اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَٰكَ سَبۡعٗا مِّنَ ٱلۡمَثَانِي وَٱلۡقُرۡءَانَ ٱلۡعَظِيمَ} (87)

قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ المثاني } يحتمل أن يكون سبعاً من الآيات ، وأن يكون سبعاً من السُّورِ ، وأن يكون سبعاً من الفوائد ، وليس في اللفظ ما يدلُّ على التَّعيين .

والثاني : صيغة جمع ، واحدة مثناةُ ، والمثناةُ : كل شيءٍ يُثَنَّى ، وأي : يجعل اثنين من قولك : ثَنَيْت الشَّيء ثَنْياً ، أي : عَطفْتهُ ، أو ضممت إليه آخر ، ومنه يقال لرُكْبتَي الدَّابة ومِرْفقَيْهَا مثانِي ؛ لأنها تثنى بالفخذ ، والعضد ؛ ومثاني الوادي معاطفه .

وإذا عرف هذا ، فقوله : { سَبْعاً مِّنَ المثاني } مفهومه سبعة أشياء من جنس الأشياء التي تثنى ، وهذا القدر مجملٌ ، ولا سبيل إلى تعيينه ، إلا بدليلٍ منفصلٍ ، وللنَّاس فيه أقوال :

أحدها : قال عمرُ ، وعليٌّ ، وابن مسعودٍ ، وأبو هريرة ، والحسن ، وأبو العالية ، ومجاهدٌ والضحاك ، وسعيد بن جبير ، وقتادة -رضي الله عنهم- : إنه فاتحة الكتاب{[19624]} .

روى أبو هريرة -رضي الله عنهم- أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ فاتحة الكتاب ، وقال : " هِيَ السَّبْعُ المَثانِي " {[19625]} .

وإنَّما سمِّيت بالسَّبع ؛ لأنها سبعُ آياتٍ ، وفي تسميتها بالمثاني وجوه :

أولها : قال ابن عبَّاس -رضي الله عنهما- والحسن ، وقتادة لا ، ها تثنى في الصلاة ، فتقرأ في كلِّ ركعةٍ{[19626]} .

ثانيها : قال الزجاج : لأنَّها تثنى مع ما يقرأ معها .

وثالثها : لأنها قسمت قسمين : نصفها ثناءُ ، ونصفها دعاءٌ ، كما ورد في الحديث المشهور .

ورابعها : قال الحسين بن الفضل : لأنَّها نزلت مرَّتين ، مرة بمكَّة ، ومرة بالمدينة{[19627]} .

وخامسها : لأنَّ كلماتها مثناة ، مثل : { الرحمان الرحيم مالك يَوْمِ الدين إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهدنا الصراط المستقيم صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضالين } .

وفي قراءة عمر : ( غير المغضوب عليهم وغير الضالين ) .

نقل القاضي عن أبي بكر الأصم أنَّه قال : كان ابن مسعودٍ -رضي الله عنه- لا يكتب في مصحفه فاتحة الكتاب ؛ رأى أنَّها ليست من القرآن{[19628]} .

قال ابن الخطيب : " لعلَّ حجَّته أنه عطف السَّبع المثاني على القرآن والمعطوف مغاير للمعطوف عليه ؛ فوجب أن تكون غير القرآن العظيم " {[19629]} ، ويشكل هذا بقوله : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ } [ الأحزاب : 7 ] ، وكذلك قوله تعالى : { وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] .

وللخَصْم أن يجيب بأنه يجوز أن يذكر الكلَّ ، ثمَّ يعطف عليه ذكر بعض أقسامه لكونه أشرف الأقسام ، وأمَّا إذا ذكر شيءٌ ِآخر كان المذكور أولاً مغايراً للمذكور ثانياً ، وها هنا ذكر سبع المثاني{[19630]} . ثم عطف عليه القرآن فوجب التغاير .

ويجاب عليه : بأنَّ بعض الشَّيء مغاير لمجموعه ، فلم لا يكفي هذا القدر من المغايرة في حسن العطف ؟ .

واعلم أنَّه لمَّا كان المراد بالسَّبع المثاني هو الفاتحة ؛ دلَّ على أنَّها أفضل سور القرآن ، لأن إفرادها بالذِّكر مع كونها جزءاً من القرآن ؛ يدلُّ على مزيد اختصاصها بالفضلية ، وأيضاً : لما أنزلها مرَّتين دلَّ ذلك على أفضليتها ، وشرفها ، ولما واظب رسول الله صلى الله عليه وسلم على قراءتها في جميع الصلوات طول عمره ، وما أقام [ سورة أخرى ]{[19631]} مقامها في شيءٍ من الصلوات ، دل ذلك على وجوب قراءتها ، وألاَّ يقوم شيء من القرآن مقامها .

القول الثاني : السَّبع المثاني : هي السبع الطوال ، قاله ابن عمر ، وسعيد بن جبيرٍ في بعض الروايات عن ابن عباس -رضي الله عنهما{[19632]}- وإنما سميت السبع الطوال مثاني ؛ لأنَّ الفرائض ، والحدود ، والأمثال والخبر ، والعبر ثنيت فيها .

وأنكر الربيع هذا القول ، وقال : الآيةُ مكية ، وأكثر هذه السورة مدنيَّة ، وما نزل منها من شيءٌ في مكَّة ، فكيف تحمل هذه الآية عليها ؟ .

وأجاب قومٌ عن هذا بأنه -تعالى جلَّ ذكره- أنزل القرآن كلَّه إلى سماءِ الدنيا ، ثم أنزل على نبيه منه نجوماً ، فلمَّا أنزله إلى سماءِ الدُّنيا ، وحكم بإنزاله عليه فهو جملة من آتاه ، وإن لم ينزل عليه بعدُ .

وفي هذا الجواب نظرٌ ، فإن قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ المثاني } ذكره في [ معرض ]{[19633]} الامتنان ، وهذا الكلامُ إنَّما يصدق ، إذا وصل ذلك إلى محمَّدٍ -صلوات الله وسلامه عليه- فأمَّا ما لم يصله بعد ، فلا يصدق ذلك عليه .

وأما قوله : إنه لما حكم بإنزاله على محمد ، كان ذلك جارياً مجرى ما نزل عليه ، فضعيف ؛ لأنَّ إقامة ما لم ينزل عليه مقام النَّازل عليه مخالف للظَّاهرِ .

القول الثالث : أنَّ السَّبع المثاني : هو القرآن ، وهو منقولٌ عن ابن عباس -رضي الله عنه- في بعض الروايات ، وهو قول طاوس -رضي الله عنه- لقوله تعالى : { الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ } [ الزمر : 23 ] فوصف كلَّ القرآن بكونه مثاني ؛ لأنه كرَّر فيه دلائل التَّوحيدِ ، والنبوَّة ، والتَّكاليف .

قالوا : وهو ضعيف ؛ لأنه لو كان المراد بالسَّبع المثاني القرآن لكان قوله : { والقرآن العظيم } ، عطفاً على نفسه ، وذلك غير جائزٍ .

وأجيب عنه : بأنه إنَّما حسن العطف فيه لاختلاف اللفظين ؛ كقول الشاعر : [ المتقارب ] .

إلى المْلِكِ القَرْمِ وابْنِ الهُمامِ *** وليْثِ الكَتِيبَةِ في المُزدحَم{[19634]}

واعلم أن هذا ، وإن كان جائزاً إلا أنَّهم أجمعوا على أن الأصل خلافه .

القول الرابع : أنه يجوز أن يكون المراد بالسبع الفاتحة ، وبالمثاني كل القرآن ، ويكون التقدير : ولقد آتيناك سبع آياتٍ هي الفاتحة ، وهي من جملة المثاني الذي هو القرآن ، وهذا عين الأول .

و " مِن " في قوله : " مِنَ المثَانِي " .

قال الزجاج -رحمه الله تعالى- : فيها وجهان :

أحدهما : أن تكون للتبعيض من القرآن ، أي : ولقد آتيناك سبع آياتٍ من جملة الآيات التي يثنى بها على الله ، وآتيناك القرآن العظيم .

ويجوز أن تكون " مِن " صفة ، والمعنى : أتيناك سبعاً هي المثاني ، كقوله تعالى :

{ فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان } [ الحج : 30 ] ، أي اجتنبوا الأوثان ؛ لان بعضها رجس .

قوله : " والقرآن " فيه أوجه :

أحدها : أنه من عطف بعض الصفات على بعض ، أي : الجامع بين هذه النعتين .

الثاني : أنه من عطف العام على الخاص ، إذ المراد بالسَّبع : إمَّا الفاتحة ، أو الطوال ، فكأنه ذكر مرتين بجهة الخصوص ، ثم باندراجه في العموم .

الثالث : أنَّ الواو مقحمة ، وقرئ{[19635]} " وَالقُرآنِ " بالجر عطفاً على : " المَثَانِي " .


[19624]:تقدمت في سورة الفاتحة.
[19625]:تقدم.
[19626]:تقدم.
[19627]:تقدم.
[19628]:ذكره الرازي في "تفسيره" (19/165).
[19629]:سقط من : ب.
[19630]:سقط من: ب.
[19631]:في أ شيئا من القرآن.
[19632]:أخرجه الطبري في "تفسيره' (7/ 533 – 534) عن ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد والضحاك. وأخرجه أبو داود (1/461) رقم (1459) والنسائي في "الكبرى" (6/375) والحاكم (2/355) عن ابن عباس. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
[19633]:في ب: موضع.
[19634]:تقدم.
[19635]:ينظر: البحر المحيط 5/452.