فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{۞إِنَّآ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ كَمَآ أَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ نُوحٖ وَٱلنَّبِيِّـۧنَ مِنۢ بَعۡدِهِۦۚ وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَٰرُونَ وَسُلَيۡمَٰنَۚ وَءَاتَيۡنَا دَاوُۥدَ زَبُورٗا} (163)

{ إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيئين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا ( 163 ) ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما ( 164 ) }

{ إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح } هذا متصل بقوله يسألك أهل الكتاب ، والمعنى أن أمر محمد صلى الله عليه وسلم كأمر من تقدمه من الأنبياء ، فما بالكم تطلبون منه ما لم يطلبه أحد من المعاصرين للرسل ، والوحي إعلام في خفاء ، يقال وحي إليه بالكلام وحيا وأوحى يوحي إيحاء .

وخص نوحا لكونه أول نبي شرعت على لسانه الشرائع وأول نذير على الشرك وأول من عذبت أمته لردهم دعوته ، وأهلك أهل الأرض بدعائه ، وكان أبا البشر كآدم وأطول الأنبياء عمرا ، وصبرا على أذى قومه طول عمره ، وقيل غير ذلك أي إيحاء مثل إيحائنا إلى نوح أو حال كونه مشتبها بإيحائنا إلى نوح .

{ والنبيين من بعده } كهود وصالح وشعيب وغيرهم { وأوحينا إلى إبراهيم } وهو ابن تارخ واسم تارخ آزر { و } بعث بعده { إسماعيل } فمات بمكة { وإسحق } أي ثم بعث أخاه إسحق فمات بالشام { ويعقوب } وهو إسرائيل ابن إسحق ثم يوسف بن يعقوب ثم شعيب بن نويب ثم هود بن عبد الله ثم صالح بن أسف ثم موسى وهارون ابن عمران ثم أيوب ثم الخضر ثم داود بن ايشا ثم سليمان بن داود ثم يونس بن متى ثم إلياس ، ثم ذا الكفل واسمه عويديا وهو من سبط يهوذا بن يعقوب وبين موسى بن عمران ومريم بنت عمران ألف سنة وسبعمائة سنة .

قال الزبير بن بكار : كل نبي ذكر في القرآن فهو من ولد إبراهيم غير إدريس ونوح وهود ولوط وصالح ، ولم يكن من العرب الأنبياء إلا خمسة هود وصالح وإسماعيل وشعيب ومحمد صلى الله عليه وسلم ، وإنما سموا عربا لأنه لم يتكلم بالعربية غيرهم ، ذكره القرطبي .

{ والأسباط } هم أولاد يعقوب وكانوا اثني عشر ، ومنهم يوسف نبي رسول باتفاق ، وفي البقية خلاف { وعيسى وأيوب ويونس } فيه ست لغات أفصحها واو خالصة ونون مضمونة وهي لغة الحجاز { وهارون وسليمان } وخص هؤلاء بالذكر بعد دخولهم في لفظ النبيين تشريفا لهم كقوله { وملائكته ورسله وجبريل } .

وقدم عيسى على أيوب ومن بعده مع كونهم في زمان قبل زمانه ردا على اليهود الذين كفروا به ، وأيضا فالواو ليست إلا لمطلق الجمع ، والمعنى أن الله تعالى أوحي إلى هؤلاء الأنبياء المذكورين في هذه الآية وأنتم يا معشر اليهود معترفون بذلك ، وما أنزل الله على أحد من هؤلاء كتابا جملة واحدة ، فلما لم يكن ذلك قادحا في نبوتهم فكذلك لم يكن إنزال القرآن مفرقا على محمد قادحا في نبوته بل قد أنزل عليه كما أزل عليهم .

{ وآتينا داود زبورا } أي كتابا مزبورا يعني مكتوبا ، والزبور بالفتح كتاب داود ، قال القرطبي : وهو مائة وخمسون سورة فيها حكم ولا حلال ولا حرام وإنما هي حكم ومواعظ انتهى .

قلت : هو مائة وخمسون مزمورا ، والمزمور فصل يشتمل على كلام لداود يستغيث بالله من خصومه ويدعو الله عليهم ويستنصره ، وتارة يأتي بمواعظ وكان يقول ذلك في الغالب في الكنيسة ، ويستعمل مع تكلمه بذلك في كثير من تلك المزمورات ، والزبر والكتابة ، والزبور بمعنى الزبور أي المكتوب كالرسل والحلوب والركوب .

وقرأ حمزة زبورا بضم الزاي جمع زبر كفلس وفلوس ، والزبر بمعنى المزبور ، والأصل في الكلمة التوثيق يقال بئر مزبورة أي مطوية بالحجارة والكتاب سمي زبورا لقوة الوثيقة به .

عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو رأيتني البارحة وأنا أستمع لقراءتك لقد أعطيت مزمارا من مزامير آل داود ، أخرجه الشيخان{[569]} ، قال الحميدي : زاد البرقاني قلت : والله يا رسول الله لو علمت أنك نسمع لقراءتي لحبرها لك تحبيرا ، والتحبير تحسين الصوت بالقراءة ، وإنما لم يذكر في هذه الآية لأن الله تعالى أنزل عليه التوراة جملة واحدة{[570]} .


[569]:مسلم 793 والبخاري/2097.
[570]:قال ابن عباس: قال عدي بن زيد، وسكين: يا محمد ما نعلم الله أنزل على بشر من شيء بعد موسى، فنزلت هذه الآية سيرة ابن هشام1/562، وابن جريج 9/400 عن ابن عباس، وفي سنده محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، ذكره ابن حبان في "الثقات" وقال الذهبي: لا يعرف. وسكين بن أبي سكين، وعدي بن زيد بني قينقعان، ذكرهم ابن هشام في "السيرة" في الأعداء من اليهود.