قوله تعالى : { وكذلك زين لكثير من المشركين } ، أي : كما زين لهم تحريم الحرث والأنعام كذلك زين لكثير من المشركين .
قوله تعالى : { قتل أولادهم شركاؤهم } ، قال مجاهد : شركاؤهم ، أي : شياطينهم زينوا وحسنوا لهم وأد البنات خيفة العيلة ، سميت الشياطين شركاء لأنهم أطاعوهم في معصية الله ، وأضيف شركاء إليهم لأنهم اتخذوها .
وقال الكلبي : شركاؤهم : سدنة آلهتهم الذين كانوا يزينون للكفار قتل الأولاد ، وكان الرجل منهم يحلف لئن ولد له كذا غلاماً لينحرن أحدهم كما حلف عبد المطلب على ابنه عبد الله . وقرأ ابن عامر : ( زين ) بضم الزاي وكسر الياء ، ( قتل ) رفع ( أولادهم ) نصب ، ( شركائهم ) بالخفض على التقديم ، كأنه قال : زين لكثير من المشركين قتل شركائهم أولادهم ، فصل بين الفعل وفاعله بالمفعول به ، وهم الأولاد ، كما قال الشاعر :
فزججته متمكنا *** زج القلوص أبي مزاده
أي : زج أبي مزادة القلوص ، فأضيف الفعل وهو القتل إلى الشركاء ، وإن لم يتولوا ذلك ، لأنهم هم الذين زينوا ذلك ودعوا إليه ، فكأنهم فعلوه .
قوله تعالى : { ليردوهم } ، ليهلكوهم .
قوله تعالى : { وليلبسوا عليهم } ، ليخلطوا عليهم .
قوله تعالى : { دينهم } ، قال ابن عباس : ليدخلوا عليهم الشك في دينهم ، وكانوا على دين إسماعيل فرجعوا عنه بلبس الشياطين .
قوله تعالى : { ولو شاء الله ما فعلوه } ، أي : لو شاء الله لعصمهم حتى ما فعلوا ذلك من تحريم الحرث والأنعام وقتل الأولاد .
قوله تعالى : { فذرهم } يا محمد .
قوله تعالى : { وما يفترون } ، يختلقون من الكذب ، فإن الله تعالى لهم بالمرصاد .
ومن سفه المشركين وضلالهم ، أنه زيَّن لكثير من المشركين شركاؤهم -أي : رؤساؤهم وشياطينهم- قتل أولادهم ، وهو : الوأد ، الذين يدفنون أولادهم الذكور خشية الافتقار ، والإناث خشية العار .
وكل هذا من خدع الشياطين ، الذين يريدون أن يُرْدُوهم بالهلاك ، ويلبسوا عليهم دينهم ، فيفعلون الأفعال التي في غاية القبح ، ولا يزال شركاؤهم يزينونها لهم ، حتى تكون عندهم من الأمور الحسنة والخصال المستحسنة ، ولو شاء الله أن يمنعهم ويحول بينهم وبين هذه الأفعال ، ويمنع أولادهم عن قتل الأبوين لهم ، ما فعلوه ، ولكن اقتضت حكمته التخلية بينهم وبين أفعالهم ، استدراجا منه لهم ، وإمهالا لهم ، وعدم مبالاة بما هم عليه ، ولهذا قال : { فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ } أي : دعهم مع كذبهم وافترائهم ، ولا تحزن عليهم ، فإنهم لن يضروا الله شيئا .
( وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم ، وليلبسوا عليهم دينهم . ولو شاء الله ما فعلوه . فذرهم وما يفترون ) .
يقول : وكما زين الشركاء والشياطين لهم ذلك التصرف في أموالهم كذلك زينوا لهم قتل أولادهم . . وذلك ما كانوا يفعلونه من وأد البنات خشية الإملاق - أو خشية السبي والعار - ومن قتل بعض الأبناء في النذر للآلهة كالذي روي عن عبد المطلب من نذره ذبح أحد ولده ، إن رزقه الله بعشرة منهم يحمونه ويمنعونه !
وظاهر أن هذا وذاك كان يوحي به عرف الجاهلية . العرف الذي وضعه الناس للناس . والشركاء المذكورون هنا هم شياطين الإنس والجن . . من الكهنة والسدنة والرؤساء من الإنس ، ومن القرناء الموسوسين من الجن ، بالتعاون والموالاة فيما بينهم !
والنص يصرح بالهدف الكامن وراء التزيين :
( ليردوهم ، وليلبسوا عليهم دينهم ) .
ليهلكوهم وليجعلوا دينهم عليهم ملتبساً غامضاً لا يقفون منه على تصور واضح . . فأما الهلاك فيتمثل ابتداء في قتلهم لأولادهم ؛ ويتمثل أخيراً في فساد الحياة الاجتماعية بجملتها ، وصيرورة الناس ماشية ضالة يوجهها رعاتها المفسدون حيثما شاءوا ، وفق أهوائهم ومصالحهم ! حتى ليتحكمون في أنفسهم وأولادهم وأموالهم بالقتل والهلاك ، فلا تجد هذه الغنم الضالة لها مفرا من الخضوع . لأن التصورات المتلبسة بالدين والعقيدة - وما هي منها -بكل ثقلها وعمقها ، تتعاون مع العرف الاجتماعي المنبثق منها ، وتنشى ثقلاً ساحقاً لا تقف له جماهير الناس . ما لم تعتصم منه بدين واضح ؛ وما لم ترجع في أمرها كله إلى ميزان ثابت .
وهذه التصورات المبهمة الغامضة ؛ وهذا العرف الاجتماعي الذي ينبثق منها ، ويضغط على جمهرة الناس بثقله الساحق . . لا ينحصر في تلك الصور التي عرفتها الجاهليات القديمة . فنحن نشهده اليوم بصورة أوضح في الجاهليات الحديثة . . هذه العادات والتقاليد التي تكلف الناس العنت الشديد في حياتهم ، ثم لا يجدون لأنفسهم منها مفراً . . هذه الأزياء والمراسم التي تفرض نفسها على الناس فرضاً ، وتكلفهم أحياناً ما لا يطيقون من النفقة ، وتأكل حياتهم واهتماماتهم ، ثم تفسد أخلاقهم وحياتهم . ومع ذلك لا يملكون إلا الخضوع لها . . أزياء الصباح ، وأزياء بعد الظهر ، وأزياء المساء . . الأزياء القصيرة ، والأزياء الضيقة ، والأزياء المضحكة ! وأنواع الزينة والتجميل والتصفيف . . . إلى آخر هذا الاسترقاق المذلّ . . من الذي يصنعه ومن الذي يقف وراءه ؟ تقف وراءه بيوت الأزياء . وتقف وراءه شركات الإنتاج ! ويقف وراءه المرابون في بيوت المال والبنوك من الذين يعطون أموالهم للصناعات ليأخذوا هم حصيلة كدها ! ويقف وراءه اليهود الذين يعملون لتدمير البشرية كلها ليحكموها ! . . ولكنهم لا يقفون بالسلاح الظاهر والجند المكشوف ، إنما يقفون بالتصورات والقيم التي ينشئونها ، ويؤصلونها بنظريات وثقافات ؛ ويطلقونها تضغط على الناس في صورة [ عرف اجتماعي ] . فهم يعلمون أن النظريات وحدها لا تكفي ما لم تتمثل في أنظمة حكم ، وأوضاع مجتمع ، وفي عرف اجتماعي غامض لا يناقشه الناس ، لأنه ملتبس عليهم متشابكة جذوره وفروعه !
إنه فعل الشياطين . . شياطين الإنس والجن . . وإنها الجاهلية تختلف أشكالها وصورها ، وتتحد جذورها ومنابعها ، وتتماثل قوائمها وقواعدها . .
وإننا لنبخس القرآن قدره ، إذا نحن قرأناه وفهمناه على أنه حديث عن جاهليات كانت ! إنما هو حديث عن شتى الجاهليات في كل أعصار الحياة . ومواجهة للواقع المنحرف دائماً ورده إلى صراط الله المستقيم . .
ومع ضخامة الكيد ، وثقل الواقع ، فإن السياق القرآني يهوّن أمر الجاهلية ، ويكشف عن الحقيقة الكبرى التي قد يخدع عنها هذا الجانب الظاهر . . إن هؤلاء الشياطين وأولياءهم لفي قبضة الله وسلطانه . وهم لا يفعلون ما يفعلونه بقدرة ذاتية فيهم . ولكن بترك الحبل ممدوداً لهم قليلاً ؛ بمشيئة الله وقدره ، تحقيقاً لحكمة الله في ابتلاء عباده . ولو شاء ألا يفعلوه ما فعلوه . ولكنه شاء للابتلاء . فلا على النبي [ ص ] ولا على المؤمنين . فليمضوا في طريقهم وليدعوا له الشياطين وما يفترون على الله وما يكيدون :
( ولو شاء الله ما فعلوه . فذرهم وما يفترون ) . .
ولا بد أن نذكر أنهم ما كانوا يجرؤون على أن يقولوا : إن هذه التصورات والتصرفات من عند أنفسهم . إنما يفترون على الله ، فيزعمون أنه هو شرعها لهم . . ينسبونها بذلك إلى شريعة إبراهيم وإسماعيل - بزعمهم !
كذلك يفعل الشياطين اليوم في الجاهليات الحديثة . . إن معظمهم لا يستطيع أن يتبجح تبجح الشيوعيين الملحدين ؛ فينفي وجود الله جملة ويتنكر للدين علانية . إنما يلجأ إلى نفس الأسلوب الذي كان يلجأ إليه الشياطين في جاهلية العرب ! يقولون : إنهم يحترمون الدين ! ويزعمون أن ما يشرعونه للناس له أصل من هذا الدين ! . . إنه أسلوب ألأم وأخبث من أسلوب الشيوعيين الملحدين ! إنه يخدر العاطفة الدينية الغامضة التي لا تزال تعيش في قرارات النفوس - وإن لم تكن هي الإسلام ، فالإسلام منهج واضح عملي واقع وليس هذه العاطفة المبهمة الغامضة - ويفرغ الطاقة الفطرية الدينية في قوالب جاهلية لا إسلامية . وهذا أخبث الكيد وألأم الأساليب !
ثم يجيء " المتحمسون " لهذا الدين ؛ فيفرغون جهدهم في استنكار جزيئات هزيلة على هامش الحقيقة الإسلامية ، لا تروق لهم في هذه الأوضاع الجاهلية المشركة ، المغتصبة لألوهية الله وسلطانه بالجملة . وبهذه الغيرة الغبية يسبغون على هذه الأوضاع الجاهلية المشركة طابع الإسلام . ويشهدون لها شهادة ضمنية خطيرة بأنها تقوم على أصل من الدين حقاً ، ولكنها تخالف عنه في هذه الجزئيات الهزيلة !
ويؤدي هؤلاء المتحمسون دورهم لتثبيت هذه الأوضاع وتطهيرها . وهو نفس الدور الذي تؤديه الأجهزة الدينية المحترفة ، التي تلبس مسوح الدين ! وإن كان الإسلام بالذات لا يعرف المسوح ولا ينطق باسمه كاهن ولا سادن !
عطفٌ على جملة : { وجعلوا لله ممّا ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً } [ الأنعام : 136 ] والتقدير : جَعَلوا وزيَّنَ لهم شركاؤُهم قتلَ أولادِهم فقتلوا أولادَهم ، فهذه حكاية نوع من أنواع تشريعاتهم الباطلة ، وهي راجعة إلى تصرّفهم في ذُرّيَّاتهم بعد أن ذكر تصرّفاتهم في نتائج أموالهم . ولقد أعظم الله هذا التّزيين العجيب في الفساد الّذي حَسَّن أقبح الأشياء وهو قتْلهم أحبّ النّاس إليهم وهم أبناؤهم ، فشبه بنفس التزيين للدّلالة على أنّه لو شاء أحد أن يمثّله بشيء في الفظاعة والشّناعة لم يَسَعْه إلاّ أن يشبهه بنفسه لأنَّه لا يبلغ شيء مبلغ أن يكون أظهرَ منه في بابه ، فيلجأ إلى تشبيهه بنفسه ، على حدّ قولهم « والسّفاهة كاسمها » . والتّقدير : وزيّن شركاء المشركين لكثير فيهم تزييناً مثل ذلك التّزيين الّذي زيّنوه لهم ، وهُو هُو نفسه ، وقد تقدّم تفصيل ذلك عند قوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمّة وسطاً } في سورة [ البقرة : 143 ] .
ومعنى التّزيين التّحسين ، وتقدّم عند قوله تعالى : { كذلك زيَّنَّا لكلّ أمّة عملهم } في هذه السورة [ 108 ] . ومعنى تزيين ذلك هنا أنَّهم خيَّلوا لهم فوائد وقُرَباً في هذا القتل ، بأن يُلقوا إليهم مَضرّة الاستجداء والعار في النّساء ، وأنّ النّساء لا يرجى منهنّ نفع للقبيلة ، وأنَّهنّ يُجَبِّنّ الآباء عند لقاء العدوّ ، ويؤثرن أزواجهن على آبائهن ، فقتلهنّ أصلَحُ وأنفع من استبقائهن ، ونحوَ هذا من الشّبه والتّمويهات ، فيأتونهم من المعاني الّتي تروج عندهم ، فإنّ العرب كانوا مُفرطين في الغيرة ، والجموح من الغلب والعار كما قال النّابغة :
حِذَاراً على أنْ لاَ تُنَالَ مَقَادَتِي *** ولا نسوتي حتَّى يَمُتْنَ حَرائراً
وإنَّما قال : { لكثير من المشركين } لأنّ قتل الأولاد لم يكن يأتيه جميع القبائل ، وكان في ربيعة ومضر ، وهما جمهرة العرب ، وليس كلّ الآباء من هاتين القبيلتين يفعله .
وأسند التّزيين إلى الشّركاء : إمّا لإرادة الشّياطين الشّركاءِ ، فالتّزيين تزيين الشّياطين بالوسوسة ، فيكون الإسناد حقيقة عقليّة ، وإمّا لأنّ التّزيين نشأ لهم عن إشاعة كبرائهم فيهم ، أو بشرع وضعه لهم مَن وضَع عبادة الأصنام وفرض لها حقوقاً في أموالهم مثل عَمْرو بن لُحَي ، فيكون إسناد التّزيين إلى الشّركاء مجازاً عقلياً لأنّ الأصنام سبب ذلك بواسطةٍ أو بواسطتين ، وهذا كقوله تعالى : { فما أغنت عنهم آلِهَتُهم التي يَدْعُون من دون الله من شيء لمّا جاء أمر ربّك وما زادوهم غير تتبيب } [ هود : 101 ] .
والمعنيّ بقتل الأولاد في هذه الآية ونحوها هو الوأْد ، وهو دفن البنات الصغيرات أحياء فيمتن بغمّة التّراب ، كانوا يفعلون ذلك خشية الفقر ، كما قال تعالى : { ولا تقتلوا أولادكم خَشيةَ إملاق } [ الإسراء : 31 ] ، وخشيةَ أن تفتضح الأنثى بالحاجة إذا هلك أبوها ، أو مخافة السّباء ، وذكر في « الروض الأنُف » عن النّقّاش في « تفسيره » : أنَّهم كانوا يئدون من البنات من كانت زَرقاء أو برشاء ، أو شَيْماء ، أو رَسْحاءَ ، تشاؤما بِهنّ وهذا من خَوَر أوْهَامهم وأنّ ذلك قوله تعالى : { وإذا الموءودة سُئِلت بأي ذنب قتلت } [ التكوير : 8 ، 9 ] ، وقيل : كانوا يفعلون ذلك من شدّة الغيرة خشية أن يأتين ما يَتعيَّر منه أهلهنّ .
وقد ذكر المبرّد في « الكامل » ، عن أبي عبيدة : أنّ تميماً مَنَعت النّعمانَ بن المُنذر الإتاوة فوجّه إليهم أخاه الريان بن المنذر فاستاق النّعم وسبَى الذّراري ، فوفدت إليه بنو تميم فأنابوا وسألوه النّساء فقال النّعمان : كلّ امرأة اختارت أباها رُدّت إليه وإن اختارت صاحبها ( أي الّذي صارت إليه بالسبي ) تُركت عليه فكُلّهنّ اختارت أباها إلاّ ابنة لقيس بن عاصم اختارت صاحبَها عمرو بن المشمرِج ، فنذر قيس أن لا تولد له ابنة إلاّ قتلها فهذا شيء يَعتلّ به مَنْ وأدوا ، يقولون : فعلناه أنفة ، وقد أكذب الله ذلك في القرآن ، أي بقوله : { قد خَسِر الذين قتلوا أولادهم سَفَهاً } [ الأنعام : 140 ] .
وذكر البخاري ، أنّ أسماء بنت أبي بكر ، قالت : كان زيدُ بن عَمرو بن نُفَيل يُحيي الموءودة ، يقول للرجل إذا أراد أن يقتل ابنته : لا تقتُلْها أنا أكفيكَ مؤونتها ، فيأخذها فإذا ترعرعت قال لأبيها : إن شئتَ دفعتُها إليك وإن شئتَ كفيتك مؤونتها . والمعروف أنَّهم كانوا يئدون البنت وقت ولادتها قبل أن تراها أُمّها ، قال الله تعالى : { وإذَا بشِّر أحدهم بالأنْثى ظَلّ وجهه مُسْوَدّا وهو كظيم يتوارى من القوم من سُوء ما بشِّر به أيُمْسِكه على هُون أم يدسّه في التّراب ألاَ ساء ما يحكمون } [ النحل : 58 ، 59 ] . وكان صعصعة بن معاوية من مجاشع ، وهو جدّ الفرزدق ، يفدي الموءودة ، يفعل مثل فعل زيد بن عمرو بن نفيل . وقد افتخر الفرزدق بذلك في شعره في قوله :
ومنّا الّذي منع الوائداتْ *** وأحيا الوئيد فلم تُوءَد
وقد أدرك جدّه الإسلام فأسلم . ولا يعرف في تاريخ العرب في الجاهليّة قتل أولادهم غير هذا الوأد إلاّ ما ورد من نذر عبد المطّلب الّذي سنذكره ، ولا ندري هل كان مثل ذلك يقع في الجاهليّة قبل عبد المطّلب أو أنّه هو الذي ابتكر ذلك ولم يتابَع عليه . ولا شكّ أنّ الوأد طريقة سنّها أيمّة الشّرك لقومهم ، إذ لم يكونوا يصدرون إلاّ عن رأيهم ، فهي ضلالة ابتدعوها لقومهم بعلّة التخلّص من عوائق غزوهم أعداءَهم ، ومن معرّة الفاقة والسباء ، وربّما كان سدنة الأصنام يحرّضونهم على إنجاز أمر الموءودة إذا رأوا من بعضهم تثاقلا ، كما أشار إليه « الكشاف » إذ قال : « والمعنى أنّ شركاؤهم من الشّياطين أو من سدنة الأصنام زيَّنوا لهم قتل أولادهم بالوأد أو بالنّحر » . وقال ابن عطيّة : والشّركاء على هذه القراءة هم الّذين يتناولون وأد بنات الغير فهم القاتلون .
وفي قصّة عبد المطّلب ما يشهد لذلك فإنَّه نذر إن رزقه الله عشرة أولاد ذكور ، ثمّ بلغوا معه أن يمنعوه من عدوّه ، لينحرنّ أحدهم عند الكعبة ، فلمّا بلغ بنوه عشرة بهذا المبلغ دَعاهم إلى الوفاء بنذره فأطاعوه واستقسم بالأزلام عند ( هُبل ) الصّنم وكان ( هبل ) في جوف الكعبة ، فخرج الزلم على ابنه عبد الله فأخذه ليذبحه بين ( إساف ) و ( نائلة ) فقالت له قريش : لا تذبحْه حتّى تُعذِر فيه ، فإن كان له فداء فديناه ، وأشاروا عليه باستفتاء عَرّافة بخيبرَ فركبوا إليها فسألوها وقصّوا عليها الخبر فقالت : قَرّبوا صاحبكم وقَرّبوا عشراً من الإبل ثمّ اضربوا عليها وعليه بالقداح فإن خرجتْ على صاحبكم فزيدوا من الإبل حتّى يرضى رَبّكم ، وكذلك فعلوا فخرج القِدح على عبد الله ، فلم يزل عبد المطلب يزيد عشراً من الإبل ويضرب عليها بالقداح ويخرج القِدح على عبد الله حتّى بلغت الإبل مائة فضرب عليها فخرج القِدح على الإبل فنحرها .
ولعلّ سدنة الأصنام كانوا يخلطون أمر الموءودة بقصد التقرّب إلى أصنام بعض القبائل ( كما كانت سنّة موروثة في الكنعانيين من نَبط الشّام يقرّبون صبيانهم إلى الصنم ملوك ، فتكون إضافة القتل إلى الشّركاء مستعملة في حقيقتها ومجازها .
وقرأ الجمهور : { زَيَّنَ } بفتح الزاي ونصب : { قتل } على المفعوليّة ل { زيَّن } ، ورفععِ شركاؤهم على أنّه فاعل : { زين } ، وجرّ { أولادهم } بإضافة قَتْل إليه من إضافة المصدر إلى مفعوله . وقرأه ابن عامر : { زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركائِهم } ببناء فعل { زين } للنّائب ، ورفع { قتل } على أنه نائب الفاعل ، ونصب { أولادهم } على أنَّه مفعول { قتل } ، وجَرّ { شركائهم } على إضافة { قتل } إليه من إضافة المصدر إلى فاعله ، وكذلك رسمت كلمة { شركائهم } في المصحف العثماني الّذي ببلاد الشّام ، وذلك دليل على أنّ الّذين رَسموا تلك الكلمة راعوا قراءة { شركائهم } بالكسر وهم من أهل الفصاحة والتّثبت في سند قراءات القرآن ، إذا كتب كلمة { شركائهم } بصورة الياء بعد الألف ، وذلك يدلّ على أنّ الهمزة مكسورة ، والمعنى ، على هذه القراءة : أنّ مزيِّنا زَيَّن لكثير من المشركين أن يَقْتُلَ شركاؤُهم أولادَهم ، فإسناد القتل إلى الشّركاء على طريقة المجاز العقلي إمّا لأنّ الشّركاء سبب القتل إذا كان القتل قُرباناً للأصنام ، وإمَّا لأنّ الّذين شرعوا لهم القتل هم القائمون بديانة الشّرك مثل عمرو بن لُحي ومن بعده ، وإذا كان المراد بالقتل الوأْدَ ، فالشركاء سببَ وإن كان الوأد قُرباناً للأصنام وإن لم يكن قرباناً لهم ( وهو المعروف ) فالشركاء سبب السبب ، لأنه من شرائع الشرك .
وهذه القراءة ليس فيها ما يناكد فصاحة الكلام لأنّ الإعراب يُبيِّن معاني الكلمات ومواقعها ، وإعرابها مختلف من رفع ونصب وجرّ بحيث لا لبس فيه ، وكلماتها ظاهرٌ إعرابها عليها ، فلا يعدّ ترتيب كلماتها على هذا الوصف من التّعقيد المخلّ بالفصاحة ، مثل التّعْقيد الّذي في قول الفرزدق :
وما مِثْلُه في النّاس إلاّ مُمَلَّكاً *** أبُو أمِّه حَيّ أبُوهُ يقاربهْ
لأنَّه ضَمَ إلى خلل ترتيب الكلام أنَّه خَلل في أركان الجملة وما حفّ به من تعدّد الضّمائر المتشابهة وليس في الآية ممّا يخالف متعارف الاستعمال إلاّ الفصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول ، والخَطْبُ فيه سهل : لأنّ المفعول ليس أجنبياً عن المضاف والمضاف إليه ، وجاء الزمخشري في ذلك بالتّهويل ، والضّجيج والعويل ، كيف يفصَل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول وزاد طنبور الإنكار نغمة .
فقال : والذي حَمَله على ذلك أنّه رأى في بعض المصاحف : { شركائهم } مكتوباً بالياء ، وهذا جري على عادة الزمخشري في توهين القراءات المتواترة ، إذا خالفت ما دُوّن عليه علم النّحو ، لتوهّمه أنّ القراءات اختيارات وأقيسة من القُرّاء ، وإنَّما هي روايات صحيحة متواترة وفي الإعراب دلالة على المقصود لا تناكد الفصاحة .
ومُدوّناتُ النّحو ما قصد بها إلاّ ضبط قواعد العربيّة الغالبة ليجري عليها النّاشئون في اللّغة العربيّة ، وليست حاصرة لاستعمال فصحاء العرب ، والقرّاءُ حجّة على النّحاة دون العكس ، وقواعد النّحو لا تمنع إلاّ قياس المولَّدين على ما ورد نادراً في الكلام الفصيح ، والنّدرة لا تنافي الفصاحة ، وهل يظنّ بمثل ابن عامر أنّه يَقرأ القرآن متابعة لصورة حروف التهجّي في الكتابة . ومثل هذا لا يروج على المبتدئين في علم العربيّة ، وهلاّ كان رسم المصحف على ذلك الشّكل هادياً للزمخشري أن يتفطّن إلى سبب ذلك الرسم . أمَّا ابن عطيّة فقال : « هي قراءة ضعيفة في استعمال العَرب » يريد أنّ ذلك الفصل نادر ، وهذا لا يُثبت ضعف القراءة لأنّ الندور لا ينَافي الفصاحة .
وبَعَّد ابنُ عطيّة هذه القراءة بعدم مناسبتها للتّعليل بقوله : { ليردوهم } وتبعيد ابن عطيّة لها تَوَهُّمٌ : إذ لا منافاة بين أن يُزيّنوا لهم قتلَ أولادهم وبين التّعليل فإنّ التّعليل يستعمل في العاقبة مجازاً مثل قوله تعالى : { فالتقطه آلُ فرعون ليكونَ لهم عدوّاً وحَزناً } [ القصص : 8 ] . ومن العجيب قول الطّبري : والقراءَة الّتي لا أستجيز غيرها بفتح الزاي ونصب : { القتل } وخفض : { أولادهم } ورفع : { شركائهم } . وذلك على عادته في نصب نفسه حكماً في التّرجيح بين القراءات .
واللاّم في : { ليردوهم } لام العاقبة إن كان المراد بالشّركاء الأصنام ، أي زيَّنوا لهم ذلك قصداً لنفعهم ، فانكشف عن أضرارٍ جهلوها . وإن كان المراد بالشّركاء الجنّ ، أي الشّياطين فاللاّم للتّعليل : لأنّ الإيقاع في الشرّ من طبيعة الوسواس لأنَّه يستحسن الشرّ وينسَاق إليه انسياق العقرب للَّسع من غير قصد إلى كون ما يدعونهم إليه مردِيا ومُلْبِساً فإنَّهم أولياؤهم لا يقصدون إضرارهم ولكنّهم لمّا دعوهم إلى أشياء هي في نفس الأمر مضارّ كان تزيينهم مُعلّلاً بالإرداء والإلباس وإن لم يفقهوه بخلاف من دعا لسبب فتبيّن خلافه ، والضّمير للشّركاء والتّعليل للتّزيين .
والإرْدَاء : الإيقاع في الرّدى ، والردَى : الموت ، ويستعمل في الضرّ الشّديد مجازاً أو استعارة وذلك المراد هنا .
ولَبَس عليه أوقعه في اللّبس ، وهو الخلط والاشتباه ، وقد تقدّم في قوله تعالى : { ولا تَلبسوا الحقّ بالباطل } في سورة [ البقرة : 42 ] ، وفي قوله : { وللبَسْنا عليهم ما يلبسون } في هذه السّورة [ 9 ] . أي أن يخلطوا عليهم دينهم فيوهموهم الضّلال رشداً وأنّه مراد الله منهم ، فهم يتقرّبون إلى الله وإلى الأصنام لتقرّبهم إلى الله ، ولا يفرّقون بين ما يرضاه الله وما لا يرضاه ، ويخيّلون إليهم أنّ وأد البنات مصلحة . ومن أقولهم : دَفْن البناهْ من المَكْرمَاهْ ( البناه . والمكرماه . بالهاء ساكنة في آخرهما . وأصلها تاء جمع المؤنث فغيّرت لتخفيف المثَل ) وهكذا شأن الشّبه والأدلّة الموهومة التي لا تستند إلى دليل . فمعنى : { وليلبسوا عليهم دينهم } أنَّهم يحدثون لهم ديناً مختلطاً من أصناف الباطل ، كما يقال : وسِّعْ الجبّة ، أي اجعلها واسعة ، وقيل : المراد ليدخلوا عليهم اللّبس في الدّين الّذي كانوا عليه وهو دين إسماعيل عليه السّلام ، أي الحنيفيّة ، فيجعلوا فيه أشياء من الباطل تختلط مع الحقّ .
والقول في معنى : { ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفسرون } كالقول في قوله آنفاً { ولو شاء ربك ما فعلوه } [ الأنعام : 112 ] وضمير الرّفع في : { فعلوه } يعود إلى المشركين ، أي : لو شاء الله لعصمهم من تزيين شركائهم ، أو يعود إلى الشّركاء ، أي : لو شاء الله لصدّهم عن إغواء أتباعهم ، وضمير النّصب يعود إلى القتل أو إلى التّزيين على التوزيع ، على الوجهين في ضمير الرّفع .
والمراد : ب { ما يَفترون } ما يفترونه على الله بنسبة أنّه أمرهم بما اقترفوه ، وكان افتراؤهم اتِّباعاً لافتراء شركائهم ، فسمّاه افتراء لأنَّهم تقلّدوه عن غير نظر ولا استدلال ، فكأنَّهم شاركوا الّذين افتروه من الشّياطين ، أو سدنة الأصنام ، وقادة دين الشّرك ، وقد كانوا يموّهون على النّاس أنّ هذا ممّا أمر الله به كما دلّ عليه قوله في الآية بعد هذه : { افتراء عليه } [ الأنعام : 138 ] وقوله في آخر السّورة : { قل هلمّ شهداءكم الذين يشهدون أنّ الله حرّم هذا } [ الأنعام : 150 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وكذلك}، يعني وهكذا، {زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم}، كما زينوا لهم تحريم الحرث والأنعام، يعني دفن البنات وهن أحياء، {ليردوهم}، يعني ليهلكوهم، {وليلبسوا عليهم}، يعني وليخلطوا عليهم، {دينهم ولو شاء الله ما فعلوه}، يقول: لو شاء الله لمنعهم من ذلك، {فذرهم}، يعني فخل عنهم، {وما يفترون} من الكذب، لقولهم في الأعراف: {والله أمرنا بها} (الأعراف: 28)...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وكما زيّن شركاء هؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنام لهم ما زينّوا لهم، من تصييرهم لربهم من أموالهم قسما بزعمهم، وتركهم ما وصل من القسم الذي جعلوه لله إلى قسم شركائهم قسمهم، وردّهم ما وصل من القسم الذي جعلوه لشركائهم إلى قسم نصيب الله إلى قسم شركائهم، "كَذَلِكَ زَيّنَ لكَثِيرٍ مِنَ المُشْرِكِينَ قَتْلَ أوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ "من الشياطين، فحسنوا لهم وأد البنات، "لِيُرْدُوهُمْ" يقول: ليهلكوهم، "وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ" فعلوا ذلك بهم ليخلطوا عليهم دينهم فيلتبس، فيضلوا ويهلكوا بفعلهم ما حرّم عليهم الله. ولو شاء الله أن لا يفعلوا ما كانوا يفعلون من قتلهم لم يفعلوه، بأن كان يهديهم للحقّ ويوفّقهم للسداد، فكانوا لا يقتلونهم، ولكن الله خذلهم عن الرشاد فقتلوا أولادهم وأطاعوا الشياطين التي أغوتهم. يقول الله لنبيه متوعدا لهم على عظيم فريتهم على ربهم فيما كانوا يقولون في الأنصباء التي يقسمونها هذا لله وهذا لشركائنا وفي قتلهم أولادهم: ذرهم يا محمد وما يفترون وما يتقوّلون عليّ من الكذب والزور، فإني لهم بالمرصاد، ومن وراء العذاب والعقاب.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وأصله: أن الشفقة التي جعل اللَّه في الخلق لأولادهم والرحمة التي جبلت طبائعهم عليها تمنعهم عن قتلهم، وخاصة أولادهم الضعفاء والصغار، وكذلك الشهوة التي خلق فيهم تمنعهم عن تحريم ما أحل اللَّه لهم، لكن زين لهم ذلك شركاؤهم، وحسنوا عليهم تحريم ما أحل لهم وقتل أولادهم، فما حسن عليهم الشركاء وزين لهم من تحريم ما أحل لهم وقتل أولادهم غلب على الشفقة التي جبلت فيهم، والشهوة التي خلق ومكن فيهم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
...والمعنى: أن شركاءهم من الشياطين، أو من سدنة الأصنام زينوا لهم قتل أولادهم بالوأد، أو بنحرهم للآلهة وكان الرجل في الجاهلية يحلف: لئن ولد له كذا غلاماً لينحرنّ أحدهم، كما حلف عبد المطلب... ودينهم: ما كانوا عليه من دين إسماعيل عليه السلام حتى زلوا عنه إلى الشرك. وقيل: دينهم الذي وجب أن يكونوا عليه. وقيل معناه وليوقعوهم في دين ملتبس.
فإن قلت: ما معنى اللام؟ قلت: إن كان التزيين من الشياطين فهي على حقيقة التعليل، وإن كان من السدنة فعلى معنى الصيرورة. {وَلَوْ شَاء الله} مشيئة قسر {مَّا فَعَلُوهُ} لما فعل المشركون ما زين لهم من القتل. أو لما فعل الشياطين أو السدنة التزيين أو الإرداء أو اللبس أو جميع ذلك...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان هذا متضمناً لأنهم نقصوا أموالهم بأنفسهم في غير طائل فجعلوها لمن لا يستحقها، نبه تعالى على أن ذلك تزيين من أضلهم من الشياطين من سدنة الأصنام وغيرهم من الإنس ومن الجن... فقال منبهاً على أنهم زينوا لهم ما هو أبين منه {وكذلك} أي ومثل ما زين لجميع المشركين تضييع أموالهم والكفر بربهم شركاؤهم {زين لكثير من المشركين}. ولما كان المزين لخسته أهل لأن لا يقبل تزيينه ولا يلتفت إليه، فكان امتثال قوله غريباً، وكان الإقدام على فعل الأمر المزين أشد غرابة، قدمه تنبيهاً على ذلك فقال: {قتل أولادهم} أي بالوأد خشية الإملاق والنحر لآلهتهم، وشتان بين من يوجد لهم الولد ويرزقه والرزق ويخلقه وبين من لا يكون إلا سبباً في إعدامه؛ ولما كان في هذا غاية الغرابة تشوفت النفس إلى فاعل التزيين فقال: {شركاؤهم} أي وهم أقل منهم بما يخاطبون به من أجواف الأصنام وبما يحسن لهم السدنة والأهوية بسبب الأصنام... وفصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول -وهو الأولاد- لأن وقوع القتل فيهم كما تقدم أعجب. ولما كان ذلك ربما كان لفائدة استهين لها هذا الفعل العظيم، ذكر أنه ليس له فائدة إلا الهلاك في الدنيا والدين الذي هو هلاك في الآخرة ليكون ذلك أعجب فقال: {ليردوهم} أي ليهلكوهم هلاكاً لا فائدة فيه بوجه {وليلبسوا} أي يخلطوا ويشبهوا {عليهم دينهم} أي وهو دين إبراهيم الذي أمره الله بذبح ولده إسماعيل عليهما السلام فما أقدم عليه إلاّ بأمر الله ثم إنه فداه ولم يمض ذبحه، فخالف هؤلاء عن أمر الشركاء الأمرين معاً فجمعوا لهم بذلك بين إهلاكين: في النفس والدين، فإن القتل في نفسه عظيم جداً، ووقوعه تديناً بغير أصل ولا شبهة أعظم، فلا أضل ممن تبع من كان سبباً لإهلاك نفسه ودينه. ولما كان العرب يدّعون الأذهان الثاقبة والأفكار الصافية والآراء الصائبة والعقول الوافرة النافذة، ذكر لهم ذلك على سبيل التعليل استهزاء بهم، يعني أنهم فعلوا ذلك لهذه العلة فلم يفطنوا بهم ولم يدركوا ما أرادوا بكم مع أنهم حجارة، فأنتم أسفل منهم؛ ولما أثبت للشركاء فعلاً هو التزيين، وكان قد نفي سابقاً عنهم وعن سائر أعداء الأنبياء الاستقلال به، وأناط الأمر هناك -لأن السياق للأعداء- بصفة الربوبية المقتضية للحياطة والعناية، وكان الكلام هنا في خصوص الشركاء، علق الأمر باسم الذات الدال على الكمال المقتضي للعظمة والجبروت والكبر وسائر الأسماء الحسنى على وجه الإحاطة والجلال فقال: {ولو شاء الله} أي بما له من العظمة والإحاطة بجميع أوصاف الكمال المقتضية للعلو عن الأنداد والتنزه عن الشركاء والأولاد أن لا يفعله المشركون {ما فعلوه} أي ذلك الذي زين لهم، بل ذلك إنما هو بإرادته ومشيئته احتراساً من ظن أنهم يقدرون على شيء استقلالاً، وتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتخفيفاً، وأكد التسلية بقوله: {فذرهم وما يفترون} أي يتقولون من الكذب ويتعمدونه...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ} هذا حكم آخر مما كانوا عليه من أعمال الشرك التي لا يستحسنها عقل سليم، ولم تستند إلى شرع إلهي قويم، أي ومثل ذلك التزيين لقسمة القرابين من الحرث والأنعام بين الله تعالى وبين آلهتهم زين لكثير من المشركين شركاؤهم قتل أولادهم. فأما الشركاء هنا فقيل هم سدنة الآلهة وخدمها وقيل بل هم الشياطين الذين يوسوسون لهم ما يزين ذلك في أنفسهم وإنما سمي كل منهما شريكا لأنه يطاع ويدان له فيما لا يطاع به إلا الله تعالى ولهذا التزيين وجوه:
أحدهما: اتقاء الفقر الواقع أو المتوقع فالأول هو ما بينه الله تعالى بقوله: {ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم} (الأنعام 151) والثاني: ما بينه بقوله: {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم} (الإسراء 31) وقدم في الأول رزق الوالدين على رزق الأولاد لأن الولد الصغير تابع لوالده في الرزق الحال، وقدم في الثاني رزق الأولاد على رزق الوالدين لتعلقه بالمستقبل وكثيرا ما يعجز فيه الآباء عن كسب الرزق ويحتاجون إلى إنفاق أولادهم عليهم.
والوجه الثاني: اتقاء العار وهو خاص بوأد البنات أي دفنهن حيات خشية أن يكن سببا للعار إذا كبرن، فهم يصورون البنت لوالدها الجبار العاتي ترتكب الفاحشة، أو تقترن بزوج دونه في الشرف والكرامة فتلحقه الخسة، أو تُسبَى في القتال.
والوجه الثالث: التدين بنحر الأولاد للآلهة تقربا إليها بنذر أو بغير نذر، وكان الرجل ينذر في الجاهلية لئن ولد له كذا غلاما لينحرن أحدهم كما حلف عبد المطلب وخبره معروف يذكر في قصص المولد النبوي. ولولا الشرك الذي يفسد العقول لما راجت هذه الوسوسة عندهم ولذلك عبر عنهم هنا بوصف (المشركين) في مقام الإضمار لأن الكلام السابق فيهم. وسمى المزينين لهم ذلك من شياطين الإنس كالسدنة أو الجن شركاء وإن لم يسموهم هم آلهة أو شركاء لأنهم أطاعوهم طاعة إذعان ديني في التحليل والتحريم، وهو خاص بالرب المعبود، كما ورد مرفوعا في تفسير {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله} (التوبة 31) فإن مقتضى الفعل الإذعاني أقوى دلالة من مدلول القول اللساني لكثرة الكذب في هذا دون ذاك...
ثم علل هذا التزيين بقوله تعالى: {لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ} أي زينوا لهم هذه المنكرات ليردوهم أي يهلكوهم بالإغواء وهو إفساد الفطرة، الذي يذهب بما أودع في قلوب الوالدين من عواطف الرأفة والرحمة. بل يقلبها على منتهى الوحشية والقسوة، حتى ينحر الوالد ريحانه قلبه بمديته، ويدفن بنته الضعيفة وهي حية بيده، فهذا إرداء نفسي معنوي فوق الإرداء الحسي وهو القتل، وتقليل النسل: وأما لبس دينهم عليهم فالمراد بالدين فيه ما كانوا يدعونه من دين إسماعيل وملة إبراهيم عليهما السلام، وقد اشتبه واختلط عليهم بما ابتدعوه من هذه التقاليد الشركية حتى لم يعد يعرف الأصل الذي كان يتبع من هذه الإضافات الشركية التي لا تزال تبتدع، فاللبس الخلط بين الشيئين أو الأشياء الذي يشتبه فيه بعضها ببعض، وقيل إن المراد دينهم الذي وجب أن يكونوا عليه، وقيل ليوقعوهم في دين ملتبس مشتبه لا تتجلى فيه حقيقة، ولا تخلص فيه هداية. وهذا التعليل ظاهر على القول بأن الشركاء شياطين الجن وتزيينهم وسوستهم. وأما على القول بأن الشركاء هم سدنة الآلهة فاللام للعاقبة والصيرورة لأن السدنة لا تقصد الإرداء لهم ولبس الدين عليهم، كذا قيل وهو ظاهر في الإرداء، ولا يصح على إطلاقه في لبس الدين فإن كثيرا من السدنة والكهنة يقصدون العبث بدين من يتبعهم ويدين لهم التذاذا بطاعتهم واستعلاء بالرياسة فيهم.
قال تعالى: {وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} أي ولو شاء الله تعالى ألا يفعل الشركاء ذلك التزيين أو المشركون ذلك القتل لما فعلوه وذلك بأن يغير خلقهم وسننه الحكمية فيهم ولكنه أخبرنا بأنه لا تبديل لخلقه ولا لسننه، أو بأن يخلق الناس من أول الأمر مطبوعين على عبادة الله تعالى طبعا لا يستطيعون غيره كالملائكة فلا يؤثر فيهم إغواء بل لا تتوجه إليهم وسوسة لعدم استعدادهم لقبولها، ولكنه شاء أن يخلق الناس مستعدين للتأثر بكل ما يريد على أنفسهم من المعلومات الحسية والفكرية ولا اختيار ما يترجح في أنفسهم أنه خير لهم على ما يقابله، ولأجل هذا يغلب على كل إنسان ما رسخ في نفسه بالتعليم والاستنباط وتأثير المعاشرة والاختلاط، فيكون عليه اعتماده في ترجيح بعض الأعمال على بعض، والناس متفاوتون في هذا استعدادا واستفادة فلا يمكن أن يكونوا على دين واحد أو رأي واحد، فدع أيها الرسول هؤلاء المفترين على الله بانتحال ما لم يشرعه له وما يفترونه من العقائد والأعمال المستندة إليها وعليك بما أمرت به من التبليغ، ولله تعالى سنن في الاهتداء لا تتغير ولا تتبدل، فلا يحزنك أمرهم، فإن من سنته أن يغلب حقك باطلهم.
هذا معنى الآية الموافق لكتاب الله ومقتضى صفاته وسننه في خلقه التي أخبر بأنها لا تبديل لها ولا تحويل، وليس معناها أن مشيئة الله تعالى قد تعلقت بأن يقتل هؤلاء أولادهم تعلقا ابتدائيا بأن يكون أمرا خلقيا كدوران الدم في البدن لا اختيار لهم فيه ولا يستطيعون سبيلا إلى تركه، كيف وقد وصفهم في الآية الآتية بأنهم يفعلونه سفها بغير علم وقد تركوا هذا السفه والجهل بهداية الإسلام...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... فهذه حكاية نوع من أنواع تشريعاتهم الباطلة، وهي راجعة إلى تصرّفهم في ذُرّيَّاتهم بعد أن ذكر تصرّفاتهم في نتائج أموالهم. ولقد أعظم الله هذا التّزيين العجيب في الفساد الّذي حَسَّن أقبح الأشياء وهو قتْلهم أحبّ النّاس إليهم وهم أبناؤهم، فشبه بنفس التزيين للدّلالة على أنّه لو شاء أحد أن يمثّله بشيء في الفظاعة والشّناعة لم يَسَعْه إلاّ أن يشبهه بنفسه لأنَّه لا يبلغ شيء مبلغ أن يكون أظهرَ منه في بابه، فيلجأ إلى تشبيهه بنفسه، على حدّ قولهم « والسّفاهة كاسمها». والتّقدير: وزيّن شركاء المشركين لكثير فيهم تزييناً مثل ذلك التّزيين الّذي زيّنوه لهم، وهُو هُو نفسه، وقد تقدّم تفصيل ذلك عند قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمّة وسطاً} في سورة [البقرة: 143].
ومعنى التّزيين: التّحسين، وتقدّم عند قوله تعالى: {كذلك زيَّنَّا لكلّ أمّة عملهم} في هذه السورة [108]. ومعنى تزيين ذلك هنا أنَّهم خيَّلوا لهم فوائد وقُرَباً في هذا القتل، بأن يُلقوا إليهم مَضرّة الاستجداء والعار في النّساء، وأنّ النّساء لا يرجى منهنّ نفع للقبيلة، وأنَّهنّ يُجَبِّنّ الآباء عند لقاء العدوّ، ويؤثرن أزواجهن على آبائهن، فقتلهنّ أصلَحُ وأنفع من استبقائهن، ونحوَ هذا من الشّبه والتّمويهات، فيأتونهم من المعاني الّتي تروج عندهم، فإنّ العرب كانوا مُفرطين في الغيرة، والجموح من الغلب والعار... وإنَّما قال: {لكثير من المشركين} لأنّ قتل الأولاد لم يكن يأتيه جميع القبائل، وكان في ربيعة ومضر، وهما جمهرة العرب، وليس كلّ الآباء من هاتين القبيلتين يفعله.
وأسند التّزيين إلى الشّركاء: إمّا لإرادة الشّياطين الشّركاءِ، فالتّزيين تزيين الشّياطين بالوسوسة، فيكون الإسناد حقيقة عقليّة، وإمّا لأنّ التّزيين نشأ لهم عن إشاعة كبرائهم فيهم، أو بشرع وضعه لهم مَن وضَع عبادة الأصنام وفرض لها حقوقاً في أموالهم مثل عَمْرو بن لُحَي، فيكون إسناد التّزيين إلى الشّركاء مجازاً عقلياً لأنّ الأصنام سبب ذلك بواسطةٍ أو بواسطتين، وهذا كقوله تعالى: {فما أغنت عنهم آلِهَتُهم التي يَدْعُون من دون الله من شيء لمّا جاء أمر ربّك وما زادوهم غير تتبيب} [هود: 101].
والمعنيّ بقتل الأولاد في هذه الآية ونحوها هو الوأْد، وهو دفن البنات الصغيرات أحياء فيمتن بغمّة التّراب، كانوا يفعلون ذلك خشية الفقر، كما قال تعالى: {ولا تقتلوا أولادكم خَشيةَ إملاق} [الإسراء: 31]، وخشيةَ أن تفتضح الأنثى بالحاجة إذا هلك أبوها، أو مخافة السّباء،...وهذا من خَوَر أوْهَامهم وأنّ ذلك قوله تعالى: {وإذا الموءودة سُئِلت بأي ذنب قتلت} [التكوير: 8، 9]، وقيل: كانوا يفعلون ذلك من شدّة الغيرة خشية أن يأتين ما يَتعيَّر منه أهلهنّ...
ولا شكّ أنّ الوأد طريقة سنّها أيمّة الشّرك لقومهم، إذ لم يكونوا يصدرون إلاّ عن رأيهم، فهي ضلالة ابتدعوها لقومهم بعلّة التخلّص من عوائق غزوهم أعداءَهم، ومن معرّة الفاقة والسباء، وربّما كان سدنة الأصنام يحرّضونهم على إنجاز أمر الموءودة إذا رأوا من بعضهم تثاقلا...
والإرْدَاء: الإيقاع في الرّدى، والردَى: الموت، ويستعمل في الضرّ الشّديد مجازاً أو استعارة وذلك المراد هنا.
ولَبَس عليه: أوقعه في اللّبس، وهو الخلط والاشتباه، وقد تقدّم في قوله تعالى: {ولا تَلبسوا الحقّ بالباطل} في سورة [البقرة: 42]، وفي قوله: {وللبَسْنا عليهم ما يلبسون} في هذه السّورة [9]. أي أن يخلطوا عليهم دينهم فيوهموهم الضّلال رشداً وأنّه مراد الله منهم، فهم يتقرّبون إلى الله وإلى الأصنام لتقرّبهم إلى الله، ولا يفرّقون بين ما يرضاه الله وما لا يرضاه، ويخيّلون إليهم أنّ وأد البنات مصلحة... فمعنى: {وليلبسوا عليهم دينهم} أنَّهم يحدثون لهم ديناً مختلطاً من أصناف الباطل، كما يقال: وسِّعْ الجبّة، أي اجعلها واسعة، وقيل: المراد ليدخلوا عليهم اللّبس في الدّين الّذي كانوا عليه وهو دين إسماعيل عليه السّلام، أي الحنيفيّة، فيجعلوا فيه أشياء من الباطل تختلط مع الحقّ.
والقول في معنى: {ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفسرون} كالقول في قوله آنفاً {ولو شاء ربك ما فعلوه} [الأنعام: 112] وضمير الرّفع في: {فعلوه} يعود إلى المشركين، أي: لو شاء الله لعصمهم من تزيين شركائهم، أو يعود إلى الشّركاء، أي: لو شاء الله لصدّهم عن إغواء أتباعهم، وضمير النّصب يعود إلى القتل أو إلى التّزيين على التوزيع، على الوجهين في ضمير الرّفع.
والمراد: ب {ما يَفترون} ما يفترونه على الله بنسبة أنّه أمرهم بما اقترفوه، وكان افتراؤهم اتِّباعاً لافتراء شركائهم، فسمّاه افتراء لأنَّهم تقلّدوه عن غير نظر ولا استدلال، فكأنَّهم شاركوا الّذين افتروه من الشّياطين، أو سدنة الأصنام، وقادة دين الشّرك، وقد كانوا يموّهون على النّاس أنّ هذا ممّا أمر الله به كما دلّ عليه قوله في الآية بعد هذه: {افتراء عليه} [الأنعام: 138] وقوله في آخر السّورة: {قل هلمّ شهداءكم الذين يشهدون أنّ الله حرّم هذا} [الأنعام: 150].
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
ولكن الله يبيّن لهم العواقب السيئة لذلك، وهو الهلاك، وإثارة الشبهات، وتشويه المفاهيم الصحيحة، فإنّ الرزق على الله، فهو الذي يرزق الذكر والأنثى، كما أن للمرأة دوراً في تنمية الثروة في الموارد التي تتناسب مع دورها الطبيعي في الحياة، كما هو الحال في ما يقوم به الرجل من دور. أمَّا قضية العار، فهي قضية تتحرك في نطاق التقاليد الجاهلية، ولا عار في الإسلام على أحدٍ في ما يقوم به إنسانٌ آخر، ولا مجال للتمييز بين المرأة والرجل في قضية العار والشرف، فهما سواءٌ في ما يعملانه وفي ما يقومان به من حيث النتائج الأخلاقية والاجتماعية والقانونيّة...