معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{أَمۡ خُلِقُواْ مِنۡ غَيۡرِ شَيۡءٍ أَمۡ هُمُ ٱلۡخَٰلِقُونَ} (35)

قوله تعالى : { أم خلقوا من غير شيء } قال ابن عباس : من غير رب ، ومعناه : أخلقوا من غير شيء خلقهم فوجدوا بلا خالق ؟ وذلك مما لا يجوز أن يكون ، لأن تعلق الخلق بالخالق من ضرورة الاسم ، فلا بد له من خالق ، فإن أنكروا الخالق لم يجز أن يوجدوا بلا خالق ، { أم هم الخالقون } لأنفسهم وذلك في البطلان أشد ، لأن ما لا وجود له كيف يخلق ؟ فإذا بطل الوجهان قامت الحجة عليهم بأن لهم خالقاً فليؤمنوا به ، ذكر هذا المعنى أبو سليمان الخطابي . وقال الزجاج : معناه : أخلقوا باطلاً لا يحاسبون ولا يؤمرون ؟ وقال ابن كيسان : أخلقوا عبثاً وتركوا سدىً لا يؤمرون ولا ينهون ، فهو كقول القائل : فعلت كذا وكذا من غير شيء ، أي : لغير شيء ، أم هم الخالقون لأنفسهم فلا يجب عليهم لله أمر ؟

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{أَمۡ خُلِقُواْ مِنۡ غَيۡرِ شَيۡءٍ أَمۡ هُمُ ٱلۡخَٰلِقُونَ} (35)

{ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ } وهذا استدلال عليهم ، بأمر لا يمكنهم فيه إلا التسليم للحق ، أو الخروج عن موجب العقل والدين ، وبيان ذلك : أنهم منكرون لتوحيد الله ، مكذبون لرسوله ، وذلك مستلزم لإنكار أن الله خلقهم .

وقد تقرر في العقل مع الشرع ، أن الأمر لا يخلو من أحد ثلاثة أمور :

إما أنهم خلقوا من غير شيء أي : لا خالق خلقهم ، بل وجدوا من غير إيجاد ولا موجد ، وهذا عين المحال .

أم هم الخالقون لأنفسهم ، وهذا أيضا محال ، فإنه لا يتصور أن يوجدوا أنفسهم{[885]}

فإذا بطل [ هذان ] الأمران ، وبان استحالتهما ، تعين [ القسم الثالث ] أن الله الذي خلقهم ، وإذا تعين ذلك ، علم أن الله تعالى هو المعبود وحده ، الذي لا تنبغي العبادة ولا تصلح إلا له تعالى .


[885]:- في ب:أن يوجد أحد نفسه.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{أَمۡ خُلِقُواْ مِنۡ غَيۡرِ شَيۡءٍ أَمۡ هُمُ ٱلۡخَٰلِقُونَ} (35)

{ أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَىْءٍ } .

إضراب انتقالي إلى إبطال ضرب آخر من شبهتهم في إنكارهم البعث ، وقد علمت في أول السورة أن من أغراضها إثبات البعث والجزاءِ على أن ما جاء بعده من وصف يوم الجزاء وحال أهله قد اقتضته مناسبات نشأت عنها تلك التفاصيل ، فإذْ وُفّي حقُّ ما اقتضته تلك المناسبات ثُنِي عِنان الكلام إلى الاستدلال على إمكان البعث وإبطال شبهتهم التي تعللوا بها من نحو قولهم : { أإذا كنا عظاماً ورفاتاً إنا لمبعوثون خلقاً جديداً } [ الإسراء : 49 ] .

فكان قوله تعالى : { أم خلقوا من غير شيء } الآيات أدلةً على أن ما خلقه الله من بَدْء الخلق أعظم من إعادة خلق الإِنسان . وهذا متصل بقوله آنفاً { إن عذاب ربك لواقع } [ الطور : 7 ] لأن شبهتهم المقصود ردها بقوله : { إن عذاب ربك لواقع هي قولهم : { أإذا كنا عظاماً ورفاتاً إنا لمبعوثون } [ الإسراء : 49 ] ، ونحو ذلك .

فحرف ( مِن ) في قوله : { من غير شيء } يجوز أن يكون للابتداء ، فيكون معنى الاستفهام المقدر بعد ( أم ) تقريرياً . والمعنى : أيقرُّون أنهم خلقوا بعد أن كانوا عَدماً فكلما خلقوا من عدم في نشأتهم الأولى يُنْشأون من عدم في النشأة الآخرة ، وذلك إثبات لإِمكان البعث ، فيكون في معنى قوله تعالى : { فلينظر الإنسان ممَّ خلق خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب إنه على رجعه لقادر } [ الطارق : 5 8 ] وقوله : { كما بدأنا أول خلق نعيده } [ الأنبياء : 104 ] ونحو ذلك من الآيات .

ومعنى { شيء } على هذا الوجه : الموجودُ فغير شَيء : المعدومُ ، والمعنى : اخُلقوا من عدم . ويجوز أن تكون ( مِن ) للتعليل فيكون الاستفهام المقدر بعد ( أم ) إنكارياً ، ويكون اسم { شيء } صادقاً على ما يصلح لمعنى التعليل المستفاد من حرف ( مِن ) التعليلية ، والمعنى : إنكار أن يكون خلقهم بغير حكمة ، وهذا إثبات أن البعث واقع لأجل الجزاء على الأعمال ، بأن الجزاء مقتضى الحكمة التي لا يخلو عنها فعل أحكم الحكماء ، فيكون في معنى قوله تعالى : { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون } [ المؤمنون : 115 ] وقوله : { ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية } [ الحجر : 85 ] .

ولحرف ( مِن ) في هذا الكلام الوَقْع البديع إذ كانت على احتمال معنييها دليلاً على إمكان البعث وعلى وقوعه وعلى وجوب وقوعه وجوباً تقتضيه الحكمة الإِلهية العليا . ولعل العدول عن صوغ الكلام بالصيغة الغالبة في الاستفهام التقريري ، أعني صيغة النفي بأن يقال : أما خلقوا من غير شيء ؛ والعدولَ عن تعيين ما أضيف إليه { غَير } إلى الإِتيان بلفظٍ مبهم وهو لفظ شيء ، روعي فيه الصلاحية لاحتمال المعنيين وذلك من منتهى البلاغة .

وإذ كان فرض أنهم خلقوا من غير شيء واضح البطلان لم يحتج إلى استدلال على إبطاله بقوله :

{ أَمْ هُمُ الخالقون } .

وهو إضراب انتقال أيضاً ، والاستفهام المقدر بعد { أم } إنكاري ، أي ما هم الخالقون وإذ كانوا لم يدّعوا ذلك فالانكار مرتب على تنزيلهم منزلة من يزعمون أنهم خالقون .

وصيغت الجملة في صيغة الحصر الذي طريقهُ تعريف الجُزأَيْن قصراً إضافياً للرد عليهم بتنزيلهم منزلة من يزعم أنهم الخالقون لا الله ، لأنهم عدُّوا من المحال ما هو خارج عن قدرتهم ، فجعلوه خارجاً عن قدرة الله ، فالتقدير : أم هم الخالقون لا نحن . والمعنى : نحن الخالقون لا هم .

وحذف مفعول { الخالقون } لقصد العموم ، أي الخالقون للمخلوقات وعلى هذا جرى الطبري وقدره المفسرون عدا الطبري : أم هم الخالقون أنفسَهم كأنهم جعلوا ضمير { أم خلقوا من غير شيء } دليلاً على أن المحذوف اسم مَعاد ذلك الضمير ولا افْتراء في انتفاء أن يكونوا خالقين ، فلذلك لم يُتصدّ إلى الاستدلال على هذا الانتفاء .