{ ويطعمون الطعام على حبه } أي على حب الطعام وقلته وشهوتهم له وحاجتهم إليه . وقيل : على حب الله { مسكيناً } فقيراً لا مال له ، { ويتيماً } صغيراً لا أب له { وأسيراً } قال مجاهد وسعيد بن جبير وعطاء : هو المسجون من أهل القبلة . وقال قتادة : أمر الله بالأسراء أن يحسن إليهم ، وإن أسراهم يومئذ لأهل الشرك . وقيل : الأسير المملوك . وقيل : المرأة ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " اتقوا الله في النساء فإنهن عندكم عوان " أي أسراء . واختلفوا في سبب نزول هذه الآية ، قال مقاتل : نزلت في رجل من الأنصار أطعم في يوم واحد مسكيناً ويتيماً وأسيراً . وروى مجاهد وعطاء عن ابن عباس : أنها نزلت في علي بن أبي طالب ، وذلك أنه عمل ليهودي بشيء من شعير ، فقبض الشعير فطحن ثلثه فجعلوا منه شيئاً ليأكلوه ، فلما تم إنضاجه أتى مسكين فسأل فأخرجوا إليه الطعام ، ثم عمل الثلث الثاني فلما تم إنضاجه أتى يتيم فسأل فأطعموه ، ثم عمل الثلث الباقي فلما تم إنضاجه أتى أسير من المشركين ، فسأل فأطعموه ، وطووا يومهم ذلك : وهذا قول الحسن وقتادة ، أن الأسير كان من أهل الشرك ، وفيه دليل على أن إطعام الأسارى ، وإن كانوا من أهل الشرك ، حسن يرجى ثوابه .
( ويطعمون الطعام - على حبه - مسكينا ويتيما وأسيرا ) . .
وهي تصور شعور البر والعطف والخير ممثلا في إطعام الطعام ، مع حبه بسبب الحاجة إليه . فمثل هذه القلوب لا يقال عنها : إنها تحب الطعام الذي تطعمه للضعاف المحاويج على اختلاف أنواعهم . إلا أن تكون في حاجة هي إلى هذا الطعام ، ولكنها تؤثر به المحاويج .
وهذه اللفتة تشي بقسوة البيئة في مكة بين المشركين ؛ وأنها كانت لا تفضي بشيء للمحاويج الضعاف ؛ وإن كانت تبذل في مجالات المفاخرة الشيء الكثير . فأما الأبرار عباد الله فكانوا واحة ظليلة في هذه الهاجرة الشحيحة . وكانوا يطعمون الطعام بأريحية نفس ، ورحمة قلب ، وخلوص نية . واتجاه إلى الله بالعمل ، يحكيه السياق من حالهم ، ومن منطوق قلوبهم .
وقوله : وَيُطْعمُونَ الطّعامَ على حُبّهِ مِسْكينا يقول تعالى ذكره : كان هؤلاء الأبرار يطعمون الطعام على حبهم إياه ، وشهوتهم له . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا يحيى بن طلحة اليربوعي ، قال : حدثنا فضيل بن عياض ، عن منصور ، عن مجاهد ، في قوله : وَيُطْعمُونَ الطّعامَ عَلى حُبّهِ قال : وهم يشتهونه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا أبو العريان ، قال : سألت سليمان بن قيس أبا مقاتل بن سليمان ، عن قوله : وَيُطْعِمُونَ الطّعامَ عَلى حُبّهِ مِسْكِينا قال : على حبهم للطعام .
وقوله : مِسْكِينا يعني جلّ ثناؤه بقوله مسكينا : ذوي الحاجة الذين قد أذلتهم الحاجة ، وَيَتِيما : وهو الطفل الذي قد مات أبوه ولا شيء له وأسِيرا : وهو الحربيّ من أهل دار الحرب يُؤخذ قهرا بالغلبة ، أو من أهل القبلة يُؤخذ فيُحبس بحقّ فأثنى الله على هؤلاء الأبرار بإطعامهم هؤلاء تقرّبا بذلك إلى الله وطلب رضاه ، ورحمة منهم لهم .
واختلف أهل العلم في الأسير الذي ذكره الله في هذا الموضع ، فقال بعضهم : بما :
حدثنا به بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَيُطْعِمُونَ الطّعامَ عَلى حُبّهِ مِسْكِينا وَيَتِيما وأسِيرا قال : لقد أمر الله بالأُسراء أن يحسن إليهم ، وإن أسراهم يومئذٍ لأهل الشرك .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وأسِيرا قال : كان أسراهم يومئذٍ المشرك ، وأخوك المسلم أحقّ أن تطعمه .
قال : ثنا المعتمر ، عن أبيه ، عن أبي عمرو أن عكرِمة قال في قوله : وَيُطْعِمُونَ الطّعامَ عَلى حُبّهِ مِسْكِينا وَيَتِيما وأسِيرا زعم أنه قال : كان الأسرى في ذلك الزمان المشرك .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا حماد بن مسعدة ، قال : حدثنا أشعث ، عن الحسن وَيَتِيما وأسِيرا قال : ما كان أسراهم إلا المشركين .
وقال آخرون : عُني بذلك : المسجون من أهل القبلة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : الأسير : المسجون .
حدثني أبو شيبة بن أبي شيبة ، قال : حدثنا عمر بن حفص ، قال : ثني أبي عن حجاج ، قال : ثني عمرو بن مرّة ، عن سعيد بن جُبير في قوله الله : مِسْكِينا وَيَتِيما وأسيرامن أهل القبلة وغيرهم ، فسألت عطاء ، فقال مثل ذلك .
حدثني علي بن سهل الرملي ، قال : حدثنا يحيى يعني ابن عيسى ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وأسيرا قال : الأسير : هو المحبوس .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله وصف هؤلاء الأبرار بأنهم كانوا في الدنيا يطعمون الأسير ، والأسير الذي قد وصفت صفته واسم الأسير قد يشتمل على الفريقين ، وقد عمّ الخبر عنهم أنهم يطعمونهم ، فالخبر على عمومه حتى يخصه ما يجب التسليم له . وأما قول من قال : لم يكن لهم أسير يومئذٍ إلا أهل الشرك ، فإن ذلك وإن كان كذلك ، فلم يخصص بالخبر الموفون بالنذر يومئذٍ ، وإنما هو خبر من الله عن كلّ من كانت هذه صفته يومئذٍ وبعده إلى يوم القيامة ، وكذلك الأسير معنيّ به أسير المشركين والمسلمين يومئذٍ ، وبعد ذلك إلى قيام الساعة .
وقوله تعالى : { على حبه } يحتمل أن يعود الضمير على الطعام ، أي وهو محبوب للفاقة والحاجة ، وهذا قول ابن عباس ومجاهد ويحتمل أن يعود على الله تعالى أي لوجهه وابتغاء مرضاته ، قاله أبو سليمان الدراني . والأول أمدح لهم لأن فيه الإيثار على النفس . وعلى الاحتمال الثاني فقد يفعله الأغنياء أكثر ، وقال الحسين بن الفضل : الضمير عائد على الإطعام ، أي محبين في فعلهم ذلك لا رياء فيه ولا تكلف ، و «المسكين » الطواف المتكشف في السؤال ، و «اليتيم » الصبي الذي لا أب له من الناس . والذي لا أم له من البهائم وهي صفة قبل البلوغ ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «لا يتم بعد حلم »{[11507]} و «الأسير » معروف ، فقال قتادة : أراد أسرى الكفار وإن كانوا على غير الإسلام ، وقال الحسن : ما كان أسراهم إلا مشركين ، لأن كل كبد رطبة ففيها أجر . وقال بعض العلماء : هذا إما نسخ بآية السيف وإما أنه محكم لتحفظ حياة الأسير إلى أن يرى الإمام فيه ما يرى ، وقال مجاهد وابن جبير وعطاء : أراد المسجونين من الناس ، ولهذا يحض على صدقة السجن ، فهذا تشبيه ، ومن قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه : لا يؤسر أحد في الإسلام بغير العدول{[11508]} . وروى الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الأسير هنا بالمملوك والمسجون{[11509]} ، وقال : أراد أسرى المسلمين الذين تركوا في بلاد الحرب رهائن وخرجوا في طلب الفداء ، وقال أبو حمزة الثمالي{[11510]} : الأسير هنا المرأة ، ودليله قوله صلى الله عليه وسلم : «استوصوا بالنساء خيراً فإنهن عوانٍ عندكم »{[11511]} .