قوله تعالى : { ولقد آتيناك سبعاً من المثاني } ، قال عمر وعلي : هي فاتحة الكتاب . وهو قوم قتادة وعطاء والحسن وسعيد بن جبير .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا آدم ، حدثنا ابن أبي ذئب حدثنا سعيد المقبري ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أم القرآن هي السبع المثاني والقرآن العظيم " . وعن ابن مسعود قال في السبع المثاني : هي فاتحة الكتاب ، والقرآن العظيم : هو سائر القرآن . واختلفوا في أن الفاتحة لم سميت مثاني ؟ قال ابن عباس والحسن وقتادة : لأنها تثنى في الصلاة فتقرأ في كل ركعة . وقيل : لأنها مقسومة بين الله وبين العبد نصفين ، نصفها ثناء ونصفها دعاء كما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يقول الله عز وجل : " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين " . قال الحسين بن الفضل : سميت مثاني لأنها نزلت مرتين : مرة بمكة ، ومرة بالمدينة ، كل مرة معها سبعون ألف ملك . وقال مجاهد : سميت مثاني لأن الله تعالى استثناها وادخرها لهذه الأمة فما أعطاها غيرهم . وقال أبو زيد البلخي : سميت مثاني لأنها تثني أهل الشر عن الفسق ، مكن قول العرب : ثنيت عناني . وقيل : لأن أولها ثناء . وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس : إن السبع المثاني هي السبع الطوال ، أولها سورة البقرة ، وآخرها الأنفال مع التوبة . وقال بعضهم : سورة يونس بدل الأنفال .
أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أنبأنا أبو إسحاق الثعلبي ، حدثنا أبو محمد الحسن ابن أحمد المخلدي أنبأنا ا أبو بكر محمد بن حمدون بن خالد وعبد الله بن محمد بن مسلم قالا : أنبأنا هلال بن العلاء ، حدثنا حجاج بن محمد عن أيوب بن عتبة ، عن يحيى بن كثير ، عن شداد ابن عبد الله ، عن أبي أسماء الرحبي عن ثوبان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله تعالى أعطاني السبع الطوال مكان التوراة ، وأعطاني المئين مكان الإنجيل وأعطاني مكان الزبور المثاني ، وفضلني ربي بالمفصل " . وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : أوتي النبي صلى الله عليه وسلم السبع الطوال ، وأعطي موسى ستا فلما ألقى الألواح رفع ثنتان وبقي أربع . قال ابن عباس : وإنما سميت السبع الطوال مثاني لأن الفرائض والحدود والأمثال والخبر والعبر ثنيت فيها . وقال طاووس : القرآن كله مثاني قال الله تعالى : { الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني } [ الزمر-23 ] . وسمي القرآن مثاني لأن الأنبياء والقصص ثنيت فيه . وعلى هذا القول : المراد بالسبع : سبع أسباع القرآن ، فيكون تقديره على هذا : وهي القرآن العظيم . وقيل : الواو مقحمة ، مجازه : ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم .
يقول تعالى ممتنًّا على رسوله { ولقد آتيناك سبعا من المثاني } وهن -على الصحيح- السور السبع الطوال : " البقرة " و " آل عمران " و " النساء " و " المائدة " و " الأنعام " و " الأعراف " و " الأنفال " مع " التوبة " أو أنها فاتحة الكتاب لأنها سبع آيات ، فيكون عطف { القرآن العظيم } على ذلك من باب عطف العام على الخاص ، لكثرة ما في المثاني من التوحيد ، وعلوم الغيب ، والأحكام الجليلة ، وتثنيتها فيها .
وعلى القول بأن " الفاتحة " هي السبع المثاني معناها : أنها سبع آيات ، تثنى في كل ركعة ، واذا كان الله قد أعطاه القرآن العظيم مع السبع المثاني كان قد أعطاه أفضل ما يتنافس فيه المتنافسون ، وأعظم ما فرح به المؤمنون ، { قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون } ولذلك قال بعده :
يتصل بهذا الحق الكبير تلك الرسالة التي جاء بها الرسول . وذلك القرآن الذي أوتيه :
( ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم ) .
والمثاني الأرجح أن المقصود بها آيات سورة الفاتحة السبع - كما ورد في الأثر - فهي تثنى وتكرر في الصلاة ، أو يثنى فيها على الله .
والمهم أن وصل هذا النص بآيات خلق السماوات والأرض وما بينهما بالحق والساعة الآتية لا ريب فيها ، يشي بالاتصال بين هذا القرآن والحق الأصيل الذي يقوم به الوجود وتقوم عليه الساعة . فهذا القرآن من عناصر ذلك الحق ، وهو يكشف سنن الخالق ويوجه القلوب إليها ، ويكشف آياته في الأنفس والآفاق ويستجيش القلوب لإدراكها ، ويكشف أسباب الهدى والضلال ، ومصير الحق والباطل ، والخير والشر والصلاح والطلاح . فهو من مادة ذلك الحق ومن وسائل كشفه وتبيانه . وهو أصيل أصالة ذلك الحق الذي خلقت به السماوات والأرض . ثابت ثبوت نواميس الوجود ، مرتبط بتلك النواميس . وليس أمرا عارضا ولا ذاهبا . إنما يبقى مؤثرا في توجيه الحياة وتصريفها وتحويلها ، مهما يكذب المكذبون ، ويستهزيء المستهزئون ، ويحاول المبطلون ، الذين يعتمدون على الباطل ، وهو عنصر طاريء زائل في هذا الوجود .
ومن ثم فإن من أوتي هذه المثاني وهذا القرآن العظيم ، المستمد من الحق الأكبر ، المتصل بالحق الأكبر . . لا يمتد بصره ولا تتحرك نفسه لشيء زائل في هذه الأرض من أعراضها الزوائل . ولا يحفل مصير أهل الضلال ، ولا يهمه شأنهم في كثير ولا قليل . إنما يمضي في طريقه مع الحق الأصيل :
قال ابن عمر وابن مسعود وابن عباس ومجاهد وابن جبير : «السبع » هنا هي السبع الطوال البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والمص والأنفال مع براءة{[7214]} ، وقال ابن جبير : بل السابعة يونس وليست الأنفال وبراءة منها ، و { المثاني } على قول هؤلاء : القرآن كما قال تعالى : { كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم }{[7215]} [ الزمر : 23 ] ، وسمي بذلك لأن القصص والأخبار تثنى فيه وتردد ، وقال عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن عباس أيضاً وابن مسعود والحسن وابن أبي مليكة وعبيد بن عمير وجماعة : «السبع » هنا هي آيات الحمد ، قال ابن عباس : هي سبع : ببسم الله الرحمن الرحيم ، وقال غيره هي سبع دون البسملة ، وروي في هذا حديث أبي بن كعب ونصه : قال أبيّ : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ألا أعلمك يا أبيّ سورة لم تنزل في التوراة والإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها » ، قلت : بلى ، قال : «إني لأرجو أن لا تخرج من ذلك الباب حتى تعلمها » ، فقام رسول الله وقمت معه ويدي في يده وجعلت أبطىء في المشي مخافة أن أخرج ، فلما دنوت من باب المسجد ، قلت : يا رسول الله ، السورة التي وعدتنيها ؟ فقال : «كيف تقرأ إذا قمت في الصلاة » ؟ قال : فقرأت { الحمد لله رب العالمين } [ الفاتحة : 1 ] حتى كملت فاتحة الكتاب ، فقال : «هي هي ، وهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيت » ، كذا أو نحوه ذكره مالك في الموطأ ، وهو مروي في البخاري ومسلم عن أبي سعيد بن المعلى أيضاً ، وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم «إنها السبع المثاني ، وأم القرآن ، وفاتحة الكتاب »{[7216]} وفي كتاب الزهراوي : وليس فيها بسملة ، و { المثاني } على قول هؤلاء يحتمل أن يكون القرآن ، ف { من } للتبعيض ، وقالت فرقة : بل أراد الحمد نفسها كما قال { الرجس من الأوثان }{[7217]} [ الحج : 30 ] ف { من } لبيان الجنس ، وسميت بذلك لأنها تثنى في كل ركعة ، وقيل سميت بذلك لأنها يثنى بها على الله تعالى ، جوزه الزجاج .
قال القاضي أبو محمد : وفي هذا القول من جهة التصريف نظر{[7218]} ، وقال ابن عباس : سميت بذلك لأن الله تعالى استثناها لهذه الأمة ولم يعطها لغيرها ، وقال نحوه ابن أبي مليكة ، وقرأت فرقة «والقرآن » بالخفض عطفاً على { المثاني } وقرأت فرقة «والقرآنَ » بالنصب عطفاً على قوله { سبعاً } ، وقال زياد بن أبي مريم{[7219]} : المراد بقوله { ولقد آتيناك سبعاً } أي سبع معان من القرآن خولناك فيها شرف المنزلة في الدنيا والآخرة وهي : مُرْ ، وانْهَ ، وبشر ، وأنذِر ، واضرب الأمثال ، واعدد النعم ، واقصص الغيوب ، وقال أبو العالية «السبع المثاني » هي آية فاتحة الكتاب ، ولقد نزلت هذه السورة وما نزل من السبع الطوال شيء .
اعتراض بين جملة { فاصفح الصفح الجميل } [ سورة الحجر : 85 ] وجملة ولقد آتيناك سبعاً } الآية .
أتبع التسلية والوعد بالمنّة ليذكر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالنّعمة العظيمة فيطمئن بأنه كما أحسن إليه بالنّعم الحاصلة فهو منجزه الوعود الصادقة .
وفي هذا الامتنان تعريض بالردّ على المكذبين . وهو ناظر إلى قوله : { وقالوا يأيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون } إلى قوله تعالى : { وإنا له لحافظون } [ سورة الحجر : 9 ] .
فالجملة عطف على الجمل السابقة عطف الغرض على الغرض والقصّة على القصّة . وهذا افتتاح غرض من التنويه بالقرآن والتحقير لعيش المشركين .
وإيتاء القرآن : أي إعطاؤه ، وهو تنزيله عليه والوحي به إليه .
وأوثر فعل { آتيناك } دون ( أوحينا ) أو ( أنزلنا ) لأن الإعطاء أظهر في الإكرام والمنّة .
وجَعْل { القرآن } معطوفاً على { سبعاً من المثاني } يشعر بأن السبع المثاني من القرآن . وذلك ما درج عليْه جمهور المفسّرين ودلّ عليْه الحديث الآتي .
وقد وصف القرآن في سورة الزمر ( 23 ) بالمثاني في قوله تعالى : { الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني } فتعين أن السبع هي أشياء تجري تسميتها على التأنيث لأنّها أجري عليها اسم عدد المؤنّث . ويتعيّن أن المراد آيات أو سور من القرآن ، وأن { مِن } تبعيضية . وذلك أيضاً شأن { مِن } إذا وقعت بعد اسم عدد . وأن المراد أجزاء من القرآن آيات أو سور لها مزية اقتضت تخصيصها بالذكر من بين سائر القرآن ، وأنّ المثاني أسماء القرآن كما دلّت عليه آية الزّمر ، وكما اقتضته { من } التبعيضية ، ولكون المثاني غير السبع مغايرة بالكليّة والجزئية تصحيحاً للعطف .
و { المثاني } يجوز أن يكون جمع مُثَنّى بضم الميم وتشديد النّون اسم مفعول مشتقاً من ثَنّى إذا كرّر تكريرة . قيل { المثاني } جمع مثناة بفتح الميم وسكون الثاء المثلّثة وبهاء تأنيث في آخره . فهو مشتق من اسم الاثنين .
والأصح أن السبع المثاني هي سورة فاتحة الكتاب لأنّها يثنى بها ، أي تعاد في كلّ ركعة من الصلاة فاشتقاقها من اسم الإثنين المراد به مطلق التكرير ، فيكون استعماله هذا مجازاً مرسلاً بعلاقة الإطلاق ، أو كناية لأن التّكرير لازم كما استعملت صيغة التثنية فيه في قوله تعالى : { ثم ارجع البصر كرّتين } [ سورة الملك : 4 ] أي كرّات وفي قولهم : لبّيْك وسعديك ودواليْك .
أو هو جمع مَثناة مصدراً ميمياً على وزن المفعلة أطلق المصدر على المفعول .
ثم إن كان المراد بالسبع سبع آيات فالمؤتى هو سورة الفاتحة لأنها سبع آيات وهذا الذي ثبت عن رسول الله في حديث أبي سعيد بن المعلى وأبيّ بن كعب وأبي هُريرة في الصحيح عن رسول الله أن أمّ القرآن هي السبع المثاني فهو الأوْلى بالاعتماد عليه .
وقد تقدم ذلك في ذكر أسماء الفاتحة .
ومعنى التكرير في الفاتحة أنّها تكرّر في الصّلاة .
وعن ابن عبّاس : أن السبع المثاني هي السور السبع الطوال : أولاها البقرة وآخرها براءة . وقيل : السور الّتي فوق ذوات المئين .
وعطْفُ القرآن } على السبع من عطف الكل على الجزء لقصد التعميم ليعلم أن إيتاء القرآن كلّه نعمة عظيمة . وفي حديث أبي سعيد بن المعلّى قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم " وَالقرآنُ العظيم الّذي أوتيتُه " على تأويله بأن كلمة « القرآن » مرفوعة بالابتداء « والّذي أوتيتُه » خبره .
وأجري وصف { العظيم } على القرآن تنويهاً به .
وإن كان المراد بالسبع سوراً كما هو مروي من قول ابن عباس وكثير من الصّحابة والسّلف واختلفوا في تعيينها بما لا ينثلج له الصدر ، فيكون إبهامها مقصوداً لصرف الناس للعناية بجميع ما نزل من سور القرآن كما أبهمت ليلة القدر .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولقد آتيناك سبعا من المثاني}، يعني: ولقد أعطيناك فاتحة الكتاب، وهي سبع آيات،
ثم قال: {العظيم} يعني: سائر القرآن كله.
ابن رشد: قال ابن القاسم: سمعت مالكا يقول: السبع المثاني: أم القرآن، قال الله تعالى: {ولقد آتيناك سبعا من المثاني}.
ابن جرير: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا زيد بن حباب الحكلي قال: ثنا مالك بن أنس، قال: أخبرني العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب مولى لعروة، عن أبي سعيد مولى عامر ابن فلان، أو ابن فلان، عن أبي بن كعب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: (إذا افتتحت الصلاة بم تفتتح؟) قال: الحمد لله رب العالمين، حتى ختمها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي (السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيت).
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في معنى السبع الذي أتى الله نبيه صلى الله عليه وسلم من المثاني؛ فقال بعضهم عني بالسبع: السبع السور من أوّل القرآن اللواتي يُعْرفن بالطول. وقائلو هذه المقالة مختلفون في المثاني، فكان بعضهم يقول: المثاني هذه السبع، وإنما سمين بذلك لأنهن ثُنّيَ فيهنّ الأمثالُ والخبرُ والعِبَر... عن سعيد بن جبير، في قوله:"وَلَقَد آتَيْناكَ سَبْعا مِنَ المَثانِي" قال: هي الطّوَل: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، ويونس...
وقال آخرون: عني بذلك: سبع آيات وقالوا: هن آيات فاتحة الكتاب، لأنهنّ سبع آيات. وهم أيضا مختلفون في معنى المثاني؛ فقال بعضهم: إنما سمين مثاني لأنهن يثنين في كلّ ركعة من الصلاة...
عن أبي العالية، قال: فاتحة الكتاب. قال: وإنما سميت المثاني لأنه يثنى بها كلما قرأ القرآن قرأها...
عن قتادة: "سَبْعا مِنَ المَثانِي "قال: فاتحة الكتاب تُثْنَى في كلّ ركعة مكتوبة وتطوّع...
وقال آخرون: عُني بالسبع المثاني معاني القرآن... عن زياد بن أبي مريم، في قوله: "سَبْعا مِنَ المَثانِي" قال: أعطيتك سبعة أجزاء: مُرْ، وانْهَ، وبَشّرْ، وأنذِرْ، واضرب الأمثال، واعدُدِ النعم، وآتيتك نبأ القرآن.
وقال آخرون من الذين قالوا عُنِي بالسبع المثاني فاتحة الكتاب: المثاني هو القرآن العظيم...
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: عُني بالسبع المثاني السبع اللواتي هنّ آيات أم الكتاب، لصحة الخبر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي:
حدّثنيه يزيد بن مخلد بن خِدَاش الواسطي، قال: حدثنا خالد بن عبد الله، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمّ القُرآنِ السّبْعُ المَثانِي الّتِي أُعْطِيتُها».
حدثني أحمد بن المقدام العجلي، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا روح بن القاسم، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأُبيّ: «إنّي أُحِبّ أنْ أعُلّمَكَ سُورةً لَمْ يَنْزِلْ فِي التّوْرَاةِ وَلا فِي الإنْجِيلِ وَلا فِي الزّبُورِ وَلا فِي الفُرْقانِ مِثْلُها». قال: نعم يا رسول الله، قال: «إنّي لأرْجُو أنْ لا تخْرُج مِنْ هَذَا البابِ حتى تَعْلَمَها». ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي يحدثني، فجعلت أتباطأ مخافة أن يبلغ البابَ قبل أن ينقضي الحديث فلما دنوت قلت: يا رسول الله ما السورة التي وعدتني؟ قال: «ما تَقرأُ في الصّلاةِ؟» فقرأت عليه أمّ القرآن، فقال: «والّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ما أُنْزِل في التّوْراةِ ولا في الإنْجِيلِ ولا في الزّبُورِ ولا في الفُرْقانِ مِثْلُها، إنّها السّبْعُ مِن المَثاني والقُرآنِ العَظِيمِ الّذِي أُعْطِيتُهُ».
... فإذ كان الصحيح من التأويل في ذلك ما قلنا للذي به استشهدنا، فالواجب أن تكون المثاني مرادا بها القرآن كله، فيكون معنى الكلام: ولقد آتيناك سبع آيات مما يَثْنيِ بعض آيه بعضا. وإذا كان ذلك كذلك كانت المثاني: جمع مَثْناة، وتكون آي القرآن موصوفة بذلك، لأن بعضها يَثْنِي بعضا وبعضها يتلو بعضا بفصول تفصل بينها، فيعرف انقضاء الآية وابتداء التي تليها كما وصفها به تعالى ذكره فقال: "اللّهُ نَزّلَ أحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَابا مُتَشابِها مَثانِيَ تَقْشَعِرّ مِنْهُ جُلُودُ الّذِينَ يَخْشَوْن رَبّهُمْ". وقد يجوز أن يكون معناها كما قال ابن عباس والضحاك ومن قال ذلك إن القرآن إنما قيل له مَثَاني لأن القصص والأخبار كرّرت فيه مرّة بعد أخرى. وقد ذكرنا قول الحسن البصريّ أنها إنما سميت مَثاني لأنها تُثْنَى في كلّ قراءة، وقول ابن عباس إنها إنما سميت مثاني، لأن الله تعالى ذكره استثناها لمحمد صلى الله عليه وسلم دون سائر الأنبياء غيره فادّخرها له.
وكان بعض أهل العربية يزعم أنها سمت مَثَانِيَ لأن فيها الرحمن الرحيم مرّتين، وأنها تُثْنَى في كلّ سورة، يعني: بسم الله الرحمن الرحيم.
وأما القول الذي اخترناه في تأويل ذلك، فهو أحد أقوال ابن عباس، وهو قول طاوس ومجاهد وأبي مالك، وقد ذكرنا ذلك قبل.
وأما قوله: "والقُرآنَ العَظِيمَ" فإن القرآن معطوف على السبع، بمعنى: ولقد آتيناك سبع آيات من القرآن وغير ذلك من سائر القرآن.
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
{ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم}
تقديره: أن كل من أوتي القرآن العظيم حق له أن لا ينظر إلى الدنيا نظرة باستحلاء، فضلا عن أن يكون له فيها رغبة، وليلزم الشكر على ذلك، فإنها الكرامة التي حرص خليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم أن يمن بها على أبيه فلم يفعل، وحرص حبيبه المصطفى أن يمن بها على عمه أبي طالب فلم يفعل. [منهاج العابدين: 329-330].
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
و {المثاني} من التثنية وهي التكرير؛ لأن الفاتحة مما تكرر قراءتها في الصلاة وغيرها، أو من الثناء لاشتمالها على ما هو ثناء على الله، الواحدة مثناة أو مثنية صفة للآية. وأمّا السور أو الأسباع فلما وقع فيها من تكرير القصص والمواعظ والوعد والوعيد وغير ذلك، ولما فيها من الثناء، كأنها تثني على الله تعالى بأفعاله العظمى وصفاته الحسنى. ويجوز أن يكون كتب الله كلها مثاني، لأنها تثني عليه، ولما فيها من المواعظ المكررة، ويكون القرآن بعضها، فإن قلت: كيف صح عطف القرآن العظيم على السبع، وهل هو إلا عطف الشيء على نفسه؟ قلت: إذا عنى بالسبع الفاتحة أو الطوال، فما وراءهنّ ينطلق عليه اسم القرآن، لأنه اسم يقع على البعض كما يقع على الكل. ألا ترى إلى قوله: {بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هذا القرءان} يعني سورة يوسف: وإذا عنيت الأسباع فالمعنى: ولقد آتيناك ما يقال له السبع المثاني والقرآن العظيم، أي: الجامع لهذين النعتين، وهو الثناء أو التثنية والعظم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما ذكر صفة العلم بصيغة المبالغة، أتبعها ما آتاه في هذه الدار من مادة العلم بصيغة العظمة، فقال عطفاً على ما قدرته مما دل عليه السياق: {ولقد آتيناك} مما يدل على علمنا {سبعاً من المثاني} وهي الفاتحة الجامعة على وجازتها جميع معاني القرآن فتثني في النزول فإنها نزلت مرتين، وتثني في كل ركعة من الصلاة، وهي ثناء على الله والصالحين من عباده، وهي مقسومة بين الله وعبده، وتثني فيه مقاصدها، ويورد كل معنى من معانيها فيه بطرق مختلفة في إيضاح الدلالة عليه في قوالب الألفاظ وجواهر التراكيب الهادية إليه -وغير ذلك من التثنية {والقرآن العظيم} أي الحاوي لجميع علوم الأولين والآخرين مما في جميع الكتب السالفة وغيره.
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
وسر الإخبار بأنها السبع، كون الفاتحة مشتملة على مجمل ما في القرآن. وكل ما فيه تفصيل للأصول التي وضعت فيها...وللأثر الواقف مع ظاهر ما صح من الأخبار، الجازم بأن السبع في الآية هي الفاتحة لظاهر الحديث أن يجيب عن القصر بأن المراد بالمعطوف القرآن بمعنى المقروء، لا بمعنى الكتاب كله. والله أعلم.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
... واذا كان الله قد أعطاه القرآن العظيم مع السبع المثاني كان قد أعطاه أفضل ما يتنافس فيه المتنافسون، وأعظم ما فرح به المؤمنون، {قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون} ولذلك قال بعده:...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والمثاني الأرجح أن المقصود بها آيات سورة الفاتحة السبع -كما ورد في الأثر- فهي تثنى وتكرر في الصلاة، أو يثنى فيها على الله. و القرآن العظيم سائر القرآن. والمهم أن وصل هذا النص بآيات خلق السماوات والأرض وما بينهما بالحق والساعة الآتية لا ريب فيها، يشي بالاتصال بين هذا القرآن والحق الأصيل الذي يقوم به الوجود وتقوم عليه الساعة. فهذا القرآن من عناصر ذلك الحق، وهو يكشف سنن الخالق ويوجه القلوب إليها، ويكشف آياته في الأنفس والآفاق ويستجيش القلوب لإدراكها، ويكشف أسباب الهدى والضلال، ومصير الحق والباطل، والخير والشر والصلاح والطلاح. فهو من مادة ذلك الحق ومن وسائل كشفه وتبيانه. وهو أصيل أصالة ذلك الحق الذي خلقت به السماوات والأرض. ثابت ثبوت نواميس الوجود، مرتبط بتلك النواميس. وليس أمرا عارضا ولا ذاهبا. إنما يبقى مؤثرا في توجيه الحياة وتصريفها وتحويلها، مهما يكذب المكذبون، ويستهزئ المستهزئون، ويحاول المبطلون، الذين يعتمدون على الباطل، وهو عنصر طارئ زائل في هذا الوجود. ومن ثم فإن من أوتي هذه المثاني وهذا القرآن العظيم، المستمد من الحق الأكبر، المتصل بالحق الأكبر.. لا يمتد بصره ولا تتحرك نفسه لشيء زائل في هذه الأرض من أعراضها الزوائل. ولا يحفل مصير أهل الضلال، ولا يهمه شأنهم في كثير ولا قليل. إنما يمضي في طريقه مع الحق الأصيل.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
اعتراض بين جملة {فاصفح الصفح الجميل} [سورة الحجر: 85] وجملة ولقد آتيناك سبعاً} الآية. أتبع التسلية والوعد بالمنّة ليذكر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالنّعمة العظيمة فيطمئن بأنه كما أحسن إليه بالنّعم الحاصلة فهو منجزه الوعود الصادقة. وفي هذا الامتنان تعريض بالردّ على المكذبين. وهو ناظر إلى قوله: {وقالوا يأيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون} إلى قوله تعالى: {وإنا له لحافظون} [سورة الحجر: 9]. فالجملة عطف على الجمل السابقة عطف الغرض على الغرض والقصّة على القصّة. وهذا افتتاح غرض من التنويه بالقرآن والتحقير لعيش المشركين. وإيتاء القرآن: أي إعطاؤه، وهو تنزيله عليه والوحي به إليه. وأوثر فعل {آتيناك} دون (أوحينا) أو (أنزلنا) لأن الإعطاء أظهر في الإكرام والمنّة. وجَعْل {القرآن} معطوفاً على {سبعاً من المثاني} يشعر بأن السبع المثاني من القرآن. وذلك ما درج عليْه جمهور المفسّرين...
وقد وصف القرآن في سورة الزمر (23) بالمثاني في قوله تعالى: {الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني} فتعين أن السبع هي أشياء تجري تسميتها على التأنيث لأنّها أجري عليها اسم عدد المؤنّث. ويتعيّن أن المراد آيات أو سور من القرآن، وأن {مِن} تبعيضية. وذلك أيضاً شأن {مِن} إذا وقعت بعد اسم عدد. وأن المراد أجزاء من القرآن آيات أو سور لها مزية اقتضت تخصيصها بالذكر من بين سائر القرآن، وأنّ المثاني أسماء القرآن كما دلّت عليه آية الزّمر، وكما اقتضته {من} التبعيضية، ولكون المثاني غير السبع مغايرة بالكليّة والجزئية تصحيحاً للعطف.
وإن كان المراد بالسبع سوراً كما هو مروي من قول ابن عباس وكثير من الصّحابة والسّلف واختلفوا في تعيينها بما لا ينثلج له الصدر، فيكون إبهامها مقصوداً لصرف الناس للعناية بجميع ما نزل من سور القرآن كما أبهمت ليلة القدر.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{ولقد آتيناك سبعا من المثاني} أكد الله أن معه الحجة، باللام وقد...
و {المثاني} جمع مثنى أي مكرر لاثنين، كقوله تعالى: {مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء} [فاطر 1]، ومعنى مثاني أن فيه من كل معنى اثنين متقابلين، ففيه الإنذار والتبشير، وكرر ذلك، وفيه الأمر والنهي ويتكرر ذلك، وفيه بيان الحلال والحرام، ويتكرر ذكر ذلك، وفيه الخبر والإنشاء، وفيه القصص الكريم مثنى مثنى وهكذا.هذا تفسير السبع على أنها القرآن الكريم، ويكون عطف القرآن عليها في قوله تعالى: {والقرآن العظيم} من قبيل عطف الصفة على الصفة، ويكون معنى القرآن القروء المتلو الذي يتعبد بتلاوته، فيكون معنى السبع المثاني وصف معانيه، وما اشتمل من أحكام وقصص وزواجر ونواه، وأوامر وتوجيه، ويكون القرآن العظيم المقروء المعجز بألفاظه والعظيم في إعجازه وبتلاوته...وإن معنى العطف يشير إلى أنهما حقيقتان ثابتتان في القرآن، الأولى وهي أنه كتاب التكليف، وسجل الرسالة الإلهية، والثانية أنه حجة بألفاظه وأساليبه، وطرق البيان فيه، إذ فيه التصريف المعجز، كما قال تعالى: {قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون (65)} [الأنعام]. هذا ما اخترنا في معنى السبع المثاني...والذي نراه الحق هو أن السبع المثاني القرآن كله، وتخصيص الفاتحة بالذكر معناه أنها من السبع المثاني التي هي القرآن وكل جزء منه يكون السبع المثاني، إذ كل جزء منه متكامل في ذاته، وهو العليم القدير.
... ونجده سبحانه يصف القرآن بالعظيم؛ وهو سبحانه يحكم بعظمة القرآن على ضوء مقاييسه المطلقة؛ وهي مقاييس العظمة عنده سبحانه. والمثل الآخر على ذلك وصفه سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وإنك لعلى خلقٍ عظيمٍ "4 "} (سورة القلم) وهذا حكم بالمقاييس العليا للعظمة، وهكذا يصبح كل متاع الدنيا أقل مما وهبه الحق سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم، فلا ينظرن أحد إلي ما أعطى غيره؛ فقد وهبه سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم. ونلحظ أن الحق سبحانه قد عطف القرآن على السبع المثاني وهو عطف عام على خاص؛ كما قال الحق سبحانه: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى "238 "} (سورة البقرة) ونفهم من هذا القول أن الصلاة تضم الصلاة الوسطى أيضاً، وكذلك مثل قول الحق ما جاء على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم: {رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمناً وللمؤمنين والمؤمنات "28 "} (سورة نوح) وهكذا نرى عطف عام على خاص، وعطف خاص على عام. أو: أن نقول: إن كلمة" قرآن "تطلق على الكتاب الكريم المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أول آية في القرآن إلي آخر آية فيه، ويطلق أيضاً على الآية الواحدة من القرآن؛ فقول الحق سبحانه: {مدهامتان" 64 "} (سورة الرحمن) وقد أعطى الحق سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم السبع المثاني والقرآن العظيم، وتلك هي قمة العطايا؛ فلله عطاءات متعددة...فإذا كان عطاء الربوبية يتعلق بمعطيات المادة وقوام الحياة؛ فإن عطاءات القرآن تشمل الدنيا والآخرة؛ وإذا كان ما ينغص أي عطاء في الدنيا أن الإنسان يفارقه بالموت، أو أن يذوي هذا العطاء في ذاته؛ فعطاء القرآن لا ينفد في الدنيا والآخرة. ونعلم أن الآخرة لا نهاية لها على عكس الدنيا التي لا يطول عمرك فيها بعمرها، بل بالأجل المحدد لك فيها. وإذا كانت عطاءات القرآن تحرس القيم التي تهبك عطاءات الحياة التي لا تفني وهي الحياة الآخرة؛ فهذا هو أسمى عطاء، وإياك أن تتطلع إلي نعمة موقوتة عند أحد منهم من نعم الدنيا الفانية؛ لأن من أعطى القرآن وظن أن غيره قد أعطى خيراً منه؛ فقد حقر ما عظم الله.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وذكر صاحب الميزان أن المثاني جمع مثنية اسم مفعول من الثني بمعنى اللوي والعطف والإعادة، قال تعالى: {يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} [هود: 5] وسميت الآيات القرآنية مثاني لأن بعضها يوضح حال البعض ويلوي وينعطف عليه، كما يشعر به قوله: {كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ} [الزمر: 23] حيث جمع بين كون الكتاب متشابهاً يشبه بعض آياته بعضاً وبين كون آياته مثاني، وفي كلام النبي (ص) في صفة القرآن: «يصدّق بعضه بعضاً»، وعن علي (ع) فيه: «ينطق بعضه ببعض ويشهد بعضه على بعض»، أو هي جمع مثنى بمعنى التكرير والإعادة، كنايةً عن بيان بعض الآيات ببعض [1]. وقد لا يستطيع الإنسان الجزم بوجهٍ معيّن من هذه الوجوه المحتملة، ما يجعل من الكلمة كلمةً محمّلةً، لا سيّما إذا أردنا تطبيقها على سورة الفاتحة، أو على السور السبع الطوال، فلنترك أمرها لله. {وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} الذي يمثّل الحجة الواضحة، والبرهان القاطع، الذي يوحي بالحق في الفكر والشريعة، وفي المنهج الذي يخطط للإنسان وللحياة، فليكن لك في ذلك الغنى كل الغنى والقوّة كل القوّة، في بناء القاعدة، وفي مواجهة الحياة، وانطلق في طريقك بكل قوّةٍ وثباتٍ.