قوله تعالى : { إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب } قرأ عاصم ، برواية أبي بكر : ( ( بزينة ) ) منونة ( ( الكواكب ) ) نصب ، أي : بتزييننا الكواكب ، وقرأ حمزة ، وحفص : ( ( بزينة ) ) منونة ، ( ( الكواكب ) ) خفضاً على البدل ، أي : بزينة بالكواكب ، أي : زيناها بالكواكب . وقرأ الآخرون : ( ( بزينة الكواكب ) ) ، بلا تنوين على الإضافة . قال ابن عباس : بضوء الكواكب .
وخص اللّه المشارق بالذكر ، لدلالتها على المغارب ، أو لأنها مشارق النجوم التي سيذكرها ، فلهذا قال : { إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى }
ذكر اللّه في الكواكب هاتين الفائدتين العظيمتين :
إحداهما : كونها زينة للسماء ، إذ لولاها ، لكانت السماء جرما مظلما لا ضوء فيها ، ولكن زينها فيها لتستنير أرجاؤها ، وتحسن صورتها ، ويهتدى بها في ظلمات البر والبحر ، ويحصل فيها من المصالح ما يحصل .
( إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب ، وحفظاً من كل شيطان مارد ، لا يسمعون إلى الملأ الأعلى ويقذفون من كل جانب ، دحوراً ولهم عذاب واصب ، إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب ) .
بعد ما مس في مطلع السورة شطر الأسطورة الخاص بالملائكة ، عاد يمس هنا شطرها الثاني وهو الخاص بالشياطين . وكانوا يزعمون أن بين الله وبين الجنة نسباً . وبعضهم كانوا يعبدون الشياطين على هذا الأساس . وعلى أساس أن الشياطين يعرفون الغيب لاتصالهم بالملأ الأعلى . .
وبعد ذكر السماوات والأرض وما بينهما وذكر المشارق . . إما مشارق النجوم والكواكب . وإما المشارق المتوالية على قطاعات الأرض . وإما هذه وتلك وأنوارها وأضوائها . . يجيء ذكر الكواكب :
( إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب ) . .
ونظرة إلى السماء كافية لرؤية هذه الزينة ؛ ولإدراك أن الجمال عنصر مقصود في بناء هذا الكون ؛ وأن صنعة الصانع فيه بديعة التكوين جميلة التنسيق ؛ وأن الجمال فيه فطرة عميقة لا عرض سطحي ؛ وأن تصميمه قائم على جمال التكوين كما هو قائم على كمال الوظيفة سواء بسواء . فكل شيء فيه بقدر ، وكل شيء فيه يؤدي وظيفته بدقة ؛ وهو في مجموعه جميل .
والسماء . وتناثر الكواكب فيها ، أجمل مشهد تقع عليه العين . ولا تمل طول النظر إليه . وكل نجمة توصوص بضوئها وكل كوكب يوصوص بنوره ؛ وكأنه عين محبة تخالسك النظر ؛ فإذا أنت حدقت فيها أغمضت وتوارت ؛ وإذا أنت التفت عنها أبرقت ولمعت ! وتتبع مواقعها وتغير منازلها ليلة بعد ليلة وآناً بعد آن متعة نفسية لا تملها النفس أبداً !
هذه الجملة تتنزل من جملة { رَبُّ السماواتت والأرض وما بينهما } [ الصافات : 5 ] منزلة الدليل على أنه رب السماوات . واقتصر على ربوبية السماوات لأن ثبوتها يقتضي ربوبية الأرض بطريق الأوْلى . وأدمج فيها منة على الناس بأن جعل لهم في السماء زينة الكواكب تروق أنظارهم فإن محاسن المناظر لذّة للناظرين قال تعالى : { ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون } [ النحل : 6 ] ، ومنة على المسلمين بأن جعل في تلك الكواكب حفظاً من تلقّي الشياطين للسمع فيما قضى الله أمره في العالم العلوي لقطع سبيل اطلاع الكهان على بعض ما سيحدث في الأرض فلا يفتنوا الناس في الإِسلام كما فتنوهم في الجاهلية ، وليكون ذلك تشريفاً للنبيء صلى الله عليه وسلم بأن قطعت الكهانة عند إرساله وللإِشارة إلى أن فيها منفعة عظيمة دينية وهي قطع دابر الشك في الوحي ، كما أن فيها منفعة دنيوية وهي للزينة والاهتداء بها في ظلمات البر والبحر .
و { الكواكب } : الكريات السماوية التي تلمع في الليل عَدا الشمس والقمر . وتسمى النجوم ، وهي أقسام : منها العظيم ، ومنها دونه ، فمنها الكواكب السيارة ، ومنها الثوابت ، ومنها قِطع تدور حول الشمس . وفي الكواكب حِكم منها أن تكون زينة للسماء في الليل فالكواكب هي التي بها زينت السماء . فإضافة { زينة } إلى { الكواكِبِ } إن جعلتَ { زينة } مصدراً بوزن فِعلة مثل نِسبة كانت من إضافة المصدر إلى فاعله ، أي زانتها الكواكب أو إلى المفعول ، أي بزينة الله الكواكب ، أي جعلها زَيْناً . وإن جعلتَ { زينة } اسماً لما يتزين به مثل قولنا : لِيقة لما تُلاق به الدَّواة ، فالإِضافة حقيقية على معنى « من » الابتدائية ، أي زينة حاصلة من الكواكب . وأَيًّا مَّا كان فإقحام لفظ { زينة } تأكيد ، والباء للسببية ، أي زيَّنا السماء بسبب زينة الكواكب فكأنه قيل : إنا زينا السماء الدنيا بالكواكب تزييناً فكان { بزِينةٍ الكواكب } في قوّة : بالكواكب تزيينا ، فقوله : { بِزينَةٍ } مصدر مؤكد لفعل { زَيَّنَّا } في المعنى ولكنْ حُوّل التعليق فجعل { زينة } هو المتعلق ب { زَيَّنَّا } ليفيد معنى التعليل ومعنى الإِضافة في تركيب واحد على طريقة الإِيجاز ، لأنه قد علم أن الكواكب زينة من تعليقه بفعل { زيَّنَّا } من غير حاجة إلى إعادة { زينة } لولا ما قصد من معنى التعليل والتوكيد .
و { الدنيا } : أصله وصف هو مؤنث الأدنى ، أي القربى . والمراد : قربها من الأرض ، أي السماء الأولى من السماوات السبع .
ووصفها بالدنيا : إمَّا لأنها أدنى إلى الأرض من بقية السماوات ، والسماء الدنيا على هذا هي الكرة التي تحيط بكرة الهواء الأرضية وهي ذات أبعاد عظيمة . ومعنى تزيينها بالكواكب والشهب على هذا أن الله جعل الكواكب والشهب سابحة في مقعّر تلك الكرة على أبعاد مختلفة ووراء تلك الكرة السماوات السبع محيط بعضها ببعض في أبعاد لا يعلم مقدار سعتها إلا الله تعالى . ونظام الكواكب المعبر عنه بالنظام الشمسي على هذا من أحوال السماء الدنيا ، ولا مانع من هذا لأن هذه اصطلاحات ، والقرآن صالح لها ، ولم يأت لتدقيقها ولكنه لا ينافيها .
والسماء الدنيا على هذا هي التي وصفت في حديث الإِسراء بالأولى . وإمّا لأن المراد بالسماء الدنيا الكرة الهوائية المحيطة بالأرض وليس فيها شيء من الكواكب ولا من الشهب وأن الكواكب والشهب في أفلاكها وهي السماوات الست والعرش ، فعلى هذا يكون النظام الشمسي كله ليس من أحوال السماء الدنيا . ومعنى تزيين السماء الدنيا بالكواكب والشهب على هذا الاحتمال أن الله تعالى جعل أديم السماء الدنيا قابلاً لاختراق أنوار الكواكب في نصف الكرة السماوية الذي يغشاه الظلام من تباعد نور الشمس عنه فتلوح أنوار الكواكب متلألئة في الليل فتكون تلك الأضواء زينة للسماء الدنيا تزدان بها .
والآية صالحة للاحتمالين لأنها لم يثبت فيها إلا أن السماء الدنيا تزدان بزينة الكواكب ، وذلك لا يقتضي كون الكواكب سابحة في السماء الدنيا . فالزينة متعلقة بالناس ، والأشياء التي يزدان بها الناس مغايرة لهم منفصلة عنهم ومثله قولنا : ازدان البحر بأضواء القمر .
وقرأ الجمهور { بِزينَةِ الكواكِبِ } بإضافة { زينة } إلى { الكَواكِبِ } وقرأ حمزة { بزينةٍ الكواكب } بتنوين { زينة } وجر { الكَواكِبِ } على أن { الكواكب } بدل من { زينة } . وقرأه أبو بكر عن عاصم بتنوين { زينةٍ } ونصب { الكَواكِبَ } على الاختصاص بتقدير : أعني .
وقد تقدم الكلام على زينة السماء بالكواكب وكونها حفظاً من الشياطين عند قوله تعالى : { ولقد جعلنا في السماء بروجاً وزيناها للناظرين وحفظناها من كل شيطان رجيم } في سورة [ الحجر : 16 ، 17 ] . وتقدم ذكر الكواكب في قوله : { رأى كوكباً } في سورة [ الأنعام : 76 ] .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.