قوله تعالى : { وكذلك زين لكثير من المشركين } ، أي : كما زين لهم تحريم الحرث والأنعام كذلك زين لكثير من المشركين .
قوله تعالى : { قتل أولادهم شركاؤهم } ، قال مجاهد : شركاؤهم ، أي : شياطينهم زينوا وحسنوا لهم وأد البنات خيفة العيلة ، سميت الشياطين شركاء لأنهم أطاعوهم في معصية الله ، وأضيف شركاء إليهم لأنهم اتخذوها .
وقال الكلبي : شركاؤهم : سدنة آلهتهم الذين كانوا يزينون للكفار قتل الأولاد ، وكان الرجل منهم يحلف لئن ولد له كذا غلاماً لينحرن أحدهم كما حلف عبد المطلب على ابنه عبد الله . وقرأ ابن عامر : ( زين ) بضم الزاي وكسر الياء ، ( قتل ) رفع ( أولادهم ) نصب ، ( شركائهم ) بالخفض على التقديم ، كأنه قال : زين لكثير من المشركين قتل شركائهم أولادهم ، فصل بين الفعل وفاعله بالمفعول به ، وهم الأولاد ، كما قال الشاعر :
فزججته متمكنا *** زج القلوص أبي مزاده
أي : زج أبي مزادة القلوص ، فأضيف الفعل وهو القتل إلى الشركاء ، وإن لم يتولوا ذلك ، لأنهم هم الذين زينوا ذلك ودعوا إليه ، فكأنهم فعلوه .
قوله تعالى : { ليردوهم } ، ليهلكوهم .
قوله تعالى : { وليلبسوا عليهم } ، ليخلطوا عليهم .
قوله تعالى : { دينهم } ، قال ابن عباس : ليدخلوا عليهم الشك في دينهم ، وكانوا على دين إسماعيل فرجعوا عنه بلبس الشياطين .
قوله تعالى : { ولو شاء الله ما فعلوه } ، أي : لو شاء الله لعصمهم حتى ما فعلوا ذلك من تحريم الحرث والأنعام وقتل الأولاد .
قوله تعالى : { فذرهم } يا محمد .
قوله تعالى : { وما يفترون } ، يختلقون من الكذب ، فإن الله تعالى لهم بالمرصاد .
ومن سفه المشركين وضلالهم ، أنه زيَّن لكثير من المشركين شركاؤهم -أي : رؤساؤهم وشياطينهم- قتل أولادهم ، وهو : الوأد ، الذين يدفنون أولادهم الذكور خشية الافتقار ، والإناث خشية العار .
وكل هذا من خدع الشياطين ، الذين يريدون أن يُرْدُوهم بالهلاك ، ويلبسوا عليهم دينهم ، فيفعلون الأفعال التي في غاية القبح ، ولا يزال شركاؤهم يزينونها لهم ، حتى تكون عندهم من الأمور الحسنة والخصال المستحسنة ، ولو شاء الله أن يمنعهم ويحول بينهم وبين هذه الأفعال ، ويمنع أولادهم عن قتل الأبوين لهم ، ما فعلوه ، ولكن اقتضت حكمته التخلية بينهم وبين أفعالهم ، استدراجا منه لهم ، وإمهالا لهم ، وعدم مبالاة بما هم عليه ، ولهذا قال : { فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ } أي : دعهم مع كذبهم وافترائهم ، ولا تحزن عليهم ، فإنهم لن يضروا الله شيئا .
«الكثير » في هذه الآية يراد به من كان يئد من مشركي العرب ، و «الشركاء » ها هنا الشياطين الآمرون بذلك المزينون له والحاملون عليه أيضاً من بني آدم الناقلين له عصراً بعد عصر إذ كلهم مشتركون في قبح هذا الفعل وتباعته في الآخرة ، ومقصد هذه الآية الذم للوأد والإنحاء على فعَلته ، واختلفت القراءة فقرأت الجماعة سوى ابن عامر «وكذلك زَين » بفتح الزاي «قتلَ » بالنصب «أولادِهم » بكسر الدال «شركاؤهم » ، وهذا أبين قراءة ، وحكى سيبويه أنه قرأت فرقة «وكذلك زُين » بضم الزاي «قتل أولادِهم » بكسر الدال «شركاؤهم » بالرفع .
قال القاضي أبو محمد : وهي قراءة أبي عبد الرحمن السلمي والحسن وأبي عبد الملك قاضي الجند صاحب ابن عامر ، كأنه قال : زينه شركاؤهم قال سيبويه : وهذا كما قال الشاعر : [ الطويل ]
ليبك يزيد ضارعٌ لخصومة . . . ومختبط مما يطيح الطوائح{[5108]}
كأنه قال يبكيه ضارع لخصومة ، وأجاز قطرب أن يكون الشركاء في هذه القراءة ارتفعوا بالقتل كأن المصدر أضيف إلى المفعول ، ثم ذكر بعده الفاعل كأنه قال إن قتل أولادهم شركاؤهم كما تقول حبب إليَّ ركوب الفرس زيد أي ركب زيد الفرس .
قال القاضي أبو محمد : والفصيح إذا أضيف مصدر إلى مفعول أن لا يذكر الفاعل ، وأيضاً فالجمهور في هذه الآية على أن الشركاء مزينون لا قاتلون ، والتوجيه الذي ذكر سيبويه هو الصحيح ، ومنه قوله عز وجل على قراءة من قرأ { يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال }{[5109]} بفتح الباء المشددة أي «يسبَّح رجال » وقرأ ابن عامر «وكذلك زُين » بضم الزاي «قتلُ » بالرفع «أولادَهم » بنصب الدال «شركائِهم » بخفض الشركاء ، وهذه قراءة ضعيفة في استعمال العرب ، وذلك أنه أضاف القتل إلى الفاعل وهو الشركاء ، ثم فصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول ورؤساء العربية لا يجيزون الفصل بالظروف في مثل هذا إلا في الشعر كقوله [ أبو حية النميري ] : [ الوافر ]
كما خُطَّ بكفِّ يوماً . . . يهوديَّ يقارِبُ أو يزيلُ{[5110]}
فكيف بالمفعول في أفصح الكلام ؟ ولكن وجهها على ضعفها أنها وردت شاذة في بيت أنشده أبو الحسن الأخفش وهو : [ مجزوء الكامل ]
فَزَجَجْتُهُ بِمِزَجَّةٍ . . . زَجَّ القُلُوصَ أبي مزادة{[5111]}
وفي بيت الطرماح وهو قوله : [ الطويل ]
يطفن بحوزيّ المرابعِ لَمْ يُرَعْ . . . بواديهِ من قَرْعِ القِسِيُّ الكنائِن{[5112]}
والشركاء على هذه القراءة هم الذين يتأولون وأد بنات الغير فهم القاتلون ، والصحيح من المعنى أنهم المزينون لا القاتلون ، وذلك مضمن قراءة الجماعة .
وقرأ بعض أهل الشام ورويت عن ابن عامر «زِيْن » بكسر الزاي وسكون الياء على الرتبة المتقدمة من الفصل بالمفعول ، وحكى الزهراوي أنه قرأت فرقة من أهل الشام «وكذلك زُين » بضم الزاي «قتلُ » بالرفع «أولادِهم » بكسر الدال «وشركائِهم » بالخفض والشركاء على هذه القراءة هم الأولاد الموءودون لأنهم شركاء في النسب والمواريث ، وكأن وصفهم بأنهم شركاء يتضمن حرمة لهم وفيها بيان لفساد الفعل إذ هو قتل من له حرمة .
و { ليردوهم } معناه ليهلكوهم من الردى ، { وليلبسوا } معناه ليخلطوا ، والجماعة على كسر الباء ، وقرأ إبراهيم النخعي «وليَلبسوا » بفتح الباء ، قال أبو الفتح : هي استعارة من اللباس عبارة عن شدة المخالطة ، وهذان الفعلان يؤيدان أول قراءة في ترتيبنا في قوله { وكذلك زين } . وقوله تعالى : { ولو شاء الله ما فعلوه } يقتضي أن لا شيء إلا بمشيئة الله عز وجل ، وفيها رد على من قال بأن المرء يخلق أفعاله ، وقوله تعالى : { فذرهم } وعيد محض ، و { يفترون } معناه يختلقون من الكذب في تشرعهم بذلك واعتقادهم أنها مباحات لهم .