اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{أَمۡ خُلِقُواْ مِنۡ غَيۡرِ شَيۡءٍ أَمۡ هُمُ ٱلۡخَٰلِقُونَ} (35)

قوله : «أَمْ خُلِقُوا » لا خلاف أن «أم » هنا ليست بمعنى بل لكن أكثر المفسرين على أن المراد ما وقع في صدر الكلام من الاستفهام بالهمزة كأنه يقول : «أَخُلِقُوا مِنْ غير شيء »{[53240]} .

قال ابن الخطيب : ويحتمل أن يقال : هو على أصل الوضع للاستفهام الذي يقع في أثناء الكلام وتقديره : أَم خُلِقُوا من غير شيء أم هم الخالقون ؟{[53241]}

قوله : { مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ } يجوز أن تكون «من » لابْتِدَاء الغاية على معنى : أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شيء حَيٍّ كالجَمَادِ فهم لا يُؤْمَرُون ولا يُنْهَوْنَ كما الجَمَادَات ، وقيل : هي للسَّبَبِيَّة على معنى من غير عِلَّةٍ{[53242]} ، ولاَ لِغَايَةِ{[53243]} ثوابٍ ولا عقابٍ .

فصل

وجه تعلق الآية بما قبلها أنهم لما كذبوا النبي - عليه الصلاة والسلام - ونسبوه إلى الكَهَانَةِ والشِّعْر والجُنُونِ وبرأه الله من ذلك ذكر الدليل على صِدْقِهِ إبطالاً لتكذيبهم وبدأ بأنفسهم فكأنه يقول : كيف تكذبونَهُ{[53244]} وفي أنفسكم دليل صدقه ، لأن قوله كانَ في ثلاثة أشياء ، في التوحيدِ ، والحَشْرِ ، والرسالة ففي أنفسهم ما يعلم صدقه وهو أنهم خلقوا وذلك دليل التوحيد لما تقدم أنَّ :

فِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ *** تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الوَاحِدُ ؟

وأما الحشر فلأن الخلق الأول دليل على جواز الخلق الثاني{[53245]} .

فصل

قال المفسرون : معنى الآية : أم خلقوا من غير شَيْءٍ فوُجِدُوا بلا خالق وذلك مما لا يجوز أن يكون { أَمْ هُمُ الخالقون } لأنفسهم وذلك في البُطْلاَن أشدُّ ؛ لأن ما لا وجودَ له كيف يخلق فإذا بَطَلَ الوجهان قامت الحجة عليهم بأن لهم خالقاً فليؤمنوا به . قال هذا المعنى أبو سليمان الخَطَّابِيُّ{[53246]} . وقال الزجاج : معناه أَخُلِقُوا باطلاً لا يُحَاسَبُون ولا يُؤْمِنُون{[53247]} وقال ابْنُ كَيْسَانَ : أخلقوا عبثاً وتركوا سُدًى لا يُؤْمَرُونَ ولا يُنهَوْن كقول القائل فعلت كذا وكذا ( وقوله ) : { مِنْ غير شيء } لغير شيء { أَمْ هُمُ الخالقون } لأنفسهم فلا يجب عليهم لله أمر{[53248]} .

وقيل : معناه أخلقوا من غير أبٍ وأُمٍّ{[53249]} .

قال ابن الخطيب : ويحتمل أن يقال : أم خلقوا من غير شيء أي أَلَمْ يُخْلَقُوا من ترابٍ أو من ماء لقوله تعالى : { أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ } [ المرسلات : 20 ] ويحتمل أن يقال : الإستفهام ليس بنفي بل هو بمعنى الإثبات كقوله تعالى : { أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الخالقون } و{ أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزارعون } و{ أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ المنشئون } [ الواقعة : 59 و64 و72 ] كل ذلك في الأول منفي وفي الثاني مثبت كذلك ههنا قال تعالى : { أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ } أي إنَّ الصادقَ هو الثاني وهذا حينئذ كقوله تعالى : { هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدهر لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } [ الإنسان : 1 ] .

فإن قيل : كيف يكون ذلك الإثبات والآدمي خلق من تراب ؟

نقول : والتراب خلق من غير شيء ، فالإنسان إذا نظرت إلى خلقه ونظرت إلى ابتداء أمره تجده مخلوقاً من غير شيء .

أو نقول : المراد أم خلقوا من غير شيء مذكوراً أو متغيراً وهو الماء المَهِينُ ؟{[53250]}


[53240]:أو هل قاله الرازي في تفسيره 28/259، والقرطبي في الجامع 17/74.
[53241]:الرازي السابق. أقول: ويقصد "بأم" الثانية لا الأولى.
[53242]:ذكر هذين الوجهين أبو حيان في البحر 8/152.
[53243]:في ب ولا لقاء ثواب ولا عقاب.
[53244]:في ب والرازي يكذبونه بيان الغيبة.
[53245]:وانظر تفسير الإمام 28/259.
[53246]:انظر هذا القول في معالم التنزيل للبغوي 6/525. أبو سليمان الخطّابي هو: حَمَد بن محمد بن إبراهيم أبو سليمان الخطّابي كان حُجة صدوقا، له من التصانيف غريب الحديث، شرح البخاري. مات سنة 388 هـ انظر بغية الوعاة 1/547.
[53247]:الصحيح أن الزجاج قال بمعنى آخر خلاف هذا المعنى وهذا المعنى المذكور هو رأي نقله في كتاب لغيره قال: "معناه بل أخلقوا من غير شيء" وفي المعاني له: "لا يؤمرون" بدل يؤمنون. وانظر المعاني 5/65.
[53248]:وانظر هذه الأقوال والمعاني مجتمعة في البغوي 6/252، وانظر أيضا القرطبي 17/74.
[53249]:السابق والرازي 28/260.
[53250]:الرازي السابق.