قوله تعالى : { فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعداً } أي : فاضرب بيننا وبينك أجلاً وميقاتاً { لا نخلفه } قرأ أبو جعفر : { لا نخلفه } جزما لا نجاوزه { نحن ولا أنت مكاناً سوىً } قرأ ابن عامر ، وعاصم ، و حمزة ، و يعقوب " سوىً " بضم السين ، وقرأ الآخرون : بكسرها وهما : لغتان مثل عدى وعدى وطوىً وطوى . قال مقاتل ، و قتادة : مكاناً عدلاً بيننا وبينك . وعن ابن عباس : نصفاً ، ومعناه : تستوي مسافة الفريقين إليه . قال أبو عبيدة ، والقتيبي : وسطا بين الفريقين . قال مجاهد : منصفاً . وقال الكلبي : يعني سوى هذا المكان .
" فَلَنْأتِيَنّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِدا " لا نتعدّاه ، لنجيء بسحر مثل الذي جئت به ، فننظر أينا يغلب صاحبه ، لا نخلف ذلك الموعد نَحْنُ وَلا أنْتَ مَكانا سُوًى يقول : بمكان عدل بيننا وبينك ونَصَف .
وقد اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الحجاز والبصرة وبعض الكوفيين : «مَكانا سِوًى » بكسر السين ، وقرأته عامة قرّاء الكوفة : مَكانا سُوًى بضمها .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا ، أنهما لغتان ، أعني الكسر والضم في السين من «سوى » مشهورتان في العرب . وقد قرأت بكل واحدة منهما علماء من القرّاء ، مع اتفاق معنييهما ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب . وللعرب في ذلك إذا كان بمعنى العدل والنصب لغة هي أشهر من الكسر والضم وهو الفتح ، كما قال جلّ ثناؤه " تَعَالُوا إلى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَينَنا وَبَيْنَكُمْ " وإذا فتح السين منه مدّ . وإذا كسرت أو ضمت قصر ، كما قال الشاعر :
فإنّ أبانا كانَ حَلّ بِبَلْدَةٍ *** سُوًى بينَ قَيْسٍ قَيْسٍ عَيْلانَ والفِزْرِ
ونظير ذلك من الأسماء : طُوَى ، وطَوَى وثَنى وثُنَى وَعَدَى ، وعُدَى . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : " مَكانا سُوًى " قال : منصفا بينهم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، بنحوه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة " مَكانا سوًى " : أي عادلاً بيننا وبينك .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قَتادة ، قوله : " مَكانا سُوًى " قال : نصفا بيننا وبينك .
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : " فاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِدا لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أنْتَ مَكانا سُوًى " قال : يقول : عدلاً . وكان ابن زيد يقول في ذلك ما :
حدثني به يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : " مَكانا سُوًى " قال : مكانا مستويا يتبين للناس ما فيه ، لا يكون صوب ولا شيء فيغيب بعض ذلك عن بعض مستوٍ حين يرى .
إضافته السحرَ إلى ضمير موسى قُصد منها تحقير شأن هذا الذي سمّاه سحراً .
وأسنَدَ الإتيان بسحرٍ مثله إلى ضمير نفسه تعظيماً لشأنه . ومعنى إتيانه بالسحر : إحضار السحرة بين يديه ، أي فلنأتينك بسحر ممنْ شأنهم أن يأتوا بالسحر ، إذ السحر لا بد له من ساحر .
والمماثلة في قوله { مِثْلِهِ } مماثلة في جنس السحر لا في قوته .
وإنما جعل فرعون العلّة في مجيء موسى إليه : أنها قصده أن يخرجهم من أرضهم قياساً منه على الذين يقومون بدعوة ضد الملوك أنهم إنما يبغون بذلك إزالتهم عن الملك وحلولَهم محلّهم ، يعني أن موسى غرّته نفسه فحسب أنه يستطيع اقتلاع فرعون من ملكه ، أي حسبتَ أنّ إظهار الخوارق يطوّع لك الأمة فيجعلونك ملكاً عليهم وتخرجني من أرضي . فضمير المتكلم المشارك مستعمل في التعظيم لا في المشاركة ، لأنّ موسى لم يصدر عنه ما يشمّ منه إخراجهم من أرضهم .
ويجوز أن يكون ضمير المتكلم المشارك مستعملاً في الجماعة تغليباً ، ونزّل فرعون نفسه واحداً منها . وأراد بالجماعة جماعة بني إسرائيل حيث قال له موسى { فأرسِلْ معنا بني إسرائيل } [ طه : 47 ] ، أي جئت لتخرج بعض الأمة من أرضنا وتطمع أن يتبعك جميع الأمّة بما تظهر لهم من سحرك .
والاستفهام في { أجِئْتَنَا } إنكاري ، ولذلك فرّع عليه القسم على أن يأتيه بسحر مثله ، والقسم من أساليب إظهار الغضب .
واللام لام القسم ، والنون لتوكيده . وقصد فرعون من مقابلة عمل موسى بمثله أن يزيل ما يخالج نفوس الناس من تصديق موسى وكونه على الحق ، لعلّ ذلك يفضي بهم إلى الثورة على فرعون وإزالته من ملك مصر .
وفرّع على ذلك طلب تعيين موعد بينه وبين موسى ليُحضر له فيه القائمين بسحر مثل سحره .
والموعد هنا يجوز أن يراد به المصدر الميمي ، أي الوعد وأن يراد به مكان الوعد ، وهذا إيجاز في الكلام .
وقوله { مكاناً } بدل اشتمال من { موعداً } بأحد معنييه ، لأنّ الفعل يقتضي مكاناً وزماناً فأبدل منه مكانُه .
وقوله { لا نُخْلِفُهُ } في قراءة الجمهور برفع الفعل صفةً ل { موعداً } باعتبار معناه المصدري . وقرأه أبو جعفر بجزم الفاء من ( نخلفْه ) على أن ( لا ) ناهية . والنهي تحذير من إخلافه .
و { سِوىً } قرأه نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، والكسائي بكسر السين . وقرأه عاصم ، وحمزة ، وابن عامر ، ويعقوب ، وخلف بضم السين وهما لغتان ، فالكسر بوزن فِعَل ، قال أبو عليّ : وزن فِعَل يقلُّ في الصفات ، نحو : قوم عِدىً . وقال أبو عبيدة ، وأبو حاتم ، والنحاس : كسر السين هو اللغة العالية الفصيحة ، وهو اسم وصف مشتق من الاستواء : فيجوز أن يكون الاستواء استواء التوسط بين جهتين . وأنشد أبو عبيدة لموسى ابن جابر الحنفي :
وإن أبانا كانَ حلّ ببلدة *** سِوىً بين قيسسٍ قيس عيلان والفِزْر
( الفِزر : لقب لسعد بن زيد مناةَ بن تميم هو بكسر الفاء ) .
والمعنى : قال مجاهد : إنه مكان نصف ، وكأنّ المرادَ أنّه نصف من المدينة لئلا يشق الحضور فيه على أهل أطراف المدينة . وعن ابن زيد : المعنى مكاناً مستوياً ، أي ليس فيه مرتفعات تحجب العين ، أراد مكاناً منكشفاً للناظرين ليشهدوا أعمال موسى وأعمال السحرة .