روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{فَلَنَأۡتِيَنَّكَ بِسِحۡرٖ مِّثۡلِهِۦ فَٱجۡعَلۡ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكَ مَوۡعِدٗا لَّا نُخۡلِفُهُۥ نَحۡنُ وَلَآ أَنتَ مَكَانٗا سُوٗى} (58)

ثم ادعى أنه يعارضه بمثله فقال :

{ فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مّثْلِهِ } والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها واللام واقعة في جواب قسم محذوف كأنه قيل : إذا كان كذلك فوالله لنأتينك بسحر مثل سحرك { فاجعل بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً } أي وعدا على أنه مصدر ميمي وليس باسم زمان ولا مكان لأن الظاهر أن قوله تعالى : { لاَّ نُخْلِفُهُ } صفة له والضمير المنصوب عائد إليه . ومتى كان زماناً أو مكاناً لزم تعلق الاخلاف بالزمان أو المكان وهو إنما يتعلق بالوعد يقال : أخلف وعده لا زمان وعده ولا مكانه أي لا نخلف ذلك الوعد { نَحْنُ وَلا أَنتَ } وإنما فوض اللعين أمر الوعد إلى موسى عليه السلام للاحتراز عن نسبته إلى ضعف القلب وضيق الحال وإظهار الجلادة وإراءة أنه متمكن من تهيئة أسباب المعارضة وترتيب آلات المغالبة طال الأمد أم قصر كما أن تقديم ضميره على ضمير موسى عليه السلام وتوسيط كلمة النفي بينهما للإيذان بمسارعته إلى عدم الإخلاف وإن عدم إخلافه لا يوجب عدم إخلافه عليه السلام ولذلك أكد النفي بتكرير حرفه .

وقرأ أبو جعفر . وشيبة { لاَّ نُخْلِفُهُ } بالجزم على أنه جواب للأمر أي إن جعلت ذلك لا نخلفه { مَكَاناً سُوًى } أي منصفاً بيننا وبينك كما روي عن مجاهد . وقتادة أي محلاً واقعاً على نصف المسافة بيننا سواء بسواء ، وهذا معنى قول أبي علي قربه . منكم كقربه منا ، وعلى ذلك قول الشاعر :

وإن أبانا كان حل بأهله *** سوى بين قيس قيس غيلان والفزر

أو محل نصف أي عدل كما روي عن السدي لأن المكان إذا لم يترجح قربه من جانب على آخر كان معدلاً بين الجانبين . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد أنه قال : أي مكاناً مستوياً من الأرض لا وعر فيه ولا جبل ولا أكمة ولا مطمئن بحيث يستر الحاضرين فيه بعضهم عن بعض ومراده مكاناً يتبين الواقفون فيه ولا يكون فيه ما يستر أحداً منهم ليرى كل ما يصدر منك ومن السحرة . وفيه من إظهار الجلادة وقوة الوثوق بالغلبة ما فيه ، وهذا المعنى عندي حسن جداً وإليه ذهب جماعة ، وقيل : المعنى مكاناً تستوي حالنا فيه وتكون المنازل فيه واحدة لا تعتبر فيه رياسة ولا تؤدي سياسة بل يتحد هناك الرئيس والمرؤوس والسائس والمسوس ولا يخلو عن حسن ، وربما يرجع إلى معنى منصفاً أي محل نصف وعدل .

وقيل : { سُوًى } بمعنى غير والمراد مكاناً غير هذا المكان وليس بشيء لأن سوى بهذا المعنى لا تستعمل إلا مضافة لفظاً ولا تقطع عن الإضافة ، وانتصاب { مَكَاناً } على أنه مفعول به لفعل مقدر يدل عليه { مَّوْعِدًا } أي عد مكاناً لا لموعداً لأنه كما قال ابن الحاجب : مصدر قد وصف والمنصوب بالمصدر من تتمته ولا يوصف الشيء إلا بعد تمامه فكان كوصف الموصول قبل تمام صلته وهو غير سائغ .

وعن بعض النحاة أنه يجوز وصف المصدر قبل العمل مطلقاً وهو ضعيف ، وقال ابن عطية : يجوز وصفه قبل العمل إذا كان المعمول ظرفاً لتوسعهم فيه ما لم يتوسعوا في غيره ، ومن هنا جوز بعضهم أن يكون { مَكَاناً } منصوباً على الظرفية بموعداً . ورد بأن شرط النصب على الظرفية مفقود فيه ، فقد قال الرضي : يشترط في نصب { مَكَاناً } على الظرفية أن يكون في عامله معنى الاستقرار في الظرف كقمت وقعدت وتحركت مكانك فلا يجوز نحو كتبت الكتابة مكانك وقتلته وشتمته مكانك ، وتعقب بأن ما ذكره الرضي غير مسلم إذ لا مانع من قولك لمن أراد التقرب منك ليكلمك : تكلم مكانك ، نعم لا يطرد حسن ذلك في كل مكان ، ويجوز أن يكون ظرفاً لقوله تعالى : { لاَّ نُخْلِفُهُ } على أنه مضمن معنى المجيء أو الإتيان ، وجوز أن يكون ظرفاً لمحذوف وقع حالاً من فاعل { نُخْلِفُهُ } ويقدر كوناً خاصاً لظهور القرينة أي آتين أو جائين مكاناً .

وقرأ أبو جعفر . ونافع . وابن كثير . وأبو عمرو { سُوًى } بكسر السين والتنوين وصلاً ، وقرأ باقي السبعة بالضم والتنوين كذلك ، ووقف أبو بكر . وحمزة . والكسائي بالإمالة . وورش . وأبو عمرو بين بين .

وقرأ الحسن في رواية كباقي السبعة إلا أنه لم ينون وقفاً ووصلاً ، وقرأ عيسى كالأولين إلا أنه لم ينون وقفاً ووصلاً أيضاً ، ووجه عدم التنوين في الوصل إجراؤه مجرى الوقف في حذف التنوين والضم والكسر كما قال محيي السنة . وغيره لغتان في سوى مثل عدي وعدي .

وذكر بعض أهل اللغة أن فعلاً بكسر الفاء مختص بالأسماء الجامدة كعنب ولم يأت منه في الصفة إلا عدا جمع عدو ، وزاد الزمخشري سوى . وغيره روي بمعنى مرو ، وقال الأخفش : سوى مقصور إن كسرت سينه أو ضممت وممدود إن فتحت ففيه ثلاث لغات ويكون فيها جميعاً بمعنى غير وبمعنى عدل ووسط بين الفريقين ، وأعلى اللغات على ما قال النحاس سوى بالكسر .