الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{۞إِنَّآ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ كَمَآ أَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ نُوحٖ وَٱلنَّبِيِّـۧنَ مِنۢ بَعۡدِهِۦۚ وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَٰرُونَ وَسُلَيۡمَٰنَۚ وَءَاتَيۡنَا دَاوُۥدَ زَبُورٗا} (163)

قوله تعالى { إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ } الآية ، نزلت في اليهود وذلك لما أنزل الله تعالى قوله { يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السَّمَآءِ } [ النساء : 153 ] إلى قوله تعالى : { وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً } [ النساء : 165 ] .

لفضحهم وذكر عيوبهم وذنوبهم ؛ غضبوا وقالوا : ما أنزل الله على بشر من شيء وأنزل { إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَى نُوحٍ } جعله الله تعالى ثاني المصطفى صلى الله عليه وسلم في موضعين من كتابه في أهل الميثاق بقوله تعالى :

{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ } [ الأحزاب : 7 ] والثاني في الوحي ، فقال : { إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَى نُوحٍ } فإن قيل : ما الحكمة في تقديم نوح على سائر الأنبياء وفيهم من هو أفضل منه ؟ يقال : لأنه كان أبو البشر قال الله تعالى

{ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ } [ الصافات : 77 ] وقيل : لأنه أول نبي من أنبياء الشريعة وأول داع ونذير عن الشرك .

وقيل : لأنه أول من عذب أمّته لردّهم دعوته وأهلك كل الأرض بدعائه عليهم لأنه كان أطول الأنبياء عمراً .

وقيل : إنه كبير الأنبياء ، وجعل معجزته في نفسه لأنه عُمِّر ألف سنة ولم ينقص له سن ولم تنقص له قوة ولم يشب له شعر .

وقيل لأنه لم يبالغ أحد من الأنبياء في الدين ما بالغ نوح ولم يصبر على أذى قوم ما صبر نوح وكان يدعو قومه ليلاً ونهاراً إعلاناً وإسراراً وكان يشتم ويضرب حتى يغمى عليه فإذا فاق دعا وبالغ وكان الرجل منهم يأخذ بيد إبنه فيقول له : يابني إحذر هذا فإنه ساحر كذاب . قال الله تعالى

{ وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى } [ النجم : 52 ] .

وقال من عتق عنه [ . . . . . . ] يوم القيامة بعد محمد صلى الله عليه وسلم وقيل لأن مقامه الشكر قال الله تعالى

{ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً } [ الإسراء : 3 ] فكما [ . . . . . . ] القرآن فكذلك نوح ( عليه السلام ) صدر [ . . . . . . ] وقال أول من يُدَعى إلى الجنة الحمّادون لله على كل حال .

{ وَأَوْحَيْنَآ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ } وهم أولاد يعقوب { وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً } قرأ يحيى بن وثاب ، والأعمش وحمزة { زَبُوراً } بضم الزاي بمعنى جمع زبر وزبور كأنه قال : قد كتبنا صحفاً من بعده أي مكتوبة ، والباقون بفتح الزاي على أنه كتاب داود المسمى زبوراً ، وكان داود يبرز إلى البرّية فيدعو بالزبور وكان يقوم معه علماء بني اسرائيل فيقومون خلفه . ويقوم الناس خلف العلماء ويقوم الجن خلف الناس ، الأعظم فالأعظم في [ فلاة ] عظيمة ويقوم [ الناس ] لهذا الجن الأعظم فالأعظم وتجيء الدواب التي في الجبال ، إذا سمعن صوت داود فيقمن بين يديه تعجبّاً لما سمعن منه ، وتجيء الطير حتى يظللن داود وسليمان والجن والإنس في كثرة لايحصيهم إلاّ الله عز وجل يرفرفن على رؤسهم ثم تجيء السباع حتى تخالط الدواب والوحش لما سمعن حتى من لم ير ذلك ، فقيل له : ذاك انس الطاعة ، وهذه وحشة المعصية .

وروى طلحة بن يحيى عن أبي بردة أبي موسى عن أبيه قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو رأيتني البارحة وأنا أستمع لقرآنك ، لقد أُعطيت مزماراً من مزامير آل داود " قلت : أما والله يا رسول الله لو علمت إنّك تسمع قراءتي لحسّنت صوتي وزدته [ تحبيراً ] " .

وكان عمر ( رضي الله عنه ) إذا رآه قال : ذكّرنا يا أبا موسى فيقرأ عنده .

وعن أبي عثمان [ النهدي ] وكان قد أدرك الجاهلية ، قال : ما سمعت [ طنبوراً ولا صنجاً ] ولا مزماراً أحسن من صوت أبي موسى وإن كان لَيَؤُمّنا في صلاة الغداة لنودّ أنه يقرأ سورة البقرة من حسن صوته حيث نزع حرف الصفة فالمعنى : كما أوحينا إلى نوح وإلى رسل .