{ إلا الذين آمنوا } أي بالله وبما أنزل من الحق ، إيمانا ملك إرادتهم فلا يعملون إلا ما يوافق اعتقادهم . كما قال { وعملوا الصالحات } قال القاشاني : أي من الفضائل والخيرات . أي اكتسبوها فربحوا زيادة النور الكمالي على النور الاستعدادي الذي هو رأس مالهم .
{ وتواصوا بالحق } أي أوصى بعضهم بعضا بما أنزل الله في كتابه من أمره ، واجتناب ما نهى عنه من معاصيه { وتواصوا بالصبر } أي ما يبلو الله به عباده . أو على الحق ، فإن الوصول إلى الحق سهل . وأما البقاء عليه والصبر معه بالاستقامة والجهاد لأجله ، فذاك الذي يظهر به مصداق الإيمان وحقيقته .
الأول : قال الإمام ابن القيم في ( مفتاح دار السعادة ) قال الشافعي رضي الله عنه : لو فكر الناس كلهم في هذه السورة لكفتهم . وبيان ذلك أن المراتب أربعة وباستكمالها يحصل للشخص غاية كماله : إحداها معرفة الحق . الثانية عمله به . الثالثة تعليمه من لا يحسنه . الرابعة صبره على تعلمه والعمل به وتعليمه . فذكر تعالى المراتب الأربعة في هذه السورة ، وأقسم سبحانه في هذه السورة بالعصر أن كل أحد في خسر{ إلا الذين آمنوا } وهم الذين عرفوا الحق وصدقوا به ، فهذه مرتبة{ وعملوا الصالحات } وهم الذين عملوا بما علموه من الحق ، فهذه أخرى . { وتواصوا بالحق } وصى به بعضهم بعضا تعليما وإرشادا ، فهذه مرتبة ثالثة . { وتواصوا بالصبر } صبروا على الحق ووصى بعضهم بعضا بالصبر عليه والثبات . فهذه مرتبة رابعة .
وهذا نهاية الكمال ، فإن الكمال أن يكون الشخص كاملا في نفسه ، مكملا لغيره . وكمال بإصلاح قوتيه العلمية والعملية ، فصلاح القوة العلمية الإيمان ، وصلاح القوة العملية بعمل الصالحات . وتكمليه غيره ، بتعليمه إياه ، وصبره عليه ، وتوصيته بالصبر على العلم والعمل . فهذه السورة ، على اختصارها ، هي من أجمع سور القرآن للخير بحذافيره . والحمد لله الذي جعل كتابه كافيا عن كل ما سواه ، شافيا من كل داء ، هاديا إلى كل خير . انتهى .
الثاني : قال الرازي : هذه السورة فيها وعيد شديد ، وذلك لأنه تعالى حكم بالخسار على جميع الناس ، إلا من كان آتيا بهذه الأشياء الأربعة ، وهي : الإيمان ، والعمل الصالح ، والتواصي بالحق ، والتواصي بالصبر . فدل ذلك على أن النجاة معلقة بمجموع هذه الأمور ، وأنه كما يلزم المكلف تحصيل ما يخص نفسه ، فكذلك يلزمه في غيره أمور : منها الدعاء إلى الدين ، والنصيحة ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأن يحب له ما يحب لنفسه ، ثم كرر التواصي ليتضمن الأول الدعاء إلى الله ، والثاني الثبات عليه ، والأول الأمر بالمعروف ، والثاني النهي عن المنكر . ومنه قوله تعالى [ 21/لقمان/17 ] : { وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك } وقال عمر : " رحم الله من أهدى إلي عيوبي " .
الثالث : قال الرازي : دلت الآية على أن الحق ثقيل ، وأن المحن تلازمه ، فلذلك قرن التواصي بالصبر .
الرابع : تخصيص التواصي بالحق والصبر ، مع اندراجهما في الأعمال الصالحة ، لإبراز كمال الاعتناء بهما .
قال الإمام : من تلك الأعمال الدعوة إلى الحق والوصية بالصبر ؛ لكنه أراد تخصيص هذين الأمرين بالذكر ؛ لأنهما حفاظ كل خير ورأس كل أمر . والحق هو ما تقرر من حقيقة ثابتة أو شريعة صحيحة ، وهو ما أرشد إليه دليل قاطع أو عيان ومشاهدة . فشرط النجاة من الخسران أن يعرف الناس الحق ويلزموه أنفسهم ، ويمكنوه من قلوبهم ، ثم يحمل الناس بعضهم بعضا عليه ، بأن يدعو كل صاحبه إلى الاعتقاد بالحقائق الثابتة ، التي لا ينازع فيها العقل ولا يختلف فيها النقل ، وأن يبعدوا بأنفسهم وبغيرهم عن الأوهام والخيالات ، التي لا قرار للنفوس عليها ، ولا دليل يهدي إليها ، ولا يكون ذلك إلا بإعمال الفكر وإجادة النظر في الأكوان ، حتى تستطيع النفس دفع ما يرد عليها من باطل الأوهام . وهذا إطلاق للعقل من كل قيد ، مع اشتراط التدقيق في النظر ، لا الذهاب مع الطيش والانخداع للعادة والوهم . ومن لم يأخذ نفسه بحمل الناس على الحق الصحيح بعد أن يعرفه فهو من الخاسرين ، كما ترى في الآية بالنص الصريح الذي لا يقبل التأويل . والصبر قوة للنفس على احتمال المشقة في العمل الطيب ، واحتمال المكروه من الحرمان من اللذة ، إن كان في نيلها ما يخالف حقا أو ما لا تأذن به الشريعة الصحيحة التي لا اختلاف فيها . واحتمال الآلام إذا عرضت المصائب بدون جزع ولا خروج في دفعها عن حدود الحق والشرع . فشرط النجاة من الخسران أن تصبر ، وأن توصي غيرك بالصبر ، وتحمله على تكميل قواه بهذه الفضيلة الشريفة ، التي هي أم الفضائل بأسرها ، ولا يمكنك حمله على ذلك ، حتى تكون بنفسك متحليا بها ، وإلا دخلت فيمن يقول ، ولا يفعل كما يقول . فلم تكن ممن يعمل الصالحات . انتهى .
الخامس : قال الإمام : إنما قال : { وتواصوا } ولم يقل ( وأوصوا ) ليبين أن النجاة من الخسران إنما تناط بحرص كل من أفراد الأمة على الحق ، ونزوع كل منهم إلى أن يوصي به قومه ومن يهمه أمر الحق ، ليوصي صاحبه بطلبه ، يهمه أن يرى الحق فيقبله . فكأن في هذه العبارة الجزلة ، قد نص على تواصيهم بالحق ، وقبولهم الوصية به إذا وجهت إليهم .
السادس : قال ابن كثير : ذكر الطبراني من طريق حماد بن سلمة عن ثابت ، عن عبيد الله بن حصن قال : " كان الرجلان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا التقيا لم يفترقا إلا على أن يقرأ أحدهما على الآخر سورة العصر إلى آخرها ، ثم يسلم أحدهما على الآخر " . قال الإمام : قد ظن الناس أن ذلك كان للتبرك ، وهو خطأ ، وإنما كان ليذكر كل واحد منهما صاحبه بما ورد فيها ، خصوصا من التواصي بالحق والتواصي بالصبر ، حتى يجتلب منه قبل التفرق ، وصية خير لو كانت عنده .
وقد فسر الإمام رحمه الله هذه السورة بتفسير على حدة لم يسبق إلى نظيره ، فعلى من أراد التوسع في أسرارها ، أن يرجع إليه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.