{ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } فإنهم ليسوا في خسر ، { وتواصوا } أوصى بعضهم بعضاً ، { بالحق } بالقرآن ، قاله الحسن وقتادة ، وقال مقاتل : بالإيمان والتوحيد . { وتواصوا بالصبر } على أداء الفرائض وإقامة أمر الله . وروى ابن عون عن إبراهيم قال : أراد أن الإنسان إذا عمر في الدنيا وهرم ، لفي نقص وتراجع إلا المؤمنين ، فإنهم يكتب لهم أجورهم ومحاسن أعمالهم التي كانوا يعملونها في شبابهم وصحتهم ، وهي مثل قوله : { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم * ثم رددناه أسفل سافلين * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } ( التين :4-6 ) .
الإيمان بما أمر الله بالإيمان به ، ولا يكون الإيمان بدون العلم ، فهو فرع عنه لا يتم إلا به .
والعمل الصالح ، وهذا شامل لأفعال الخير كلها ، الظاهرة والباطنة ، المتعلقة بحق الله وحق عباده{[1476]} ، الواجبة والمستحبة .
والتواصي بالحق ، الذي هو الإيمان والعمل الصالح ، أي : يوصي بعضهم بعضًا بذلك ، ويحثه عليه ، ويرغبه فيه .
والتواصي بالصبر على طاعة الله ، وعن معصية الله ، وعلى أقدار الله المؤلمة .
فبالأمرين الأولين ، يكمل الإنسان{[1477]} نفسه ، وبالأمرين الأخيرين يكمل غيره ، وبتكميل الأمور الأربعة ، يكون الإنسان قد سلم من الخسار ، وفاز بالربح [ العظيم ] .
{ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } فإنهم اشتروا الآخرة بالدنيا ، ففازوا بالحياة الأبدية ، والسعادة السرمدية ، { وتواصوا بالحق } الثابت الذي لا يصح إنكاره من اعتقاد أو عمل ، { وتواصوا بالصبر } عن المعاصي ، أو على الحق ، أو ما يبلو الله به عباده ، وهذا من عطف الخاص على العام للمبالغة ، إلا أن يخص العمل بما يكون مقصورا على كماله ، ولعله سبحانه وتعالى إنما ذكر سبب الربح دون الخسران اكتفاء ببيان المقصود ، وإشعارا بأن ما عد إما عد يؤدي إلى خسر ونقص حظ ، أو تكرما ، فإن الإبهام في جانب الخسر كرم .
وأعقب بالاستثناء بقوله : { إلا الذين آمنوا } الآية فيتقرر الحكم تاماً في نفس السامع مبيناً أن الناس فريقان : فريق يلحقه الخسران ، وفريق لا يلحقه شيء منه ، فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لا يلحقهم الخسران بحال إذا لم يتركوا شيئاً من الصالحات بارتكاب أضدادها وهي السيئات .
ومن أكبر الأعمال الصالحات التوبة من الذنوب لمقترفيها ، فمن تحقق فيه وصف الإِيمان ولم يعمل السيئات أو عملها وتاب منها فقد تحقق له ضد الخسران وهو الربح المجازي ، أي حسن عاقبة أمره ، وأما من لم يعمل الصالحات ولم يتب من سيئاته فقد تحقق فيه حكم المستثنى منه وهو الخسران .
وهذا الخسر متفاوت فأعظمه وخالده الخسر المنجر عن انتفاء الإِيمان بوحدانية الله وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم ودون ذلك تكونُ مراتب الخسر متفاوتة بحسب كثرة الأعمال السيئة ظاهرها وباطنها . وما حدده الإِسلام لذلك من مراتب الأعمال وغفران بعض اللمم إذا ترك صاحبه الكبائر والفواحشَ وهو ما فسر به قوله تعالى : { إن الحسنات يذهبن السيئات } [ هود : 114 ] .
وهذا الخبر مراد به الحصول في المستقبل بقرينة مقام الإِنذار والوعيد ، أي لفي خسر في الحياة الأبدية الآخرة فلا التفات إلى أحوال الناس في الحياة الدنيا ، قال تعالى : { لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد } [ آل عمران : 196 ، 197 ] .
وتنكير { خسر } يجوز أن يكون للتنويع ، ويجوز أن يكون مفيداً للتعظيم والتعميم في مقام التهويل وفي سياق القسَم .
والمعنى : إن الناس لفي خسران عظيم وهم المشركون .
والتعريف في قوله : { الصالحات } تعريف الجنس مراد به الاستغراق ، أي عملوا جميع الأعمال الصالحة التي أمروا بعملها بأمر الدين وعَمل الصالحات يشمل ترك السيئات . وقد أفاد استثناء المتصفين بمضمون الصلة ومعطوفها إيماء إلى علة حكم الاستثناء وهو نقيض الحكم الثابت للمستثنى منه فإنهم ليسوا في خسر لأجل أنهم آمنوا وعملوا الصالحات .
فأما الإِيمان فهو حقيقة مقُول على جزئياتها بالتواطىء . وأما الصالحات فعمومها مقول عليه بالتشكك ، فيشير إلى أن انتفاء الخسران عنهم يتقدر بمقدار ما عملوه من الصالحات وفي ذلك مراتب كثيرة .
وقد دل استثناء الذين آمنوا وعملوا الصالحات من أن يكونوا في خُسر على أن سبب كون بقية الإِنسان في خسر هو عدم الإِيمان والعمل الصالح بدلالة مفهوم الصفة . وعُلم من الموصول أن الإِيمان والعمل الصالح هما سبب انتفاء إحاطة الخسر بالإِنسان .
وعُطف على عَمل الصالحات التواصي بالحق والتواصي بالصبر وإن كان ذلك من عمل الصالحات ، عَطْف الخاص على العام للاهتمام به لأنه قد يُغفل عنه ، يُظن أن العمل الصالح هو ما أثرُه عمل المرء في خاصته ، فوقع التنبيه على أن من العمل المأمور به إرشادَ المسلم غيره ودعوتَه إلى الحق ، فالتواصي بالحق يشمل تعليم حقائق الهدى وعقائد الصواب وإراضة النفس على فهمها بفعل المعروف وترك المنكر .
والتواصي بالصبر عطف على التواصي بالحق عطف الخاص على العام أيضاً وإن كان خصوصه خصوصاً من وجهٍ لأن الصبر تحمَّل مشقة إقامة الحق وما يعترض المسلم من أذى في نفسه في إقامة بعض الحق .
وحقيقة الصبر أنه : منع المرء نفسه من تحصيل ما يشتهيه أو من محاولة تحصيله ( إن كان صعبَ الحصول فيترك محاولة تحصيله لخوْف ضر ينْشأ عن تناوله كخوف غضب الله أو عقاب ولاة الأمور ) أو لرغبة في حصول نفع منه ( كالصبر على مشقة الجهاد والحج رغبة في الثواب والصبر على الأعمال الشاقة رغبة في تحصيل مال أو سمعة أو نحو ذلك ) .
ومن الصبر الصبر على ما يلاقيه المسلم إذا أمَرَ بالمعروف من امتعاض بعض المأمورين به أو مِن أذاهم بالقول كمن يقول لآمره : هَلاّ نظرت في أمر نفسك ، أو نحو ذلك .
وأما تحمل مشقة فعل المنكرات كالصبر على تجشّم السهر في اللهو والمعاصي ، والصبر على بشاعة طعم الخمر لشاربها ، فليس من الصبر لأن ذلك التحمل منبعث عن رجحان اشتهاء تلك المشقة على كراهية المشقة التي تعترضه في تركها .
وقد اشتمل قوله تعالى : { وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر } على إقامة المصالح الدينية كلها ، فالعقائد الإِسلامية والأخلاق الدينية مندرجة في الحق ، والأعمال الصالحة وتجنب السيئات مندرجة في الصبر .
والتخلق بالصبر ملاك فضائل الأخلاق كلها فإن الارتياض بالأخلاق الحميدة لا يخلو من حمل المرء نفسه على مخالفة شهوات كثيرة ، ففي مخالفتها تعب يقتضي الصبرَ عليه حتى تصير مكارم الأخلاق ملكه لمن راض نفسه عليها ، كما قال عمرو بن العاص :
إذا المرءُ لم يَترُكْ طعاماً يُحبُّه *** ولم يَنْهَ قلباً غاوياً حيثُ يمَّما
فيوشِك أن تُلفَى له الدَّهرَ سُبّةٌ *** إذا ذُكِرَتْ أمثالُها تَمْلأ الفَمَا
وكذلك الأعمال الصالحة كلها لا تخلو من إكراه النفس على ترك ما تميل إليه . وفي الحديث : " حُفَّت الجنة بالمكارِهِ وحُفّت النار بالشهوات " . وعن علي بن أبي طالب : « الصبر مطية لا تكبو » .
وقد مضى الكلام على الصبر مشبعاً عند قوله تعالى : { استعينوا بالصبر والصلاة } في سورة البقرة ( 45 ) .
وأفادت صيغة التواصي بالحق وبالصبر أن يكون شأن حياة المؤمنين قائماً على شيوع التآمر بهما ديدناً لهم ، وذلك يقتضي اتصاف المؤمنين بإقامة الحق وصبرهم على المكاره في مصالح الإِسلام وأمته لما يقتضيه عرف الناس من أن أحداً لا يوصي غيره بملازمة أمر إلا وهو يرى ذلك الأمر خليقاً بالملازمة إذ قلّ أن يُقدم أحد على أمر بحق هو لا يفعله أو أمر بصبر وهو ذو جزع ، وقد قال الله تعالى توبيخاً لبني إسرائيل : { أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون } [ البقرة : 44 ] ، وقد تقدم هذا المعنى عند قوله تعالى : { ولا تحاضون على طعام المسكين } في سورة الفجر ( 18 ) .