قوله تعالى : { إنا أوحينا إليك } . هذا بناء على ما سبق من قوله { يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء } [ النساء :153 ] ، فلما ذكر الله عيوبهم وذنوبهم ، غضبوا وجحدوا كل ما أنزل الله عز وجل ، وقالوا : { ما أنزل الله على بشر من شيء } فنزل : { وما قدروا الله حق قدره } إذ قالوا : { ما أنزل الله على بشر من شيء } [ الأنعام :91 ] وأنزل .
قوله تعالى : { إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده } فذكر عدة من الرسل الذين أوحى إليهم ، وبدأ بذكر نوح عليه السلام لأنه كان أبا البشر مثل آدم عليه السلام ، قال الله تعالى : { وجعلنا ذريته هم الباقي } [ الصافات :77 ] ولأنه أول نبي من أنبياء الشريعة ، وأول نذير على الشرك ، وأول من عذبت أمته لردهم دعوته ، وأهلك أهل الأرض بدعائه ، وكان أطول الأنبياء عمراً ، وجعلت معجزته في نفسه ، لأنه عمر ألف سنة فلم تسقط له سن ، ولم تشب له شعرة ، ولم تنتقص له قوة ، ولم يصبر نبي على أذى قومه ما صبر هو على طول عمره .
قوله تعالى : { وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط } ، وهم أولاد يعقوب .
قوله تعالى : { وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا } ، قرأ الأعمش ، وحمزة : { زبوراً } و{ الزبور } بضم الزاي ، حيث كان بمعنى : جمع زبور ، أي آتينا داوود كتباً وصحفاً مزبورةً ، أي : مكتوبة ، وقرأ الآخرون بفتح الزاي ، وهو اسم الكتاب الذي أنزل الله تعالى على داوود عليه السلام ، وكان فيه التحميد والتمجيد والثناء على الله عز وجل ، وكان داوود يبرز إلى البرية فيقوم ويقرأ الزبور ، ويقوم معه علماء بني إسرائيل ، فيقومون خلفه ، ويقوم الناس خلف العلماء ، ويقوم الجن خلف الناس ، الأعظم فالأعظم ، والشياطين خلف الجن ، وتجيء الدواب التي في الجبال فيقمن بين يديه تعجباً لما يسمعن منه ، والطير ترفرف على رؤوسهم ، فلما قارف الذنب لم ير ذلك ، ونفروا من حوله ، فقيل له : ذاك أنس الطاعة ، وهذا وحشة المعصية .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي أنا أبو إسحاق الثعلبي ، أنا أبو بكر الجوزقي أنا أبو العباس الرعوف ، أنا يحيى بن زكريا ، أنا الحسن بن حماد بن سعيد الأموي ، عن طلحة بن يحيى ، عن أبي بردة بن أبي موسى ، عن أبيه قال : قال رسول لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لو رأيتني البارحة وأنا أستمع لقراءتك ؟ لقد أعطيت مزماراً من مزامير آل داود ) ، فقال : أما والله يا رسول الله لو علمت أنك تستمع لحبرته تحبيرا .
وكان عمر رضي الله عنه إذا رآه يقول : ذكرنا يا أبا موسى ، فيقرأ عنده .
{ إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا * وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا * رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا }
يخبر تعالى أنه أوحى إلى عبده ورسوله من الشرع العظيم والأخبار الصادقة ما أوحى إلى هؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وفي هذا عدة فوائد :
منها : أن محمدا صلى الله عليه وسلم ليس ببدع من الرسل ، بل أرسل الله قبله من المرسلين العدد الكثير والجم الغفير فاستغراب رسالته لا وجه له إلا الجهل والعناد .
ومنها : أنه أوحى إليه كما أوحى إليهم من الأصول والعدل الذي اتفقوا عليه ، وأن بعضهم يصدق بعضا ويوافق بعضهم بعضا .
ومنها : أنه من جنس هؤلاء الرسل ، فليعتبره المعتبر بإخوانه المرسلين ، فدعوته دعوتهم ؛ وأخلاقهم متفقة ؛ ومصدرهم واحد ؛ وغايتهم واحدة ، فلم يقرنه بالمجهولين ؛ ولا بالكذابين ولا بالملوك الظالمين .
ومنها : أن في ذكر هؤلاء الرسل وتعدادهم من التنويه بهم ، والثناء الصادق عليهم ، وشرح أحوالهم مما يزداد به المؤمن إيمانا بهم ومحبة لهم ، واقتداء بهديهم ، واستنانا بسنتهم ومعرفة بحقوقهم ، ويكون ذلك مصداقا لقوله : { سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ } { سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ } { سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ } { سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ }
فكل محسن له من الثناء الحسن بين الأنام بحسب إحسانه . والرسل -خصوصا هؤلاء المسمون- في المرتبة العليا من الإحسان .
ولما ذكر اشتراكهم بوحيه ذكر تخصيص بعضهم ، فذكر أنه آتى داود الزبور ، وهو الكتاب المعروف المزبور الذي خص الله به داود عليه السلام لفضله وشرفه ، وأنه كلم موسى تكليما ، أي : مشافهة منه إليه لا بواسطة حتى اشتهر بهذا عند العالمين فيقال : " موسى كليم الرحمن " .
قال محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : قال سُكَين وعَديّ بن زيد : يا محمد ، ما نعلم أن الله أنزل{[8720]} على بشر من شيء بعد موسى . فأنزل الله في ذلك من قولهما : { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ } إلى آخر الآيات .
وقال ابن جرير : حدثنا الحارث ، حدثنا عبد العزيز ، حدثنا أبو مَعْشر ، عن محمد بن كعب القرظي قال : أنزل الله : { يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنزلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ } إلى قوله { وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا } فما تلاها عليهم - يعني على اليهود - وأخبرهم بأعمالهم الخبيثة ، جحدوا كل ما أنزل الله وقالوا : ما أنزل الله على بشر من شيء ، ولا موسى ولا عيسى ، ولا على نبي من شيء . قال : فحَلّ حُبْوته ، وقال : ولا على أحد . . فأنزل الله عز وجل : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ } [ الأنعام : 91 ] .
وفي هذا الذي قاله محمد بن كعب القرظي نظر ؛ فإن هذه الآية مكية في سورة الأنعام ، وهذه الآية التي في سورة النساء مدنية ، وهي رد عليهم لما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتابًا من السماء ، قال الله تعالى { فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ } [ النساء : 153 ] ، ثم ذكر فضائحهم ومعايبهم وما كانوا عليه ، وما هم عليه الآن من الكذب والافتراء . ثم ذكر تعالى أنه أوحى إلى عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم كما أوحى إلى غيره من الأنبياء المتقدمين ، فقال : { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا }
والزبور : اسم الكتاب الذي أوحاه الله إلى داود ، عليه السلام ، وسنذكر ترجمة كل واحد من هؤلاء الأنبياء ، عليهم من الله [ أفضل ]{[8721]} الصلاة والسلام ، عند قصصهم في السور الآتية ، إن شاء الله ، وبه الثقة ، وعليه التكلان .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.