قوله : { إِنَّا زَيَّنَّا السمآء الدنيا بِزِينَةٍ الكواكب } قرأ عاصم برواية أبي بكر : «بِزينَةٍ » منونة ونصب «الكواكب »{[46713]} وفيه وجهان :
أحدهما : أن تكون الزينة مصدراً{[46714]} ، وفاعله محذوف بأن زين الله الكواكب في كونها مضيئةً حسنةً في أنفسها .
والثاني : أن الزينة اسم لما يزان به كاللِّيقَةِ{[46715]} اسم لما يُلاَقُ به الدَّوَاة فتكون الكواكب على هذا منصوبة بإضمار أعني أو يكون بدلاً من ( ال ) سَّمَاء الدُّنْيَا بدل اشتمال أي كواكبها أو من محل{[46716]} «بزينَةٍ » وحَمْزةُ وحفصٌ كذلك{[46717]} إلا أنهما خفضا الكواكب على أن يراد بزينة ما يزان به ، والكواكب بدل أو بيان{[46718]} للزينة وهي قراءة مسروق بن الأجدع . قال الفراء : وهو رد معرفة على نكرة كقوله : «بالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ » فرد نكرة على معرفة{[46719]} ، وقال الزجاج : الكواكب بدل من الزينة{[46720]} لأنها هي كقولك : «مَرَرْتُ بأَبِي عَبْد اللَّه زَيْدٍ » . والباقون{[46721]} بإضافة زينَة إلى الكواكب . وهي تحتمل ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون إضافة أعم إلى أخص فتكون للبيان نحو : ثَوْبُ خَزَّ .
الثاني : أنها مصدر مضاف لفاعله أي بأن زَيَّنَتِ الكَوَاكِبُ السَّمَاءَ بضَوْئِهَا .
والثالث : أنه مضاف لمفعوله أي بأن زينها الله بأن جعلها مشرقة مضيئة في نفسها{[46722]} ، وقرأ ابن عباس وابن مسعود بتنوينها وبرفع الكواكب{[46723]} فإن جَعَلْتَهَا مصدراً ارتفع الكواكب به ، وإن جعلتها اسماً لما يزان به فعلى هذا ترتفع «الكواكب » بإضمار مبتدأ أي هي الكواكب . وهي في قوة البدل{[46724]} ، ومنع الفراء إعمال المصدر المنون وزعم أنه لم يُسْمعْ{[46725]} ، وهو غلط لقوله تعالى : { إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ } [ البلد : 14 ] كما سيأتي إن شَاءَ اللَّهُ . قوله : «وَحِفْظاً » منصوب على المصدر ، بإضمار فعل أي حَفِظْنَاهَا حِفظاً{[46726]} ، وإما على المفعول من أجله على زيادة الواو{[46727]} ، والعامل فيه زَيَّنَّا ، أو على أن يكون العامل مقدراً أي لحِفْظِهَا زَيَّنَّاها أو على الحمل على المعنى المتقدم أي{[46728]} : إنا خلقنا السماء الدنيا زينةً وحفظاً ، و «مِنْ كُلّ » متعلق " بحفظا " إن لم يكن مصدرا مؤكدا{[46729]} ، وبالمحذوف إن جعل مصدرا مؤكدا{[46730]} ؛ ويجوز أن يكون صفةً «لِحفْظاً »{[46731]} ، قال المبرد : إذا ذكرت فعلاً ثم عطفت عليه مصدر فعل آخر نصبت المصدر لأنه قد دل على فعله كقولك : أفْعَلُ وكَرَامَةً لما قال أفعل علم أن الأسماء لا تعطف على الأفعال فكان المعنى أفْعَل ذَاكَ واُكْرِمُكَ كَرَامَةً{[46732]} .
قال ابن عباس «زينا السماء الدنيا » بضوء{[46713]} الكواكب «وحفظناها من كل شيطان مارد » متمرد يرمون بها ، وتقدم الكلام على المارد عند قوله : { مَرَدُواْ عَلَى النفاق }{[46714]} [ التوبة : 101 ] واعلم أنه تعالى بين أنه زين السماء لمنفعتين :
والثانية : الحفظ من الشيطان المارد .
فإن قيل : ثبت في علم الهيئة أن هذه الكواكب الثوابت مركوزة في الكرة الثامنة وأن السيارات مركوزة في الكرات السِّتَّةِ المحيطة بسماء الدنيا فكيف يصح قوله : إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب ؟ .
فالجواب : أن الناس الساكنين على سطح كرة الأرض إذا نظروا إلى السماء فإنهم يشاهدو ( نَ ) هَا{[46715]} مزينة بهذه الكواكب فصح قوله تعالى : { إِنَّا زَيَّنَّا السمآء الدنيا بِزِينَةٍ الكواكب } . وأيضاً فكون هذه الكواكب مركوزة في الفلك الثامن لم يتم دليل الفلاسفة عليه .
فن قيل : هذه الشهب التي يرمى بها هل هي من الكواكب التي زين الله السماء بها أم لا ؟ والأول باطل لأن هذه الشهب تَبْطُل وتَضْمَحِّل فلو كانت هذه الشهب تلك الكواكب الحقيقية لوجب أن يظهر نقصان كثير في أعداد كواكب السماء ولم يوجد ذلك فإن أعداد كواكب السماء باقية لم تتغير ألبتة وأيضاً فجعلها رجوماً للشياطين مما يوجب وقوع النقصان في زينة السماء فكان الجمع بين هذين المقصودين كالمتناقض{[46716]} . وإن كانت هذه الشهب جنساً{[46717]} آخر غير الكواكب المركوزة في الفلك فهو{[46718]} أيضاً مُشْكِل لأنه تعالى قال في سورة الملك : { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السمآء الدنيا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ } [ الملك : 5 ] فالضمير في قوله : «وَجَعَلْنَاهَا » عائد إلى المصابيح فوجب أن تكون تلك المصابيح هي الرجوم بأعيانها .
فالجواب : أن الشهبَ غير تلك الكواكب الثابتة وأما قوله تعالى : «ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوماً للشياطين » فنقو ( ل ){[46719]} كل نير يحصل في الجو العالي فهو مصباح لأهل الأرض إلا أن تلك المصابيح منها باقية على وجه الأرض آمنة من التغير والفساد ومنها{[46720]} ما لا يكون كذلك وهي هذه الشهب التي يحدثها الله تعالى ويجعلها رجوماً للشياطين إلى حيث يعلمون وبهذا يزول الإشكال .
فإن قيل : كيف يجوز أن تذهب الشياطين حيث يعلمون أن الشهب تحرقهم ولا يصلون إلى مقصودهم البتة وهل يمكن أن يصدر ( مثل ){[46721]} هذا الفعل عن عاقل فكيف من الشياطين الذين لهم مَزِيَّة في معرفة الحِيل الدقيقة ؟ .
فالجواب : أن حصول هذه الحالة ليس له موضع معين وإلا لم يذهبوا إليه وإنما يمنعون من المصير إلى مواضع الملائكة ومواضعها مختلفة فربما صاروا إلى موضع تصيبهم الشهب وربما صاروا إلى غيره ولا صادفوا الملائكة ولا تصيبهم الشهب فلما هلكوا في بعض الأوقات وسلموا في بعض الأوقات جاز أن يصيروا إلى مواضع يغلب على ظنونهم أنهم لا تصيبهم الشهب فيها كما يجوز فيمن سَلَك البَحْرَ أن يسلكه في موضع يغلب على ظنه يغلب حصول النجاة . هذا ما ذكره أبو عَلِيٍّ الجُبَّائي{[46722]} في الجواب عن ( هذا ){[46723]} السؤال في تفسيره وفي هذا الجواب نظر فإن السموات ليس فيها موضع خال من الملائكة لقوله - عليه ( الصلاة و ) السلام- : «أَطَّتِ السَّمَاءُ وَحَقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ مَا فِيهَا مَوْضِعُ قَدَمٍ إلاَّ وَفيهِ مَلَكٌ قَائِمٌ أَوْ سَاجِدٌ{[46724]} »
قال ابن الخطيب : ولقائل أن يقول : إنهم إذا صعدوا إما أن يَصِلوا إلى مواضع ( الملائكة ){[46725]} وإلى غير ( تلك ) المواضع فإن وصلوا إلى مواضع الملائكة احترقوا{[46726]} وإن وصلوا إلى غير مواضع الملائكة لم يفوزوا بمقصود أصلاً وعلى كلا التقديرين فالمقصود غير حاصل . وإذا كان الفوز بالمقصود محالاً وجب أن يمتنعوا عن هذا الفعل وألا يقدموا عليه أصلاً بخلاف حال المسافر في البحر فإن الغالب عليهم السلامة والفوز بالمقصود وأما ههنا فالشيطان الذي يسلم من الإحراق إنما يسلم إذا لم يصل إلى مواضع{[46727]} الملائكة وإذا لم يصل إلى ذلك الموضع لم يفز بالمقصود فوجب أن لا يعود إلى هذا العمل البتة والأقرب في الجواب أن يقال هذه الواقعة إنما تتفق في الندرة{[46728]} فلعلها لا تشتهر بسبب نُدْرَتِهَا فيما بين الشياطين . والله أعلم{[46729]} . فإن قيل : دلتنا التواريخ المتواترة على أن حدوث الشهب كان حاصلاً قبل مجيء النبي - صلى الله عليه وسلم ( ولذلك ){[46730]} فإن{[46731]} الحكماء الذين كانوا موجودين قبل مجيء النبي - صلى الله عليه وسلم - بزمان طويل ذكروا ذلك وتكلموا في سبب حدوثه وإذا ثبت أن ذلك كان موجوداً قبل مجيء النبي - صلى الله عليه وسلم - امتنع حمله على مجيء النبي - صلى الله عليه وسلم - أجاب القاضي{[46732]} بأن الأقرب أنَّ هذه الحالة كانت موجودة قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكنها كثرت في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - فصارت بسبب الكثرة معجزةً{[21]} .
فإن قيل : الشيطان مخلوق من النار كما حكي عن قول إبليس { خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ } [ الأعراف : 12 ] وقال : { والجآن خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السموم } [ الحجر : 27 ] ولهذا السبب يقدر على الصعود إلى السموات وإذا كان كذلك فكيف يعقل إحراق النار بالنار ؟ .
فالجواب : يحتمل أن الشياطين وإن كانوا من النِّيران إلا أنَّها نيران ضعيفة ونيران الشهب أقوى حالاً منهم ولا جَرَمَ صار الأقوى للأضعف مبطلاً ، ألا ترى أن السراج الضعيف إذا وضع في النار القوية فإنه ينطفئ فكذلك ههنا{[22]} .