الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{۞إِنَّآ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ كَمَآ أَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ نُوحٖ وَٱلنَّبِيِّـۧنَ مِنۢ بَعۡدِهِۦۚ وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَٰرُونَ وَسُلَيۡمَٰنَۚ وَءَاتَيۡنَا دَاوُۥدَ زَبُورٗا} (163)

قوله تعالى : { كَمَآ أَوْحَيْنَآ } : / الكافُ نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ أي : إيحاءً مثلَ إيحائنا ، أو على أنه حالٌ من ذلك المصدر المحذوف المقدَّرِ معرفاً أي : أوحيناه أي : الإِيحاء حالَ كونِه مشبهاً لإِيحائنا إلى مَنْ ذكر . وهذا مذهبُ سيبويه وقد تقدَّم تحقيقه . و " ما " تحتمل وجهين : أنه تكونَ مصدريةً فلا تفتقر إلى عائدٍ على الصحيح ، وأن تكونَ بمعنى الذي ، فيكونُ العائدُ محذوفاً أي : كالذي أوحيناه إلى نوح . و " من بعده " متعلقٌ ب " أوْحينا " ، ولا يجوز أن تكونَ " من " للتبيين ، لأنَّ الحالَ خبرٌ في المعنى ، ولا يُخبر بظرف الزمان عن الجثة إلا بتأويل ليس هذا محلِّه . وأجاز أبو البقاء أن يتعلق بنفس " النبيين " ، يعني أنه في معنى الفعل كأنه قيل : " والذين تنبَّؤوا مِنْ بعدِه " وهو معنى حسن .

وفي " يونس " ستُ لغاتٍ أفصحُها : واو خالصةٌ ونون مضمومة ، وهي لغةُ الحجاز ، وحُكِي كسرُ النونِ بعد الواو ، وبها قرأ نافع في رواية حبان ، وحُكِي أيضاً فتحها مع الواو ، وبها قرأ النخعي وهي لغة لبعض عقيل ، وهاتان القراءتان جَعَلَهما بعضهم منقولتين من الفعلِ المبني للفاعل أو للمفعول ، جَعَل هذا الاسمَ مشتقاً من الأنس ، وإنما أُبدلت الهمزةُ واواً لسكونِها وانضمامِ ما قبلها ، ويدلُّ على ذلك مجيئُه بالهمزةِ على الأصل في بعض اللغات كما سيأتي ، وفيه نظرٌ ، لأنَّ هذا الاسمَ أعجمي ، وحُكِي تثليث النون مع همز الواو ، كأنهم قلبوا الواوَ همزةً لانضمامِ ما قبلها نحو :

أَحَبُّ المُؤْقِدينَ إليَّ موسى *** . . . . . . . . . . . . . .

وقد تقدَّم تقريرُه ، وحُكي أنَّ ضمَّ النونِ مع الهمزة لغةُ بضع بني أسد ، إلا أني لا أعلم أنه قُرئ بشيء من لغات الهمز . هذا إذا قلنا : إن هذا الاسمَ ليس منقولاً من فِعْلٍ مبني للفاعل أو للمفعول حالةَ كسر النون أو فتحِها ، أمَّا إذا قلنا بذلك فالهمزةُ أصليةٌ غيرُ منقلبةٍ من واو لأنه مشتق من الأنس ، وأمَّا مع ضمِّ النونِ فينبغي أن يُقال بأن الهمزة بدلٌ من الواو لانتفاء الفعلية مع ضم النون .

قوله : { زَبُوراً } قراءةُ الجمهور بفتح الزاي ، وحمزة بضمها ، وفيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها ، أنه جمعُ " زَبْر " قال الزمخشري : " جمعَ " زَبْر " ، وهو الكتاب ، ولم يَذْكر غيرَه ، يعني أنه في الأصل مصدر على فَعْل ، ثم جُمع على فُعول نحو : فَلْس وفُلوس ، وقَلْس وقُلُوس ، وهذا القول سبقه إليه أبو علي الفارسي في أحد التخريجين عنه . قال أبو علي : " ويحتمل أن يكونَ جمْعَ زَبْرٍ وقع على المزبور ، كما قالوا : ضَرْب الأمير ونَسْج اليمن ، كما سُمِّي المكتوب كتاباً " يعني أبو علي أنه مصدرٌ واقعٌ موقعَ المفعول به كما مثَّله والثاني : أنه جمع " زَبُور " في قراءة العامة ، ولكنه على حَذْفِ الزوائد ، يعني حُذِفت الواوُ منه فصار اللفظ : زَبُر ، وهذا التخريجُ الثاني لأبي عليّ ، قال أبو علي : " كما قالوا : ظريف وظُروف ، وكَرَوان وكَرْوان ، وَوَرَشان ووِرْشان على تقدير حذف الياء والألف " وهذا لا بأس به ، فإنَّ التكسير والتصيغر يَجْريان غالباً مجرىً واحداً ، وقد رأيناهم يُصَغِّرون بحذفِ الزوائد نحو : " زُهَيْر وحُمَيْد " في أزهر ومحمود ، ويسميه النحويون " تصيغر الترخيم " ، فكذلك التكسيرُ .

الثالث : أنه اسمٌ مفردٌ وهو مصدرٌ جاءَ على فُعول كالدُّخول والقُعود والجُلوس ، قاله أبو البقاء وغيره . وفيه نظر من حيث إن الفُعول يكون مصدراً للازم ، ولا يكون للمتعدي إلا في ألفاظ محفوظةٍ نحو : اللُّزوم والنُّهوك ، وزَبَر - كما ترى - متعدٍ ، فيضعفُ جَعْلُ الفُعُول مصدراً له ، وقد تقدم معنى هذه المادة .