يقول تعالى ذاما لمن أنكر البعث والنشور من بني آدم : ( قُتِلَ الإنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ ) قال الضحاك ، عن ابن عباس : ( قُتِلَ الإنْسَانُ ) لعن الإنسان . وكذا قال أبو مالك . وهذا لجنس الإنسان المكذب ؛ لكثرة تكذيبه بلا مستند ، بل بمجرد الاستبعاد وعدم العلم .
قال ابن جرير{[29699]} ( مَا أَكْفَرَهُ ) ما أشد كفره ! وقال ابن جرير : ويحتمل أن يكون المراد : أي شيء جعله كافرا ؟ أي : ما حمله على التكذيب بالمعاد{[29700]} .
وقال قتادة - وقد حكاه البغوي عن مقاتل والكلبي - : ( مَا أَكْفَرَهُ ) ما ألعنه .
استئناف ابتدائي نشأ عن ذكر من استغنى فإنه أريد به معين واحد أو أكثرُ ، وذلك يبيِّنه مَا وقع من الكلام الذي دار بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين صناديد المشركين في المجلس الذي دخل فيه ابن أم مكتوم .
والمناسبة وصفُ القرآن بأنه تذكرة لمن شاء أن يتذكر ، وإذ قد كان أكبر دواعيهم على التكذيب بالقرآن أنه أخبر عن البعث وطالَبهم بالإِيمان به كان الاستدلال على وقوع البعث أهم ما يعتنى به في هذا التذكير وذلك من أفنان قوله : { فمن شاء ذكره } [ عبس : 12 ] .
والذي عُرِّف بقوله : { من استغنى } [ عبس : 5 ] يشمله العموم الذي أفاده تعريف { الإِنسان } من قوله تعالى : { قتل الإنسان ما أكفره } .
وفعل قُتل فُلانٌ أصله دعاء عليه بالقتل . والمفسرون الأولون جعلوا : { قتل الإنسان } أنه لُعِن ، رواه الضحاك عن ابن عباس وقاله مجاهد وقتادة وأبو مالك . قال في « الكشاف » : « دعاء عليه وهذا من أشنع دعواتهم » ، أي فمورده غير مورد قوله تعالى : { قاتلهم اللَّه } [ التوبة : 30 ] وقولِهم : قاتَل الله فلاناً يريدون التعجب من حاله ، وهذا أمر مرجعه للاستعمال ولا داعي إلى حمله على التعجيب لأن قوله : { ما أكفره } يغني عن ذلك .
والدعاء بالسوء من الله تعالى مستعمل في التحقير والتهديد لظهور أن حقيقة الدعاء لا تناسب الإلهية لأن الله هو الذي يتوجه إليه الناس بالدعاء .
وبناء { قتل } للمجهول متفرع على استعماله في الدعاء ، إذ لا غرض في قاتِل يَقتله ، وكثر في القرآن مبنياً للمجهول نحو { فقتل كيف قدر } [ المدثر : 19 ] .
وتعريف { الإنسان } يجوز أن يكون التعريفَ المسمى تعريفَ الجنس فيفيد استغراق جميع أفراد الجنس ، وهو استغراق حقيقي ، وقد يراد به استغراق معظم الأفراد بحسب القرائن فتولَّدَ بصيغة الاستغراق ادعاء لعدم الاعتداد بالقليل من الأفراد ، ويسمى الاستغراق العرفي في اصطلاح علماء المعاني ، ويسمى العامَّ المرادَ به الخصوص في اصطلاح علماء الأصول والقرينة هنا ما بُين به كفر الإِنسان من قوله : { من أي شيء خلقه } إلى قوله : { ثم إذا شاء أنشره } فيكون المراد من قوله : { الإنسان } المشركين المنكرين البعث ، وعلى ذلك جملة المفسرين ، فإن معظم العرب يومئذ كافرون بالبعث .
قال مجاهد : ما كان في القرآن { قتل الإنسان } فإنما عُني به الكافر .
والأحكام التي يحكم بها على الأجناس يراد أنها غالبة على الجنس ، فالاستغراق الذي يقتضيه تعريف لفظ الجنس المحكوم عليه استغراق عرفي معناه ثبوت الحكم للجنس على الجملة ، فلا يقتضي اتصاف جميع الأفراد به ، بل قد يخلو عنه بعض الأفراد وقد يخلو عنه المتصف به في بعض الأحيان ، فقوله : { ما أكفره } تعجيب من كفر جنس الإنسان أو شدة كفره وإن كان القليل منه غير كافر .
فآل معنى الإنسان إلى الكفار من هذا الجنس وهم الغالب على نوع الإِنسان .
فغالب الناس كفروا بالله من أَقدم عصور التاريخ وتفَشَّى الكفر بين أفراد الإِنسان وانتصروا له وناضلوا عنه . ولا أعجبَ من كفر من أَلَّهوا أعْجز الموجودات من حجارة وخشب ، أو نَفَوا أن يكون لهم رب خلقهم .
ويجوز أن يكون تعريف { الإنسان } تعريف العهد لشخص معين من الإنسان يُعيِّنه خبر سبب النزول ، فقيل : أريد به أميةُ بن خلف ، وكان ممن حواه المجلس الذي غشيه ابن أم مكتوم ، وعندي أن الأولى أن يكون أراد به الوليد بن المغيرة .
وعن ابن عباس أن المراد عتبة بن أبي لهب ، وذكر في ذلك قصة لا علاقة لها بخبر المجلس الذي غشيه ابن أم مكتوم ، فتكون الجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً ، والمناسبة ظاهرة .
وجملة { ما أكفره } تعليل لإنشاء الدعاء عليه دعاء التحقير والتهديد . وهذا تعجيب من شدة كفر هذا الإنسان .
ومعنى شدة الكفر أن كفره شديد كَمّاً وكيْفاً ، ومتىً ، لأنه كفر بوحدانية الله ، وبقدرته على إعادة خلق الأجسام بعد الفناء ، وبإرساله الرسول ، وبالوحي إليه صلى الله عليه وسلم وأنه كفر قوي لأنه اعتقاد قوي لا يقبل التزحزح ، وأنه مستمر لا يقلع عنه مع تكرر التذكير والإِنذار والتهديد .
وهذه الجملة بلغت نهاية الإِيجاز وأرفع الجزالة بأسلوب غليظ دال على السخط بالغ حدّ المذمة ، جامع للملامة ، ولم يسمع مثلها قبلها ، فهي من جوامع الكلم القرآنية .
وحذف المتعلِّق بلفظ { أكفره } لظهوره من لفظ « أكفَرَ » وتقديرُه : ما أكفره بالله .
وفي قوله : { قتل الإنسان ما أكفره } محسّن الاتِّزَان فإنه من بحر الرمل من عروضه الأولى المحذوفة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.