محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلۡحَقِّ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلصَّبۡرِ} (3)

{ إلا الذين آمنوا } أي بالله وبما أنزل من الحق ، إيمانا ملك إرادتهم فلا يعملون إلا ما يوافق اعتقادهم . كما قال { وعملوا الصالحات } قال القاشاني : أي من الفضائل والخيرات . أي اكتسبوها فربحوا زيادة النور الكمالي على النور الاستعدادي الذي هو رأس مالهم .

{ وتواصوا بالحق } أي أوصى بعضهم بعضا بما أنزل الله في كتابه من أمره ، واجتناب ما نهى عنه من معاصيه { وتواصوا بالصبر } أي ما يبلو الله به عباده . أو على الحق ، فإن الوصول إلى الحق سهل . وأما البقاء عليه والصبر معه بالاستقامة والجهاد لأجله ، فذاك الذي يظهر به مصداق الإيمان وحقيقته .

تنبيهات

الأول : قال الإمام ابن القيم في ( مفتاح دار السعادة ) قال الشافعي رضي الله عنه : لو فكر الناس كلهم في هذه السورة لكفتهم . وبيان ذلك أن المراتب أربعة وباستكمالها يحصل للشخص غاية كماله : إحداها معرفة الحق . الثانية عمله به . الثالثة تعليمه من لا يحسنه . الرابعة صبره على تعلمه والعمل به وتعليمه . فذكر تعالى المراتب الأربعة في هذه السورة ، وأقسم سبحانه في هذه السورة بالعصر أن كل أحد في خسر{ إلا الذين آمنوا } وهم الذين عرفوا الحق وصدقوا به ، فهذه مرتبة{ وعملوا الصالحات } وهم الذين عملوا بما علموه من الحق ، فهذه أخرى . { وتواصوا بالحق } وصى به بعضهم بعضا تعليما وإرشادا ، فهذه مرتبة ثالثة . { وتواصوا بالصبر } صبروا على الحق ووصى بعضهم بعضا بالصبر عليه والثبات . فهذه مرتبة رابعة .

وهذا نهاية الكمال ، فإن الكمال أن يكون الشخص كاملا في نفسه ، مكملا لغيره . وكمال بإصلاح قوتيه العلمية والعملية ، فصلاح القوة العلمية الإيمان ، وصلاح القوة العملية بعمل الصالحات . وتكمليه غيره ، بتعليمه إياه ، وصبره عليه ، وتوصيته بالصبر على العلم والعمل . فهذه السورة ، على اختصارها ، هي من أجمع سور القرآن للخير بحذافيره . والحمد لله الذي جعل كتابه كافيا عن كل ما سواه ، شافيا من كل داء ، هاديا إلى كل خير . انتهى .

الثاني : قال الرازي : هذه السورة فيها وعيد شديد ، وذلك لأنه تعالى حكم بالخسار على جميع الناس ، إلا من كان آتيا بهذه الأشياء الأربعة ، وهي : الإيمان ، والعمل الصالح ، والتواصي بالحق ، والتواصي بالصبر . فدل ذلك على أن النجاة معلقة بمجموع هذه الأمور ، وأنه كما يلزم المكلف تحصيل ما يخص نفسه ، فكذلك يلزمه في غيره أمور : منها الدعاء إلى الدين ، والنصيحة ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأن يحب له ما يحب لنفسه ، ثم كرر التواصي ليتضمن الأول الدعاء إلى الله ، والثاني الثبات عليه ، والأول الأمر بالمعروف ، والثاني النهي عن المنكر . ومنه قوله تعالى [ 21/لقمان/17 ] : { وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك } وقال عمر : " رحم الله من أهدى إلي عيوبي " .

الثالث : قال الرازي : دلت الآية على أن الحق ثقيل ، وأن المحن تلازمه ، فلذلك قرن التواصي بالصبر .

الرابع : تخصيص التواصي بالحق والصبر ، مع اندراجهما في الأعمال الصالحة ، لإبراز كمال الاعتناء بهما .

قال الإمام : من تلك الأعمال الدعوة إلى الحق والوصية بالصبر ؛ لكنه أراد تخصيص هذين الأمرين بالذكر ؛ لأنهما حفاظ كل خير ورأس كل أمر . والحق هو ما تقرر من حقيقة ثابتة أو شريعة صحيحة ، وهو ما أرشد إليه دليل قاطع أو عيان ومشاهدة . فشرط النجاة من الخسران أن يعرف الناس الحق ويلزموه أنفسهم ، ويمكنوه من قلوبهم ، ثم يحمل الناس بعضهم بعضا عليه ، بأن يدعو كل صاحبه إلى الاعتقاد بالحقائق الثابتة ، التي لا ينازع فيها العقل ولا يختلف فيها النقل ، وأن يبعدوا بأنفسهم وبغيرهم عن الأوهام والخيالات ، التي لا قرار للنفوس عليها ، ولا دليل يهدي إليها ، ولا يكون ذلك إلا بإعمال الفكر وإجادة النظر في الأكوان ، حتى تستطيع النفس دفع ما يرد عليها من باطل الأوهام . وهذا إطلاق للعقل من كل قيد ، مع اشتراط التدقيق في النظر ، لا الذهاب مع الطيش والانخداع للعادة والوهم . ومن لم يأخذ نفسه بحمل الناس على الحق الصحيح بعد أن يعرفه فهو من الخاسرين ، كما ترى في الآية بالنص الصريح الذي لا يقبل التأويل . والصبر قوة للنفس على احتمال المشقة في العمل الطيب ، واحتمال المكروه من الحرمان من اللذة ، إن كان في نيلها ما يخالف حقا أو ما لا تأذن به الشريعة الصحيحة التي لا اختلاف فيها . واحتمال الآلام إذا عرضت المصائب بدون جزع ولا خروج في دفعها عن حدود الحق والشرع . فشرط النجاة من الخسران أن تصبر ، وأن توصي غيرك بالصبر ، وتحمله على تكميل قواه بهذه الفضيلة الشريفة ، التي هي أم الفضائل بأسرها ، ولا يمكنك حمله على ذلك ، حتى تكون بنفسك متحليا بها ، وإلا دخلت فيمن يقول ، ولا يفعل كما يقول . فلم تكن ممن يعمل الصالحات . انتهى .

الخامس : قال الإمام : إنما قال : { وتواصوا } ولم يقل ( وأوصوا ) ليبين أن النجاة من الخسران إنما تناط بحرص كل من أفراد الأمة على الحق ، ونزوع كل منهم إلى أن يوصي به قومه ومن يهمه أمر الحق ، ليوصي صاحبه بطلبه ، يهمه أن يرى الحق فيقبله . فكأن في هذه العبارة الجزلة ، قد نص على تواصيهم بالحق ، وقبولهم الوصية به إذا وجهت إليهم .

السادس : قال ابن كثير : ذكر الطبراني من طريق حماد بن سلمة عن ثابت ، عن عبيد الله بن حصن قال : " كان الرجلان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا التقيا لم يفترقا إلا على أن يقرأ أحدهما على الآخر سورة العصر إلى آخرها ، ثم يسلم أحدهما على الآخر " . قال الإمام : قد ظن الناس أن ذلك كان للتبرك ، وهو خطأ ، وإنما كان ليذكر كل واحد منهما صاحبه بما ورد فيها ، خصوصا من التواصي بالحق والتواصي بالصبر ، حتى يجتلب منه قبل التفرق ، وصية خير لو كانت عنده .

وقد فسر الإمام رحمه الله هذه السورة بتفسير على حدة لم يسبق إلى نظيره ، فعلى من أراد التوسع في أسرارها ، أن يرجع إليه .