{ 39 } { وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }
هذا بيان لحال المكذبين بآيات الله ، المكذبين لرسله ، أنهم قد سدوا على أنفسهم باب الهدى ، وفتحوا باب الردى ، وأنهم { صُمٌّ } عن سماع الحق { وَبُكْمٌ } عن النطق به ، فلا ينطقون إلا بباطل{[287]} .
{ فِي الظُّلُمَاتِ } أي : منغمسون في ظلمات الجهل ، والكفر ، والظلم ، والعناد ، والمعاصي . وهذا من إضلال الله إياهم ، ف { مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } لأنه المنفرد بالهداية والإضلال ، بحسب ما اقتضاه فضله وحكمته .
كأنه قال وما من دابة ولا طائر ولا شيء إلا فيه آية منصوبة على وحدانية الله تعالى ، ولكن الذين كذبوا صم وبكم لا يتلقون ذلك ولا يقبلونه ، وظاهر الآية أنها تعم كل مكذب ، وقال النقاش نزلت في بني عبد الدار{[4910]} .
قال القاضي أبو محمد : ثم انسحبت على سواهم ، ثم بيّن أن ذلك حكم من الله عز وجل بمشيئته في خلقه فقال مبتدئاً الكلام { من يشأ الله يضلله } شرط وجوابه{[4911]} ، وقوله : { في الظلمات } ينوب عن «عمي » ، وفي الظلمات أهول عبارة وأفصح وأوقع في النفس ، والصراط الطريق الواضح .
يجوز أن تكون الواو للعطف ، والمعطوف عليه جملة : { إنّما يستجيب الذين يسمعون } . والمعنى : والذين كذّبوا بآياتنا ولم يستمعوا لها ، أي لا يستجيبون بمنزلة صمّ وبكم في ظلمات لا يهتدون .
ويجوز أن تكون الجملة مستأنفة والواو استئنافية ، أي عاطفة كلاماً مبتدأ ليس مرتبطاً بجملة معيّنة من الكلام السابق ولكنّه ناشيء عن جميع الكلام المتقدّم . فإنّ الله لمّا ذكر من مخلوقاته وآثار قدرته ما شأنه أن يعرّف الناس بوحدانيته ويدلّهم على آياته وصدق رسوله أعقبه ببيان أنّ المكذّبين في ضلال مبين عن الاهتداء لذلك ، وعن التأمّل والتفكير فيه ، وعلى الوجهين فمناسبة وقوع هذه الجملة عقب جملة : { وما من دابة في الأرض } [ الأنعام : 38 ] الآية قد تعرّضنا إليها آنفاً .
والمراد بالذين كذّبوا المشركون الذين مضى الكلام على أحوالهم عموماً وخصوصاً .
وقوله : { صمّ وبكم في الظلمات } تمثيل لحالهم في ضلال عقائدهم والابتعاد عن الاهتداء بحال قوم صمّ وبُكم في ظلام . فالصّمم يمنعهم من تلقِّي هدى من يهديهم ، والبكَم يمنعهم من الاسترشاد ممّن يمرّ بهم ، والظلام يمنعهم من التبصّر في الطريق أو المنفذ المخرج لهم من مأزقهم .
وإنَّما قيل في { الظلمات } ولم يوصفوا بأنَّهم عُمّي كما في قوله : { عُميا وبُكما وصمّا } [ الإسراء : 97 ] ليكون لبعض أجزاء الهيئة المشبَّهة بها ما يصلح لشبه بعض أجزاء الهيئة المشبَّهة ، فإنّ الكفر الذي هم فيه والذي أصارهم إلى استمرار الضلال يشبه الظلمات في الحيلولة بين الداخل فيه وبين الاهتداء إلى طريق النجاة . وفي الحديث : « الظلم ظلمات يوم القيامة » فهذا التمثيل جاء على أتمّ شروط التمثيل . وهو قبوله لتفكيك أجزاء الهيئتين إلى تشبيهات مفردة ، كقول بشّار :
كأنّ مُثَار النّقع فوقَ رؤوسنا *** وأسيافنا ليل تَهاوَى كواكبُه
وجمع الظلمات جار على الفصيح من عدم استعمال الظلمة مفرداً . وقد تقدّم في صدر السورة ، وقيل : للإشارة إلى ظلمة الكفر ، وظلمة الجهل ، وظلمة العناد .
وقوله : { صمّ وبكم } خبر ومعطوف عليه . وقوله : { في الظلمات } خبر ثالث لأنّه يجوز في الأخبار المتعددة ما يجوز في النعوت المتعدّدة من العطف وتركه .
وقوله : { من يشأ الله يضلله } استئناف بياني لأنّ حالهم العجيبة تثير سؤالاً وهو أن يقول قائل ما بالهم لا يهتدون مع وضوح هذه الدلائل البيّنات ، فأجيب بأنّ الله أضلّهم فلا يهتدون ، وأنّ الله يضلّ من يشاء ويهدي من يشاء ، فدلّ قوله : { من يشأ الله يضلله } على أنّ هؤلاء المكذّبين الضالّين هم ممَّن شاء الله إضلالهم على طريقة الإيجاز بالحذف لظهور المحذوف ، وهذا مرتبط بما تقدّم من قوله تعالى : { ولو شاء الله لجمعهم على الهدى } [ الأنعام : 35 ] .
ومعنى إضلال الله تقديره الضلال ؛ بأن يخلق الضّالّ بعقل قابل للضلال مُصرّ على ضلاله عنيد عليه فإذا أخذ في مبادىء الضلال كما يعرض لكثير من الناس فوعظه واعظ أو خطر له في نفسه خاطر أنَّه على ضلال منعه إصراره من الإقلاع عنه فلا يزال يهوي به في مهاوي الضلالة حتَّى يبلغ به إلى غاية التخلّق بالضلال فلا ينكفّ عنه .
وهذا ممّا أشار إليه قوله تعالى : { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين } [ التين : 4 ، 5 ] ، ودلّ عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم « إنّ الرجل ليَصْدُق حتَّى يكون صدّيقاً وإنّ الرجل ليكذب حتَّى يُكتب عند الله كذّاباً » وكلّ هذا من تصرّف الله تعالى بالتكوين والخلق وهو تصرّف القدر . وله اتِّصال بناموس التسلسل في تطوّر أحوال البشر في تصرّفات بعقولهم وعوائدهم ، وهي سلسلة بعيدة المدى اقتضتها حكمة الله تعالى في تدبير نظام هذا العالم ، ولا يعلم كنهها إلاّ الله تعالى ، وليس هذا الإضلال بالأمر بالضلال فإنّ الله لا يأمر بالفحشاء ولا بتلقينه والحثّ عليه وتسهيله فإنّ ذلك من فعل الشيطان ، كما أنّ الله قد حرم من أراد إضلاله من انتشاله واللطف به لأنّ ذلك فضل مَن هو أعلم بأهله . ومفعول { يشأ } محذوف لدلالة جواب الشرط عليه ، كما هو الشائع في مفعول فعل المشيئة الواقع شرطاً .
والصراط هو الطريق البيّن . ومعنى المستقيم أنّه لا اعوجاج فيه ، لأنّ السّير في الطريق المستقيم أيسر على السائر وأقرب وصولاً إلى المقصود .
ومعنى ( على ) الاستعلاء ، وهو استعلاء السائر على الطريق . فالكلام تمثيل لحال الذي خلقه الله فمَنّ عليه بعقل يرعوي من غيّه ويُصغي إلى النصيحة فلا يقع في الفساد فاتّبع الدين الحقّ ، بحال السائر في طريق واضحة لا يتحيَّر ولا يخطىء القصد ، ومستقيمة لا تطوح به في طول السير . وهذا التمثيل أيضاً صالح لتشبيه كلّ جزء من أجزاء الهيئة المشبّهة بجزء من أجزاء الهيئة المشبّه بها ، كما تقدّم في نظيره . وقد تقدّم شيء من هذا عند قوله تعالى : { اهدنا الصراط المستقيم } [ الفاتحة : 6 ] . فالدين يشبه الصراط الموصّل بغير عناء ، والهدي إليه شبيه الجعل على الصراط .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.