فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{أَمۡ خُلِقُواْ مِنۡ غَيۡرِ شَيۡءٍ أَمۡ هُمُ ٱلۡخَٰلِقُونَ} (35)

{ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ( 35 ) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ ( 36 ) } .

يحرك القرآن المدارك ، ويحضها على التفكر والتبصر ، وينكر على الجاهلين غفلتهم وضلالهم ، وبهذا الاستفهام الإنكاري تقوم لله تعالى حجة بالغة ، فهل خلق الناس من غير خالق ؟ كيف يقول عاقل بذلك ؟ ! أهي صدفة أوْجَدَتْهم ؟ كلا ؟ فإن الصدفة ليست قوة فاعلة ، ولا مريدة ولا عاقلة{[5639]} ؛ لقد أقرّ كثير من العلماء التجريبيين{[5640]} هدتهم علومهم التطبيقية إلى أن الحكمة البالغة في إبداع الكائنات لا تدع مجالا للشك في أن مبدع الكون إله مريد مدبر – والحكماء الأقدمون{[5641]} أقروا باستحالة تصديق خلق الكون صدفة ، كما نقل أحد علمائنا{[5642]} المعاصرين عن الحكماء المسلمين أكثر من برهان على بطلان الصدفة ، ومنها : لو فرض أنك تملك مطبعة فيها نصف مليون حرف متفرقة في صناديقها ، فجاءت هزة أرضية قوية قلبت صناديق الحروف بعضها على بعض وبعثرتها وخلطتها ، ثم جاءك منضّد الحروف يخبرك أن حروف المطبعة بكاملها كونت-عند اختلاطها- بالمصادفة كتابا كاملا من خمسمائة صفحة ، وينطوي الكتاب على قصيدة واحدة تؤلف بمجموعها وحدة كاملة مترابطة متلائمة منسجمة بألفاظها وأوزانها وقوافيها ومعانيها ، فهل تصدق ذلك ؟ ! . أه .

وأورد الشيخ النيسابوري{[5643]}عن علماء القرآن ما حاصله{[5644]} : قدّر في ذهنك بيتا منسق البنيان ، فاخر الأثاث والرياش ، قائما على جبل مرتفع ، تكتنفه غابة كثيفة . . وقدّر أن رجلا جاء إلى هذا البيت فلم يجد فيه ولا حوله ديّارا ولا نافخ نار ، فحدثته نفسه بأنه عسى أن تكون صخور الجبل قد تناثر بعضها ثم تجمع ما تناثر منها ليأخذ شكل هذا القصر البديع بما فيه من مخادع ومقاصير وأبهاء ومرافق ، وأن تكون أشجار الغابة قد تشققت بنفسها ألواحا وتركبت أبوابا وسررا ومقاعد ومناضد ثم أخذ كل منها مكانه فيه ، وأن تكون خيوط النبات ، وأصواف الحيوان وأوباره قد تحولت بنفسها أنسجة موشاة ثم تقطعت طنافس وزرابي فانبثت في حجراته واستقرت على أرائكه ، وأن المصابيح جعلت تهوى إليه بنفسها من كل مكان فنشبت في سقفه زرافات ووحدانا . . ألست تحكم بأن هذا حلم نائم أو حديث خرافة قد أصيب صاحبه باختلاط في عقله ؟ فما ظنك بقصر السماء سقفه والأرض قراره ، والجبال أوتاده والنبات زينته ، والقمر والنجوم مصابيحه ؟ ! أيكون في حكم العقل أهون شأنا من ذلك البيت الصغير ؟ أو لا يكون أخلق بلفت النظر إلى بارئ مصور حي قيوم ، خلق فسوى وقدر فهدى ؟ أه .

{ أم هم الخالقون . أم خلقوا السماوات والأرض } بل هم يكذبون أنفسهم ، فقد أقرّوا بأن الله هو الخلاق ؛ وصدق ربنا الذي يقول : { ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنّى يؤفكون }{[5645]} .

روى البخاري في صحيحه بسنده عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه{[5646]} رضي الله عنهما قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب{[5647]} بالطور{[5648]} فلما بلغ هذه الآية {[5649]}{ أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون . أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون . أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون } كاد قلبي أن يطير . {[5650]}

{ بل لا يوقنون } مع إقرارهم بأن المولى- سبحانه- هو خالق كل شيء فإن ترددهم وظهور أمارات الريب والشك منهم يُلْحِقُهم بالمنكرين ؛ وهكذا فما لم يكن العلم بجلال الله وصدق وعده وكلماته علما يقينا فكأنه هو والجحود سواء .

ألم تر كيف وصف القرآن من نقص علمهم بالآخرة بأن هذا أسلمهم إلى الشك ثم إلى عمى القلوب ؟ ! : { بل ادراك علمهم في الآخرة{[5651]} بل هم في شك منها{[5652]} بل هم منها عمون }{[5653]} يعني : فقالوا : تكون ، وقالوا : لا تكون ، فهم في ريبهم يترددون ؛ كما بين أن موجبات دخول النار النزول عن درجة اليقين ؛ وأقام الحجة بذلك على الظانين المرتابين : { وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين . وبدا لهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون . وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين }{[5654]} .


[5639]:نقل عن رائد الفضاء الأمريكي- بعد أن ذكر أن الشمس تقع على مسافة حوالي 30ألف سنة ضوئية من مركز المجرة وتدور في مدار خاص كل 20مليون سنة أثناء دوران المجرة- قوله: أكانت مصادفة أن حزمة من نفايات الغاز الطافية بدأت فجأة في صنع هذه المدارات؟ إنني لا أستطيع تصديق ذلك..بل إن ذلك مستحيل اهـ هذا: والسنة الضوئية تقدر بحوالي 9مليون كيلو متر.
[5640]:جاء في كتب منها:[العلم يدعو للإيمان] للأستاذ كريستي موريسون رئيس أكاديمية العلوم بنيويورك، وعضو المجلس التنفيذي لمجلس البحوث القومي بالولايات المتحدة سابقا- ترجمة محمود صالح الفلكي- وكذا كتاب:[الله يتجلى في عصر العلم] وغيرهما.
[5641]:مما قاله أفلوطين- وكان ذلك فيما بين سنة207، 240م- :إن هذا العالم كثير الظواهر دائم التغيير فلا يمكن أن يكون قد أوجد نفسه، بل لابد من خالق مبدع، وهذا الخالق هو الله، وهو واحد أزلي أبدي قائم بنفسه، وهو فوق المادة وفوق الروح أهـ. وأفلاطون- وإن كان قد تخبط في سر الخلق، كما تخبط تلميذه أرسطو، وتابعه ابن رشد في القول بقدم العالم بمادته وصورته، وحركته ومحركه؛ يقول أفلاطون: إن العالم آية في الجمال والنظام لا يمكن أبدا أن يكون هذا نتيجة علل اتفاقية، بل هو من صنع عاقل كامل، توخى الخير، ورتب كل شيء عن قصد وحكمة أهـ. وإكساغورس قال: من المستحيل على قوة عمياء أن تبدع هذا الجمال وهذا النظام اللذين يتجليان في هذا العالم، لأن القوة العمياء لا تنتج إلا الفوضى، فالذي يحرك المادة هو عقل رشيد بصير حكيم.أهـ.
[5642]:الشيخ نديم الجسر، مفتي طرابلس، وصاحب كتاب [قصة الإيمان] نقل عن الرسالة الحميدية، تأليف: حسين أفندي الجسر، وعن حيران بن الأضعف، وهذان نقلا عن ابن سينا والغزالي والفارابي وابن خلدون وابن طفيل وغيرهم.
[5643]:هو الحسن بن محمد بن حسين القمي، صاحب تفسير: غرائب القرآن ورغائب الفرقان، وهو ينقل عن التفسير الكبير وعن الكشاف وغيرهما.
[5644]:اقتبسه ثم صاغ الكثير منه ببيانه الرقيق الدقيق الأستاذ.محمد عبد الله دراز؛ عليه رحمة الله.
[5645]:سورة الزخرف. الآية 87.
[5646]:جبير بن مطعم، صحابي جليل، أسلم بعد الحديبية، وأبوه: مطعم بن عدي الذي أجار النبي صلى الله عليه وسلم مرجعه من الطائف، وكان ممن سعى في نقض الصحيفة، ومع أن المطعم مات مشركا، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يعرف له تلك اليد، وهذه المكرمة، حتى روى أصحاب السير أن جبيرا لما كلم النبي في فداء الأسرى بعد غزوة بدر قال له:"لو كان أبوك الشيخ حيا لشفعناه".
[5647]:في صلاة المغرب.
[5648]:يعني بسورة الطور.
[5649]:هن ثلاث آيات، لكن هذا ربما يكون من باب ما تعارف عليه العرب من أن العدد قد لا يراد به تحديد المعدود-أحيانا-.
[5650]:يقول الحافظ ابن كثير وهذا الحديث مخرج في الصحيحين عن طرق عن الزهري به، كما نقل أن جبير بن مطعم كان قد قدم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أسارى بدر، وكان إذ ذاك مشركا، فكان سماعه هذه الآية من هذه السورة من جملة ما حمله على الدخول في الإسلام بعد ذلك.
[5651]:في شأن حقيقة الآخرة ومجيئها.
[5652]:كانوا في دنياهم يشكون في أن يجيء بعد ذلك بعث وحساب وجزاء.
[5653]:يعني: عميت قلوبهم عن الاطمئنان بهذا الحق وتصديقه، والآية رقم 66 من سورة النمل.
[5654]:سورة الجاثية. الآيات: 32، 33، 34.