا إذا تعذرت ، ولا تعذر ههنا .
الثالث : إن قلت : أليس الله عز وجل يعلم مقادير أعمال العباد ؟ فما الحكمة في وزنها ؟ قلت : فيه حكم :
منها- إظهار العدل ، وإن الله عز وجل لا يظلم عباده .
ومنها- امتحان الخلق بالإيمان بذلك في الدنيا وإقامة الحجة عليهم في العقبى .
ومنها- تعريف العباد ما لهم من خير وشر وحسنة وسيئة .
ومنها- إظهار علامة السعادة والشقاوة .
ونظيره ؛ أنه تعالى أثبت أعمال العباد في اللوح المحفوظ ثم في صحائف الحفظة الموكلين ببني آدم ، من غير جواز النسيان عليه سبحانه وتعالى . كذا في ( اللباب ) .
وقال أبو السعود : إن قيل : إن المكلف يوم القيامة إما مؤمن بأنه تعالى حكيم منزه عن الجور ، فيكفيه حكمه تعالى بكيفيات الأعمال وكمياتها . وإما منكر له فلا يسلم حينئذ أن رجحان بعض الأعمال على بعض لخصوصيات راجعة إلى ذوات تلك الأعمال ، بل يسنده إلى إظهار الله تعالى إياه على ذلك الوجه ، فما الفائدة في الوزن ؟
أجيب بأنه ينكشف الحال يومئذ ، وتظهر جميع الأشياء بحقائقها على ما هي عليه ، وبأوصافها وأحوالها في أنفسها من الحسن والقبح ، وغير ذلك . وتنخلع عن الصور المستعارة التي بها ظهرت في الدنيا ، فلا يبقى لأحد ممن يشاهدها شبهة في أنها هي التي كانت في الدنيا بعينها ، وأن كل واحد منها قد ظهر في هذه النشأة بصورته الحقيقية المستتبعة لصفاته ، ولا يخطر بباله خلاف ذلك- انتهى- .