هذا نوع آخر من أحْكَامِهِم الفاسدة ومذاهبهم البَاطِلة .
قوله : " وكذلِكَ زيَّنَ " هذا في محلِّ نصبٍ نعتاً لمصدرٍ محذُوف كنظائره ، فقدَّره الزمخشري{[15246]} تقديرين ، فقال : " ومِثْل ذلك التَّزْيين وهو تَزْيين الشِّرْك في قِسْمَة القُرْبَان بين اللَّهِ والآلهة ، أو : ومثل ذلك التَّزيين البَلِيغ الذي عُلِم من الشَّياطين " .
قال أبو حيَّان{[15247]} : قال ابن الأنْبَاري : ويجُوز أن يكون " كَذَلِكَ " مستَأنفاً غير مُشَارٍ به إلى ما قَبْله ، فيكون المَعْنَى : وهكذا زيَّن .
قال شهاب الدِّين{[15248]} : والمنْقُول عن ابن الانْبَاري أنه مُشَارٌ به إلى ما قبله ، نقل الواحِدِي عنه ؛ أنه قال : " ذَلِكَ " إشارةٌ إلى ما نَعَاه اللَّه عليهم من قَسْمِهِم ما قَسَمُوا بالجَهْل ، فكأنه قِيلَ : ومثل ذلك الذي أتَوْه في القَسْم جهلاً وخطأ زيِّن لكَثِير من المُشْركين ، فشبَّه تَزْيين الشرُّكَاء بخِطَابهم في القَسْمِ وهذا معنى قول الزَّجَّاج ، وفي هذه الآية قراءات كَثِيرة ، والمُتواتِر منها ثِنْتَان .
الأولى : قرأ العامّة{[15249]} " زَيَّنَ " مبنياً للفَاعِل و " قَتْلَ " نصب على المفعُوليَّة و " أوْلادَهُم " خفض بالإضافة ، و " شركاؤُهم " رفع على الفاعلية ، وهي قراءة واضحة المعنى والتركيب .
وقرأ ابن عامر : " زيّن " مبنيا للمفعول ، " قتلُ " رفعا على ما لم يُسَمَّ فاعله ، " أولادهم " نَصْباً على المفعُول بالمصْدَر ، " شُركَائِهِم " خفضاً على إضافة المصدر إليه فَاعِلاً ، وهذه القراءة مُتواتِرة صحيحة ، وقد تجرأ كَثِيرٌ من النَّاسِ على قَارِئهَا بما لا يَنْبَغي ، وهو أعلى القُرَّاء السَّبْعَة سَنَداً وأقدمهم هِجْرَة .
أمَّا عُلُوِّ سنده : فإنَّه قرأ على أبِي الدَّرْدَاء ، وواثِلة بن الأسْقَع ، وفَضَالةِ بن عُبَيْد ، ومعاوية بن أبي سُفْيَان ، والمُغِيرةَ المَخْزُومِي ، ونقل يَحْيَى الذُّماري أنه قرأ على عُثْمَان نفسه .
وأما قدَم هِجْرَته فإنَّه وُلِد في حَيَاة رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم ونَاهِيك به أن هشام بن عمَّار أحد شُيُوخ البُخَارِيّ أخذ عن أصْحاب أصحابه وتَرْجَمَته مُتَّسِعَة ذكرتُها في " شرح القصيد " .
وإنَّما ذكرت هُنَا هَذِه العُجَالة تَنْبيهاً على خَطَإٍ من رَدَّ قراءته ونَسَبَه إلى لَحْنٍ ، أو اتِّبَاع مجرَّد المَرْسُوم فقط .
قال أبو جَعْفَر النحاس{[15250]} : وهذا يَعْني أنّ الفَصْل بين المُضَافِ والمضافِ إليه بالظَّرْفِ أو غيره لا يجُوز في شِعْرٍ ولا غيره ، وهذا خطأ من أبي جَعْفَر ؛ لما سنذكره من لسَان العرب .
وقال أبو علي الفارسيّ : هذا قَبيحٌ قليل في الاسْتِعْمَال ، ولو عَدَل عَنْهَا - يعني ابن عامر- ، كان أولى ؛ لأنهم لم يَفْصِلُوا بين المُضَافِ والمُضافِ إليه بالظَّرف في الكلام مع اتِّساعهم في الظَّرُوفِ ، وإنَّما أجَازُوه في الشِّعْر " قال : " وقد فَصَلُوا به - أي بالظَّرف - في كَثِير من المواضع ، نحو قوله تعالى { إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ } [ المائدة : 22 ] ؛ وقال الشاعر في ذلك : [ المتقارب ]
عَلَى أنَّنِي بَعْدَمَا قَدْ مَضَى *** ثلاثُونَ - لِلْهَجْرِ - حَوْلاً كَمِيلاً{[15251]}
وقول الآخر في هذا البيت : [ الطويل ]
فَلاَ تَلْحَنِي فيها فإنَّ- بِحُبِّهَا - *** أخَاكَ مُصَابُ القَلْبِ جَمٌّ بلابِلُهْ{[15252]}
ففصل بين " إنَّ " واسْمَها بما يتعلَّق بخبَرِهَا ، ولو كان بِغَيْر الظرف ، لم يَجُزْ ، ألا تَرَى أنَّك لو قُلْتَ : " إنَّ زَيْداً عَمْراً ضَارِب " على أن يكون " زَيْداً " منصُوباً ب " ضَارِب " لم يَجز ، فإذا لم يُجِيزُوا الفَصْل بين المُضَافِ والمُضافِ إلَيْهِ في الكلامِ بالظرفِ مع اتِّساعهم فيه في الكلام ، وإنما يجُوزُ في الشَّعْر ؛ كقوله : [ الوافر ]
كَمَا خُطَّ الكِتَاب بَكَفِّ - يَوْماً- *** يَهْودِيّ يُقَاربُ أوْ يُزيلُ{[15253]}
فأن لا يجوز بالمفعُول الذي لم يُتَّسعْ فيه بالفَصْلِ أجْدَر ، ووجه ذلك على ضَعْفَه وقلَّة الاسْتِعَمال : أنه قد جَاءَ في الشِّعْر على حدِّ ما قَرَأهُ قال الطِّرْمَاح : [ الطويل ]
يَطُفْنَ بِحُوزِيِّ المَرَاتِعِ لَم تَرُعْ *** بِوَاديهِ مِنْ قَرْعِ - القِسيِّ - الكَنَائِنِ{[15254]}
وأنشد أبو الحسن : [ مجزوء الكامل ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** زَجَّ - القلُوصَ - أبِي مَزَادهْ{[15255]}
وقال أبو عُبَيْد : وكان عبْدُ اللَّه بن عَامِر ، وأهل الشام يَقْرءُونها : " زُيِّن " بضم الزَّاي " قَتْلُ " بالرَّفْع ، " أولادَهُم " بالنَّصْب ، " شُرَكَائهم " بالخَفْضِ ، ويتأولون " قَتْلَ شُرَكَائِهِم أوْلادَهم " فيفرقون بين الفِعْل وفاعله .
قال أبو عبيد : " ولا أحِبُّ هذه القراءة ؛ لما فيها من الاسْتِكْرَاه والقِراءة عِنْدنَا هي الأولَى ؛ لصحِّتِها في العربيّة ، مع إجْماع أهْل الحَرْمَيْن والمِصْرَين بالعراق عَلَيْهَا " .
وقال سيبويْه{[15256]} في قولهم :
يا سَارِقَ اللَّيْلَةِ أهْلَ الدَّارْ{[15257]} *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
بخفض " اللَّيْلَةِ " على التَّجُّوز وبنصب " الأهْلِ " على المَفْعُولِيَّة ، ولا يجُوز " يا سَارِقَ اللَّيْلَة أهْلَ الدَّار " إلاَّ في شِعْر ؛ كراهة أن يَفْصِلُوا بين الجَارِّ والمجْرُور ، ثم قال : وممَّا جَاء في الشِّعْر قد فُصِل بَيْنَهُ وبين المَجْرُور قول عمرو بن قميئة : [ السريع ]
لمَّا رَأتْ سَاتِيدَمَا اسْتَعْبَرَتْ *** لِلَّهِ دَرُّ - اليَومَ - مَنْ لاَمَهَا{[15258]}
ثم قال : وهذا قبيح ويجوز في الشعر على هذا : " مررت بخير وأفضل من ثمّ " .
وقال أبو الفتح بن جني{[15259]} : " الفَصْل بين المُضَافِ والمُضَافِ إليه بالظَّرْف والجَارِّ والمَجْرُور كَثِيرٌ ، لكنه من ضَرُورَة الشَّاعِر " .
وقال مكي بن أبي طالب{[15260]} : " ومن قَرَأ هذه القراءة ونَصَب " الأوْلادَ " وخفض " الشُّركاء " فيه قراءة بعيدةٌ ، وقد رُويَتْ عن ابْن عامر ، ومجازها على التَّفْرِقَة بين المُضَافِ والمُضافِ إليه بالمفعُول ، وذلك إنَّما يجُوزُ عند النَّحويِّين في الشِّعْر ، وأكثر ما يَكُون بالظَّرْفِ " .
قال ابن عطيَّة - رحمه الله{[15261]} - : وهذه قراءةٌ ضَعِيفَة في اسْتِعْمَال العرب ، وذلك أنَّه أضاف الفِعْلَ إلى الفاعل ، وهو الشُّرَكَاء ، ثُمَّ فصل بين المُضافِ والمُضافِ إليه بالمفْعُول ، ورُؤسَاء العربيَّة لا يُجيزُون الفَصْل بالظُّرُوف في مِثْل هذا إلا في شِعْرٍ ؛ كقوله : [ الوافر ]
كَمَا خُطَّ - الكِتَابُ بِكَفِّ يَوْماً *** يَهْودِيِّ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[15262]}
البَيْت فكيف بالمَفْعُول في أفْصح كلام ؟ ولكنْ وجهُها على ضَعْفِها : أنَّها وردت في بَيْتٍ شاذّ أنْشَدَهُ أبو الحَسَن الأخْفَش ، فقال : [ مجزوء الكامل ]
فَزَجَجْتُهَا بِمَزجَّةٍ *** زَجَّ - القلُوصَ - أبي مَزَادَهْ{[15263]}
وفي بيت الطِّرمَّاح ، وهو قوله : [ الطويل ]
يَطُفْنَ بِحُوزِيِّ المَرَاتِعِ لَمْ تَرُعْ *** بِوَادِيهِ مِنْ قَرْع - القِسِيَّ - الكَنَائِنِ{[15264]}
وقال الزَّمخشري{[15265]} - فأغْلظ وأسَاء في عبارتهِ- " وأم قِرَاءة ابن عامرٍ - فذكرها- فشيء لو كان في مكان الضرُورة وهو الشِّعْر ، لكان سَمِجاً مرْدُوداً كما سَمُج ورود :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** زَجَّ - القلُوصَ - أبِي مَزَادَهْ{[15266]}
فكيف به في الكلام المَنْثُور ؟ وكيف به في القُرْآن المُعْجِز بحُسْن نَظْمِه وجَزَالَتِه ؟ الذي حمله على ذلك : أنْ رأى في بَعْض المَصَاحف " شُرَكَائِهِم " مكْتُوباً بالياءِ ، ولو قرأ بجرِّ " الأوْلاد " و " الشُّركاء " - لأن الأولاد شُرَكَاؤهم في أموالهم - لوجَد في ذلك مَنْدُوحة عن هذا الارتكاب " .
قال شهاب الدين{[15267]} : " سَيَأتي بيان ما تمنَّى أبو القاسِم أن يَقْرَأه ابن عَامرٍ ، وأنه قد قرأ به ، فكأنَّ الزَّمَخْشَرِيّ لم يَطَّلِعْ على ذلك ، فلهذا تَمَنَّاه " .
وهذه الأقوال التي ذكرتها جَمِيعاً لا يَنْبَغِي أن يُلْتَفَت إليها ؛ لأنها طَعْن في المُتَواتِر ، وإن كانت صَادِرةً عن أئِمَّةٍ أكَابِر ، وأيضاً فقد انْتصَر لها من يُقَابِلُهُم وأوْرَد من لسانِ العربِ نَظْمهِ ونَثْرِه ما يَشْهَد لصِحَّة هذه القراءة لُغَة .
قال أبو بَكْر بن الأنْبَاريّ : " هذه قِرَاءة صَحيحَةٌ وإذا كانت العرب قد فَصَلَتْ بني المُتضَايفين بالجُمْلَة في قولهم : " هُو غُلامُ- إن شَاءَ اللَّه- أخِيكَ " يُرِيدون : هو غلام أخِيكَ ، فأنْ يُفْصَل بالمفْرَد أسْهَل " انتهى .
وسمع الكَسَائِي قول بعضهم : " إن الشَّاةُ لتجترُّ فتَسْمع صَوْت واللَّه ربِّهَا " ، أي : صَوْت ربِّها واللَّه ، ففصل بالقسم وهو في قُوَّة الجُمْلَة ، وقرأ بَعْض السَّلَف{[15268]} : { فَلاَ تَحْسَبَنَّ الله مُخْلِفَ وَعْدَهِ رُسُلِهِ } [ إبراهيم : 47 ] بنصب " وَعْدَهُ " وخفض " رُسُلِهِ " وفي الحديث عنه - عليه الصلاة والسلام- : " هَلْ أنْتُمْ تَارِكُو لِي صَاحِبي ، تَارِكُوا لِي امْرَأتِي " {[15269]} أي تاركو صَاحِبي لي ، تَارِكُو امْرَأتِي لي .
وقال ابن جِنِّي في كتاب " الخصائص " : باب ما يَرِدُ عن العَرَبِيّ مُخَالِفاً للجُمْهُور ، إذا اتَّفق شَيْءٌ من ذلك ، نُظِر في ذلك العربي وفيما جَاءً بهِ : فإن كان فَصِيحاً وكان مَا جَاء به يَقْبَلُه القِيَاسُ ، فَيَحْسُن الظَّنُّ به ؛ لأنه يمكن أن يَكُون قَدْ وَقَع إليه ذَلِك من لُغَةٍ قديمة ، قد طَال عَهْدُها وعَفَا رَسْمُهَا .
أخبرنا أبُو بكْر جعفر بن مُحَمَّد بن أبي الحَجَّاج ، عن أبي خَلِيفَة الفَضْل بن الحباب ، قال : قال ابن عَوْف عن ابن سيرين : قال عُمر بن الخطَّاب - رضي الله عنه- : " كان الشِّعْر عِلْمَ قَوْم لم يَكُونْ لَهُم عِلْمٌ أصحّ منه ؛ فجاء الإسْلام فتشاغَلَت عَنْه العَرَب بالجِهَاد وغَزْو فَارِس والرُّوم ، ولَهَت عن الشِّعر وروايته ، فلما كَثُر الإسلام وجاءت الفُتُوح ، وأطْمَأنَّت العرب في الأمْصَارِ ، راجَعُوا رواية الشِّعْرِ فلم يَئُولوا إلى دِيوانٍ مُدَوَّنٍ ، ولا إلى كِتاب مكْتُوبٍ ، وألِفُوا ذلك وقد هَلَك مَنْ هَلَك من العربِ بالموت والقَتْلِ ، فَحَفِظُوا أقل ذلك وذهب عَنْهُم كَثِيرُه " . قال : وحدَّثنا أبو بكر ، عن أبِي خَلِيفَة عن يُونُس بن حَبِيب ، عن أبِي عَمْرو بن العلاء . قال : " ما انْتَهى إليكم مما قالت العَرَب إلا أقَلُّه ، ولو جَاءَكُم وافراً لجَاءَكُم عِلْمٌ وشِعْر كَثِير " .
وقال أبو الفَتْح : " فإذا كان الأمْر كَذَلِك ، لم نَقْطَع على الفَصِيح إذا سُمِع مِنْه ما يُخَال الجُمْهُور بالخَطَإ ، ما وُجِد طَريقٌ إلى تَقَبُّل ما يُورِدُه ، إلا إذا كان القِيَاسُ يُعَاضِدُه " .
قال شهاب الدِّين{[15270]} : وقراءة هذا الإمام بهذه الحيثيَّة ، بل بطريق الأولَى والأحْرَى لو لم تكُن مُتَوَاتِرة ، فكيف وهي مُتواتِرَة ؟ وقال ابن ذَكْوَان : سألَني الكَسَائِي عن هذا الحَرْفِ وما بَلَغَهُ من قِرَاءتنا ، فرأيْتُه كأنه أعْجَبَه وتَرَنّم بهذا البيت : [ البسيط ]
تَنْفِي يَدَاهَا الحَصَى فِي كُلِّ هَاجِرَةٍ *** نَفْيَ - الدَّرَاهِيمَ - تَنْقَادِ الصَّيَارِيفِ{[15271]}
بنصب " الدَّرَاهِيم " [ وجَرِّ " تَنْقَاد " ، وقد رُوِي بخفض " الدَّرَاهِيم " ورفع " تَنْقَادُ " وهو الأصْل ، وهو المَشْهُور في الرِّواية ]{[15272]} .
وقال الكرمَانِيّ : " قراءة ابن عَامرٍ وإن ضَعُفَتْ في العَرَبِيَّة للإحَالَة بين المُضَافِ والمُضَافِ إليه فَقَويَّةٌ في الرَّواية عَالِيةٌ " انتهى .
وقد سُمِعَ ممَّنْ يُوثَق بعربيَّته : " تَرْكُ يَوْماً نَفْسِك وهَوَاهَا سَعْيٌ في رَادَاهَا " أي : تَرْكُ نَفْسِك يَوْماً مع هَوَاهَا سَعْيٌ في هَلاكِهَا .
وأما ما ورد في النَّظْمِ من الفَصْلِ بين المُتَضَايفين بالظَّرْف ، وحَرْف الجرِّ ، وبالمفعول فكَثِيرٌ ، وبغير ذلك قَلِيل ، فمن الفَصْل بالظَّرْفِ قول الشاعر : [ الطويل ]
فرِشني بخير لا أكونن ومِدحتي *** كناحِت يوما صخرة بعسيلِ{[15273]}
وتقديره : كناحِتِ صخرة يوما ؛ ومثله قول الآخر : [ الوافر ]
كَمَا خُطَّ الكِتَابُ بَكَفِّ - يَوْماً - *** يَهْودِيِّ . . . . . . . . . . . . . . . . {[15274]}
قَدْ سَألَتْنِي أمُّ عَمْرٍو عَنِ ال *** أرْضِ الَّتِي تَجْهَلُ أعلامَهَا
لمَّا رَأتْ سَاتِيدَمَا اسْتَعْبَرَتْ *** لِلِّهِ دَرُّ - اليَوْمَ - مَنْ لاَمَها
تَذَكَّرَتْ أرْضاً بِهَا أهْلُهَا *** أخْوالَهَا فِيهَا وأعْمَامَهَا{[15275]}
يريد : للَّه دَرُّ مَنْ لامَها اليَومْ ، و " ساتِيدمَا " قيل : هو مرَكَّب والأصْل : " سَاتِي دَما " ثم سمِّي به هذا الجبل ؛ أنه قُتِل عِنْدَه ، قيل : ولا تَبْرح القَتْلَى عند ، وقيل : " سَاتِيد " كله اسْمٌ و " مَا " مَزِيدة ؛ ومثال الفَصْل بالجار قوله : [ الطويل ]
هُمَا أخَوَا - فِي الحرْب - مَنْ لا أخَا لَهُ *** إذا خَافَ يَوْمَاً نَبْوَةً فَدَعَاهُمَا{[15276]}
وقال الآخر في ذلك : [ البسيط ]
لأنْتَ مُعْتَادُ - فِي الهَيْجَا - مُصَابَرَةٍ *** يَصْلَى بِهَا كُلُّ مَنْ عَادَاكَ نِيرَانَا{[15277]}
كَأنَّ أصْوَات - مِن إيغَالِهِنَّ بِنَا - *** أوَاخِر المَيْسِ أصْواتُ الفَرَارِيجِ{[15278]}
تَمُرُّ على ما تَسْتِمِرُّ وَقَدْ شَفَتْ *** غَلائِلَ - عَبْدُ القَيْسِ مِنْهَا - صُدُورِهَا{[15279]}
يريد : هما أخَواَ مَنْ لا أخَا لَهُ في الحربِ ، ولأنْتَ مُعْتَادُ مُصَابرةٍ في الهَيْجاء ، وكأن أصوات أواخر الميس وغَلائِل صُدُورها ، ومن الفَصْل بالمفعُول قول الشاعر في ذلك : [ مجزوء الكامل ]
فَزَجَحْتُهَا بِمَزَجَّةٍ *** زَجَّ - القُلُوصَ - أبِي مَزادَهْ{[15280]}
ويروي : فَزَجَجْتُها فتدافعتْ ، ويروى : فزجَجْتُهَا متمكِّنَا ، وهذا البيت كما تقدم أنْشَده الأخْفَش بِنْصَب " القَلُوصَ " فاصلاً بين المصدر وفاعل المعْنوِيّ ، إلا أن القرَّاء{[15281]} قال بعد إنشاده لهذا البيتِ : أهل المدينة يُنْشِدون هذا البَيْتَ يعني : بِنَصْب " القَلُوص " .
قال : " والصَّواب : زَجَّ القَلُوصِ بالخَفْض " .
قال شهاب الدِّين{[15282]} : وقوله : " والصَّواب يُحْتَمل أن يكُون من حَيْث الرِّوَاية " أي : إن الصّواب خفضُه على الرواية الصَّحيحة وأن يكُون من حَيْثُ القياس ، وإن لم يُرْوَ إلا بالنَّصْب ، وقال في مَوْضِع آخر من كتابه " مَعَانِي القُرْآن " {[15283]} : " وهذا ممَّا كان يقُولُه نَحْويُّو أهل الحِجَاز ، ولم نَجِد مِثْلَه في العربيَّة " وقال أبو الفَتْح{[15284]} : " في هذا البيت فُصِل بينهُمَا بالمفعُول به هذا مع قُدْرته على أنْ يقُول : زَجَّ القَلُوص أبو مزادة ؛ كقولك : " سَرَّنَي أكلُ الخُبْزِ زَيْدٌ " بمعنى : أنه كان يَنبَغِي أن يُضِيفَ المَصْدَر إلى مَفْعُوله ، فَيَبْقى الفاعل مَرْفُوعاً على أصْلِه ، وهذا مَعْنَى قول الفرَّاء الأوَّل " والصَّواب جر القَلُوص " سيعني ورفع الفاعل " .
ثم قال ابن جِني{[15285]} : وفي هذا البَيْت عِنْدي دَلِيلٌ على قُوَّة إضافَةِ المَصْدَر إلى الفَاعِل عِنْدَهُم ، وأنه في نُفُوسِهِم أقْوَى من إضافته إلى المَفْعُول ؛ ألا تراه ارْتَكب هذه الضَّرُورة مع تمكُّنِهِ من تركِهَا لا لِشَيْءٍ غير الرَّغْبة في إضافة المصْدَرِ إلى الفاعل دُون المَفْعُول ، ومن الفَصْلِ بالمفعُول به أيضاً قول الآخر في ذلك : [ الرجز ]
وحِلَقِ المَاذِيِّ والقَوانِسِ *** فَدَاسَهُمْ دَوْسَ الحَصَادَ الدَّائِسِ{[15286]}
يَفْرُكُ حَبَّ السُّنْبُلِ الكُنَافِجِ *** بالقَاعِ فَرْكَ -القُطُنَ - المُحَالِجِ{[15287]}
يريد : فَرْك المُحَالِجِ القُطْن ، وقول الطِّرمَّاحِ في ذلك : [ الطويل ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** بِوَاديهِ مِنْ قَرْعِ - القِسيَّ - الكَنَائَنِ{[15288]}
يريد : قَرْع الكَنَائِنِ القِسِيَّ .
قال ابن جِنِّي في هذا البيت : " لم نَجِد فيه بُداً من الفَصْلِ ؛ لأن القوافي مَجْرُورَة " وقال في " زَجِّ القَلُوصِ " فصل بَيْنَهُما بالمَفْعُول به ، هذا ما قُدْرَته إلى آخَر كلامهِ المتقدِّم ، يعني : أنَّه لو أنْشَد بَيْت الطِّرْمَاح بخَفْضِ " القِسِيِّ " ورفع " الكَنَائِنِ " لم يَجُز ؛ لأن القَوافِي مَجْرُورة بِخِلاف بَيْت الأخْفَش ؛ فإنه لو خفض " القَلُوص " ورَفع " أبُو مَزَادَة " لم تَخْتَلِف فيه قَافيِتَه ولمْ يَنْكَسِر وَزْنَه .
قال شهاب الدِّين{[15289]} : ولو رفع " الكَنَائِن " في البيت ، لكان جَائِزاً وإن كانتِ القوافي مَجْرُورة ، ويكُون ذلك إقْوَاءً ، وهو أن تكُون بَعْضُ القَوَافي مَجْرُورة وبَعْضُها مَرْفُوعة ؛ كقول امرئ القيس : [ الكامل ]
تخدي على العلاّت سامٍ رأسُها *** روعاءُ منسِمُها رثيمٌ دامِ{[15290]}
جَالَتْ لِتصْرَعَنِي فَقُلْتُ لَهَا اقْصِري *** إنِّ امْرُؤٌ صَرْعِي عَلَيْكِ حَرَامُ{[15291]}
فالميمُ مَحْفُوضة في الأوَّل ، مَرْفُوعة في الثَّاني .
فإن قيل : هذا عَيْبٌ في الشِّعْر .
قيل : لا يتقاعد ذلك عن أنْ يَكُون مِثْل هذه للضَّرُورةَ ، والحقُّ أن الإقْواء أفْحَشُ وأكثر عَيْباً من الفَصْل المَذْكُور ، و من ذلك أيضاً : [ الوافر ]
فإنْ يَكُنِ النِّكَاحُ أحَلِّ شَيءٍ *** فإنَّ نِكَاحَهَا مَطَرٍ حَرَامُ{[15292]}
أي : فإنَّ نِكَاحَ مطرٍ إيَّاها ، فلما قدَّم المفْعُول فَاصِلاً بين المَصْدَر وفاعله ، اتَّصَل بعامِلهِ ؛ لأنه قدر عليه مُتَّصِلاً فلا يَعْدل إليه مُنْفَصِلاً ، وقد وقع في شِعْر أبي الطَّيِّب الفَصْل بين المَصْدَر المُضافِ على فَاعِلهِ بالمَفْعُول ؛ كقوله{[15293]} : [ الطويل ]
بَعَثْتُ إلَيْهِ مِنْ لِسَانِي حَدِيقَةَ *** سَقَهَا الحَيَا سَقْي - الرِّياضَ- السَّحائبِ{[15294]}
أي : سقي السَّحائب الرِّياضَ ، وأما الفَصْل بغير ما تقدَّم فهو قَلِيلٌ ، فمنه الفَصْل بالفاعل .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** غَلاَئِلَ عَبْدُ القَيْسِ مِنْهَا صُدورِهَا{[15295]}
فَفَصَل بين " غَلائِلَ " وبين " صُدُورَهَا " بالفاعل وهو " عبْدُ القَيْسِ " ، وبالجار وهو " مِنْهَا : كما تقدَّم بيانه ؛ ومثله قول الآخر : [ الطويل ]
نَرى أسْهُماً لِلْمَوْتِ تُصْمِي وَلاَ تُنْمي *** ولا تَرْعَوِي عَنْ نَقْضِ - أهْوَاؤنَا - العَزْمِ{[15296]}
فأهْوَاؤنا فاعل بالمصدر ، وهو " نَقْض " وقد فصل به بين المَصْدَر وبين المُضَاف إلَيْه وهو العَزم ؛ ومثله قول الآخر : [ المنسرح ]
أنْجَبَ أيَّام - والدهُ بِهِ- *** إذْ نَجَلاهُ فَنِعْمَ مَا نَجَلا{[15297]}
يريد : أيَّام إذ نجلاه ، ففصل بالفاعل وهو " والدهُ " المرفوع ب " أنْجَبَ " بين المُتضايفين وهما " أيَّام - إذْ ولداه " .
قال ابن خَرُوف : " يجوزُ الفصل بين المصْدَر والمضاف إليه بالمفعُول ؛ لكوْنِهِ في غير محلِّه ، ولا يجُوزُ بالفاعل لكوْنِهِ في محلِّه وعليه قراءة ابن عَامِر " .
قال شهاب الدِّين{[15298]} : هذا فَرْقٌ بين الفاعل والمفعُول حيث اسْتَحْسن الفَصْل بالمفْعُول دون الفاعل ، ومن الفَصْل بغير ما تقدَّم أيضاً الفَصْل بالنِّداء ؛ كقوله : [ البسيط ]
وفَاقُ - كَعْبُ - بُجَيْر مُنْقِذٌ لَكَ مِنْ *** تَعْجِيلِ مُهْلَكَةٍ والخُلْدِ في سَقَرِ{[15299]}
إذَا مَا - أبَا حَفْصٍ - أتَتْكَ رَأيْتَهَا *** عَلَى شُقراءِ النَّاسِ يَعْلُو قَصِيدُهَا{[15300]}
كأنَّ بِرْذَوْنَ - أبَا عِصَامِ- *** زَيْدٍ حِمَارٌ دُقَّ بِاللِّجَامِ{[15301]}
يريد : " وفاق بجَيْر يا كَعْب " و " إذا ما أتَتْكَ يا أبَا حَفْصٍ " و " كأن بِرْذَوْنَ زَيْد يا أبا عِصَام " .
ومن الفَصْل أيضاً الفَصْل بالنَّعْتِ ؛ كقول مُعَاوِية يُخاطِب به عَمْرو بن العَاص : [ الطويل ]
نَجَوْتَ وَقَدْ بَلَّ المُرَادِيُّ سَيْفَهُ *** مِن ابْنِ أبِي شَيْخِ الأبَاطِح طَالبِ{[15302]}
وقول الآخر في ذلك : [ الكامل ]
وَلَئِنْ حَلَفْتُ عَلَى يَدَيْكَ لأحْلِفَنْ *** بيَمِينِ أصْدَقَ مِنْ يَمينكَ مُقْسِمِ{[15303]}
يريد : من ابن أبي طَالِب شَيْخ الأبَاطِح ، فشيخ الأباطح نعْت لأبي طالب ، فصل به بَيْن أبي ، وبَيْن طالب ، ويريد : لأحْلِفَن بيمين مُقْسِم أصْدَق من يَمِينِك ؛ ف " أصدق " نعت لَقَوْله بيمين ، فصل به بَيْن " يَمِين " وبَيْن " مُقْسِمِ " ومن الفَصْل أيضاً الفَصْل بالفِعْل المُلْغَى ؛ كقوله في ذلك : [ الوافر ]
ألا يَا صَاحِبَيَّ قِفَا المَهَارَى *** نُسَائِلْ حَيَّ بَثْنَةَ ايْنَ سَارَا ؟
بأيِّ تَرَاهُم الأرَضِين حَلُّوا *** أألدَّبَرَانِ أمْ عَسَفُوا الكِفَارَا ؟{[15304]}
يريد : بأي الأرضين تراهم حَلُّوا ، ففصل بقوله " تَرَاهمُ " بين " أيّ " وبين الأرضين .
ومن الفَصْل أيضاً الفَصْل بمفْعُول " لَيْس " معمولاً للمصدر المُضاف إلى فاعل ؛ كقول الشاعر : [ البيسط ]
تَسْقِي امتياحاً ندى المِسْواكَ ريقَتها *** كَمَا تَضَمَّن مَاءَ المُزْنَةِ الرَّصَفُ{[15305]}
أي : تسْقِي ندى ريقتها المِسْوَاك ف " المِسْوَاك " مفْعُول به نَاصبة " تَسْقِي " فصل به بين " نَدَى " وبين " ريقتهَا " ، وإذ قد عَرَفْت هذا ، فاعْلَم أنَّ قِرَاءة ابن عَامِر صحيحَة ؛ من حيث اللُّغَةِ كما هي صَحيحة من حَيْث النَّقْل ، ولا التِفَات إلى قَوْل من قال : إنه اعْتَمَد في ذلك على رسْم مُصْحَفِ الشَّام الذي أرْسَلَه عُثْمَان بن عفَّان- رضي الله عنه- : لأنه لم يُوجَد فيه إلا كَتَابة " شُرَكَائِهِم " بالياء وهذا وإن كافياً في الدَّلالة على جَرِّ " شُرَكائِهِم " ، فليس فيه ما يَدُلُّ على نَصْب " أوْلادَهُم " ؛ إذا المصْحَفُ مُهْمَلٌ من شكْل ونقط ، فلم يَبْقَ له حُجَّة في نَصْب الأولاد إلاَّ النَّقْل المحض .
وقد نقد عن ابن عامرٍ ؛ أنه قرأ بِجَرِّ " الأوْلاد " كما سيأتي بَيَانَهُ وتَخْريجُه ، وأيضاً فليس رسْمها " شُرَكَائِهم " بالياء مخْتَصاً بمصْحَف الشَّامِ ، بل هي كذلك أيضاً في مُصْحَف أهْل الحِجَاز .
قال أبو البرهسم : " فِي سُورة الأنْعَام في إمَام أهْل الشَّم وأهْل الحجاز : " أوْلادَهُم شُرَكَائِهِم " بالياء ، وفي إمام أهل العراق " شُرَكَاؤهُم " ولم يَقْرَأ أهل الحجاز بالخفضِ في " شُرَكَائِهِم " لأن الرَّسم سُنَّةُ مُتَّبعة قد تُوافِقُهَا التِّلاوة وقَدء لا تُوَافِقُ " .
إلاَّ أن الشيخ أبا شَامَةَ قال : " ولم تُرْسم كذلك إلا باعتبار قراءَتَيْن : فالمضموم عليه قِراءة معْظم القُرَّاء " ثم قال : " وأمَّا " شُركَائهم " بالخَفْضِ ؛ فيحتمل قراءة ابن عمر " قال شهاب الدين{[15306]} : وسيأتي كلام أبِي شَامَة هذا بتَمَامة في موْضِعه ، وإنما أخَذْتُ منه [ بقَدر ]{[15307]} الحَاجَة هُنَا .
فقوله : " إن كُلَّ قراءة تَابِعَة لرسم مُصْحَفِها " تُشْكِلُ بما ذكرنا لك من أنَّ مصحَفَ الحِجَازيِّين بالياءِ ، [ مع أنَّهُم لم يَقْرءُوا بذلِك .
وقد نقل أبُو عَمْرو الدَّانيِ أن : " شُرَكَائِهِم " بالياء ]{[15308]} ، إنَّما هو في مُصْحف الشَّامِ دون مَصَاحِف الأمْصَار ؛ فقال : " في مَصَاحِف أهْل الشَّامِ " أوْلادَهُم شُركَائِهم " بالياء ، وفي سائر المصاحف شُركَاؤُهُم بالواو " .
قال شهاب الدين{[15309]} : هذا هو المَشْهُور عند النَّاس ، أعني : اختصاص الياءِ بمصاحفِ الشَّام ، ولكن أبُو البرهسم ثِقَة أيضاً ، فنَقْبَل ما ينقله . وقد تقدَّم قول الزَّمَخْشَري : " والَذي حَمَلَه على ذِلَك أنْ رَأى في بعض المَصاحِف " شُرَكَائِهِم " مكتوباً بالياء " .
وقال الشَّيْخ [ شهاب الدِّين ]{[15310]} أبو شامة : " ولا بُعْد فيما اسْتَبْعَده أهل النَّحْو من جِهَة المَعْنَى ؛ وذلك أنه قَدْ عُهِد المفعُول على الفاعل المَرْفُوع لفظاً ، فاستمرّت له هذه المرتبة مع الفاعل المرفوع تقديراً ، فإنَّ المَصْدر لو كان مُنَوّناً لجاز تَقْدِيم المفعُول على فاعله ، نحو : " أعْجَبَنِي ضَرْب عَمْراً زَيْدٌ " فكذا في الإضَافَة ، وقد ثبت جواز الفَصْل بين حَرْف الجرِّ ومجْرُوره مع شِدَّة الاتِّصال بَيْنَهُمَا أكْثَر من شِدَّته بني المُضَافِ والمُضافِ إليه ؛ كقوله -تعالى- : { فَبِمَا نَقْضِهِمْ مَّيثَاقَهُمْ } [ النساء : 155 ] ، { فَبِمَا رَحْمَةٍ } [ آل عمران : 159 ] ف " مَا " زَائِدة في اللَّفْظِ ، فكأنها ساقطة فيه لسقوطها في المعنى ، والمفعول المقدّم هو غير موضعه معنى فكأنه مؤخَّر لَفْظاً ، ولا التِفَات إلى قَوْل من زَعَم أنه لم يَأتِ في الكلام المَنْثُور مثله ؛ لأنه نَافٍ ، ومن أسْنَد هذه القِراءة مُثْبِت ، والإثْبات مُرَجَّح على النَّفْي بإجْماع ، ولو نقل إلى هذا الزّاعِم عن بَعْضِ العرب أنه اسْتَعَمَلَهُ في النَّثْر ، لرجع إلَيْه ، فما بالُه لا يكْتَفِي بناقل القراءة من التَّابعين عن الصَّحابَةِ ؟ ثم الذي حَكَاه ابن الأنْبَاري يَعْني ممَّا تقدَّم حِكايته من قولهم : " هو غُلامُ إن شاء اللَّه أخيك " فيه الفَصْل من غير الشِّعْر بجُمْلَة " .
وقرأ أبو عبد الرحمان السلمي ، والحسن البصري ، وعبد الملك قَاضِي الجند صَاحِب أبن عامِر : " زُيِّن " مبْنِياً للمفعُول ، " قَتْلُ " رفعاً على ما تقدَّم ، " أوْلادِهم " خفْضاً بالإضافة ، " شُرَكَاؤهم " رفْعاً ، وفي رفْعِه تخريجان :
أحدهما - وهو تَخْريج سيبويه{[15311]}- : أنه مَرْفُوع بفعل مُقَدَّر ، تقديره : زَيَّنَه شركَاؤهُم ، [ فهو جواب لِسُؤال ] مقدر كأنَّه قيل : مَنْ زَيَّنه لَهُم ؟ فقيل : " شركَاؤُهُم " ؛ وهذا كقوله تعالى : { يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال رجَالٌ } [ النور : 36 ] أي : يُسَبِّحُهُ .
لِيُبْكَ يَزِيدُ ضَارعٌ لِخُصُومَةٍ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[15312]}
والثاني : خرجه قُطْرُب - أن يكُون " شُرَكَاؤهُم " رفعاً على الفاعليَّة بالمَصْدَر ، والتقدير : زُيِّن للمشركِين أن قَتْلَ أوْلادهم شُركَاؤُهُم ؛ كما تَقُول : " حُبِّب لِي رُكوبُ الفرسِ زَيْدٌ " تقديره : حُبِّب لِي أنْ ركب الفَرَس زَيْد ، والفرق بني التَّخْرِيجَيْن : أن التَّخريج الأوَّل يؤدِّي إلى أن تكُونَ هذه القِرَاءةُ في المَعْنَى ، كالقراءة المَنْسُوبة للعَامَّة في كون الشُّركَاء مُزَيِّنين للقَتْلِ ، وليسوا قَاتِلِين . [ والثاني : أن يكون الشُّركاء قَاتِلين ]{[15313]} ، ولكن ذلك على سبيل المجازِ ؛ لأنهم لما زيَّنُوا قَتْلَهم لآبائِهِم ، وكانوا سَبَباً فيه ، نُسِبَ إليهم القَتْل مجازاً .
وقال أبو البقاء{[15314]} : " ويمكن أن يَقَع القَتْل منهم حَقِيقَة " ، وفي نظر ؛ لقوله -تبارك وتعالى- : " زَيَّن " والإنْسَان إنما يُزَيَّن له فِعْل نَفْسِه ؛ كقوله - تعالى- : { أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سوء عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً } [ فاطر : 8 ] وقال غير أبي عُبَيْد : " وقرأ أهْل الشام{[15315]} كقِرَاءة ابن عامر ، إلا أنهم خفَضُوا " الأولاد " أيضاً ، وتخريجها سَهْل ؛وهو أن تَجْعَل " شُرَكَائِهم " بدلاً من " أولادِهِم " بمعنى أنهم يُشْرِكُونهم في النَّسب ، والمالِ ، وغير ذلك " .
قال الزَّجَّاج : " وقد رُوِيت " شُركَائِهم " بالياء في بَعْض المصاحفِ ، ولكن لا يَجُوز إلاَّ على أن يكُون " شُركَاؤُهم " من نَعْت الأولاد ؛ لأن أولادهم شُرَكَاؤهُم في أمْوالهم " .
وقال الفراء{[15316]} بعد أنْ ذكر قِرَاءة العامَّة وهي " زَيَّن " مبنياً للفاعل ، " شركَاؤُهُم " مرفوعاً على أنَّه فاعِل- " وقراءة " زُيِّن " مبنياً للمفعُول ، " شركَاؤُهُم " رَفْعاً على ما تقدَّم من أنه بإضْمار فعل ، وفي مُصْحَف أهْل الشَّام " شُركَايهم " بالياء ، فإن تكُن مُثْبتة عن الأوَّلين ، فينبغي أن تقرأ " زُيِّن " ويكون الشُّركَاء هم الأوْلاَد ؛ لأنهم مِنهُم في النَّسْب والمِيراث . وإن كانوا يَقْرَءُون : " زَيِّن " - يعني بفتح الزاي- فَلَسْت أعرف جِهَتَهَا إلا أن يكُونُوا فيها آخِذِين بلُغَة قَوم يَقُولون : أتْيتُها عَشَايَانَا ، ويقولون في تثنية حَمْراء : حَمْرَايَان ، فهذا وَجْه أن يكُونُوا أرَادُوا : زَيَّن لكثير من المشْرِكِين قتل أوْلادهم شُركَايُهم ، يعني بياء مَضْمُومة ؛ لأن " شركَاؤُهُم " فاعل كما مَرَّ في قرَاءة العَامَّة .
قال : " وإن شِئْتَ جَعَلْتَ " زَيَّن " فعلاً إذا فَتَحْتَهُ لا يُلبس ، ثم تَخْفِض الشركاء بإتباع الأولاد " .
قال أبو شامة : " يعني تَقْدير الكلام : " زَيَّن مُزَيّنٌ " فقد أتَّجَه " شركَائِهِم " بالجرِّ أن يكون نعتاً للأوْلاَد ، سواءٌ قُرئ زَيّن بالفتح أو الضم " .
وقرأت فِرْقة{[15317]} من أهْل الشَّامِ - ورُوِيَتْ عن ابن عامر أيضاً- " زِينَ " بكسر الزاي بعدها ياء سَاكِنة ؛ على أنه فِعْل ماض مبْنِيّ للمْجُهول على حَدِّ قِيلَ وبيعَ .
وقيل : مَرْفُوع على ما لم يُسَمَّ فَاعِله ، و " أولادهُم " بالنصب ، و " شُرَكَائِهِم " بالخَفْضِ ، والتَّوْجه واضح مما تقدَّم ، فهي [ و ] القراءة الأولى سواء ، غاية ما في البابِ :
أنَّه أُخذ مِنْ زَانَ الثُّلاثِي ، وبين للمَفْعُول ، فأُعِلَّ بما قد عَرَفْتَهُ في أول البَقَرة{[15318]} .
واللام من قوله " لِكثيرٍ من المشْركينَ " متعلِّقة ب " زَيَّن " ، وكذلك اللاَّمُ في قوله : " ليُرْدُوهُم " .
فإن قيل : كيف تُعَلّق حرفَيْ جر بلفْظٍ واحِد وبمعنى واحد بعامل واحد ، من غَيْر بَدَلِيَّة ولا عَطْف ؟ .
فالجواب : أن مَعْنَاها مختلِفٌ ؛ فإن الأولى للتَعْدِيَة والثَّانية للعِلِّيَّة .
قال الزمخشري : " إن كان التَّزيين من الشَّياطين ، فهي على حقيقةِ التَّعْليل ، وإن كان من السَّدنَةِ ، فهي للصَّيْرُورة " يعني : ان الشَّيْطَان يَفْعَل التَّزْيين وغرضُه بذلك الإرْدَاءُ ، فالتعْلِيل فيه واضِحٌ ، وأمَا السَّدَنةُ فإنهم لم يُزَيِّنوا لهم ذَلِك ، وغرضهم إهْلاكُهم ، ولكن لما مآل حَالِهِم إلى الإرْدَاءِ ، أتى باللاَّم الدَّالَّة على العَاقِبة والمآل .
فصل في بيان ما كان عليه أهل الجاهلية
كان أهْل الجَاهِليَّة{[15319]} يدْفِنُون بَنَاتَهم أحْياء خَوْفاً من الفَقْر والتَّزْويج ، واخْتلفُوا في المراد بالشُّركَاءِ .
فقال مجاهد : شُرَكَاؤُهم شَيَاطينُهم أمَرُوهم بأن يَقْتُلوا أولادَهم خَشْيَة الغِيلَة ، وسمِّيت الشَّياطين شُرَكَاء ؛ لأنهم اتخذوها شُرَكَاء لقوله -تبارك وتعالى- : { أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ مِن دُونِ اللهِ } [ الأنعام : 22 ] .
وقال الكَلْبِيّ : الشركاء سَدَنة آلِهَتِهم وخُدَّامهم ، وهُمُ الَّذِين كَانُوا يُزَيِّنُون للكُفَّار قَتْل أولادهم ، وكان الرَّجُل يَقُوم في الجَاهلِيَّة فيحلف باللَّه إن ولد له كَذَا غُلاماً لَيَنْحَرَنَّ أحدهم ، كما حلف عَبْد المُطَلِّب على ابْنه عبد الله ، وسُمِّيت السَّدَنَة شُرَكَاء كما سُمِّيت الشَّياطِين شُرَكَاء{[15320]} في قَوْل مُجَاهِد ، وقوله " لِيُرْدُوهُم " الإرْدَاء في لُغة{[15321]} القُرْآن الإهلاك { إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ } [ الصافات : 56 ] .
قال ابن عبَّاس : " لِيُرْدُوهم في النَّار " {[15322]} واللاَّم هَهُنَا لام العَاقِبة ؛ كقوله : { فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [ القصص : 8 ] .
" ولِيلبِسُوا عَلَيْهِم دِينَهُم " أي : يَخْلِطُوا عليه دِينَهُم .
قال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما- : ليُدْخِلُوا عليهم الشَّك في دينهم ، وكانوا على دِين إسْمَاعيل فَرَجَعُوا عنه بلبس الشَّياطين .
قوله : " وليَلْبِسُوا " عطف على " ليُرْدُوا " علل التَّزْيين بشَيْئَيْن :
بالإراداء وبالتخليط وإدْخَال الشُّبْهَة عليهم في دينهم .
والجمهور على " وليَلْبِسُوا " بكسر الباء مِنْ لَبَسْتُ عليه الأمْر ألبِسُه ، بفتح العَيْن في المَاضِي وكَسْرِها في المُضَارع ؛ إذا أدْخَلْتَ عليه فيه الشُّبْهَة وخَلَطْتَهُ فيه .
وقد تقدَّم بَيَانُه في قوله : { وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ } [ الأنعام : 9 ] . وقرأ النخعي{[15323]} : " وليلبسوا " بفتح الباء فقيل : هي لغة في المعنى المذْكُور ، تقول : " لَبِسْتُ عليه الأمْر بفتح الباء وكسرها ألْبِسه وألبَسَهُ " والصَّحِيح أن لَبِس بالكَسْر بمعنى لَبِس الثياب ، وبالفَتْح بمعْنى الخَلْط ، فالصَّحيح أنه اسْتَعار اللِّبَاس لشِدَّة المخالطة الحَاصِلَة بَيْنَهم وبين التَخْليط ؛ حتى كأنَّهم لَبسُوها كالثياب ، وصارت مُحِيطة بهم .
قوله : { وَلَوْ شَاءَ الله مَا فَعَلُوهُ } والضَّمير المرفُوع للكَثِير والمنصُوب للقَتْل للتصريح به ، ولأنَّه المسُوق للحديث عنه .
وقيل : المَرْفُوع للشُّركاء والمنْصُوب للتَّزِيين .
وقيل : المَنْصُوب لِلَّبْسِ المَفْهُوم من الفِعْل قَبْله وهو بَعِيد .
وقال الزَّمَخْشَري{[15324]} : " لما فَعَل المُشْرِكُون ما زُيِّن لَهُم من القَتْلِ ، أو لما فَعَل الشَّياطين أو السَّدَنَة التَّزْيين أو الإرْدَاء أو اللِّبْس ، أو جَمِيع ذلِك إن جَعلْتَ الضمير جَارياً مَجْرَى اسم الإشارة " .
قوله : " فَذَرْهُم وما يَفْتَرُون " تقدَّم نظيره{[15325]} .
المعنى : ولو شاء اللَّه لَعصَمْهم حتى ما فَعَلُوا ذلِك من تَحْريم الحَرْث والأنْعَام ، وقتل الأولاد فذرهم يا مُحَمَّد وما يَفْتَرُون يختلِقُون في الكَذِب ، فإن اللَّه لهم بالمِرصَاد .
قال أهل السُّنَّة{[15326]} : وهذا يَدُلُّ على أن كُلَّ ما فَعلَهُ المشرِكُون - فهو بِمَشِيئَة الله - تبارك وتعالى- .
وقال المعتزلة : إنه مَحْمُول على مَشِيئَة الإلْجَاء{[15327]} كما سَبَق .