قوله تعالى : { وإذا قيل لهم } . يعني للمنافقين ، وقيل لليهود أي قال لهم المؤمنون .
قوله تعالى : { لا تفسدوا في الأرض } . بالكفر وتعويق الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وقيل معناه لا تكفروا ، والكفر أشد فساداً في الدين .
قوله تعالى : { قالوا إنما نحن مصلحون } . يقولون هذا القول كذباً كقولهم آمنا وهم كاذبون .
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ }
أي : إذا نهي هؤلاء المنافقون عن الإفساد في الأرض ، وهو العمل بالكفر والمعاصي ، ومنه إظهار سرائر المؤمنين لعدوهم وموالاتهم للكافرين { قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } فجمعوا بين العمل بالفساد في الأرض ، وإظهارهم أنه ليس بإفساد بل هو إصلاح ، قلبا للحقائق ، وجمعا بين فعل الباطل واعتقاده حقا ، وهذا أعظم جناية ممن يعمل بالمعصية ، مع اعتقاد أنها معصية{[43]} فهذا أقرب للسلامة ، وأرجى لرجوعه .
وصفة أخرى من صفاتهم - وبخاصة الكبراء منهم الذين كان لهم في أول العهد بالهجرة مقام في قومهم ورياسة وسلطان كعبد الله بن أبي بن سلول - صفة العناد وتبرير ما يأتون من الفساد ، والتبجح حين يأمنون أن يؤخذوا بما يفعلون :
( وإذا قيل لهم : لا تفسدوا في الأرض ، قالوا : إنما نحن مصلحون . ألا إنهم هم المفسدون ، ولكن لا يشعرون ) . .
إنهم لا يقفون عند حد الكذب والخداع ، بل يضيفون اليهما السفه والادعاء : ( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض ) . . لم يكتفوا بأن ينفوا عن أنفسهم الإفساد ، بل تجاوزوه إلى التبجح والتبرير : ( قالوا : إنما نحن مصلحون ) . .
والذين يفسدون أشنع الفساد ، ويقولون : إنهم مصلحون ، كثيرون جدا في كل زمان . يقولونها لأن الموازين مختلة في أيديهم . ومتى اختل ميزان الإخلاص والتجرد في النفس اختلت سائر الموازين والقيم . والذين لا يخلصون سريرتهم لله يتعذر أن يشعروا بفساد أعمالهم ، لأن ميزان الخير والشر والصلاح والفساد في نفوسهم يتأرجح مع الأهواء الذاتية ، ولا يثوب إلى قاعدة ربانية . .
{ وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض } عطف على { يكذبون } أو { يقول } . وما روي عن سلمان رضي الله عنه أن أهل هذه الآية لم يأتوا بعد فلعله أراد به أن أهلها ليس الذين كانوا فقط ، بل وسيكون من بعد من حاله حالهم لأن الآية متصلة بما قبلها بالضمير الذي فيها . والفساد : خروج الشيء عن الاعتدال . والصلاح ضده وكلاهما يعمان كل ضار ونافع .
وكان من فسادهم في الأرض هيج الحروب والفتن بمخادعة المسلمين ، وممالأة الكفار عليهم بإفشاء الأسرار إليهم ، فإن ذلك يؤدي إلى فساد ما في الأرض من الناس والدواب والحرث .
ومنه إظهار المعاصي والإهانة بالدين فإن الإخلال بالشرائع والإعراض عنها مما يوجب الهرج والمرج ويخل بنظام العالم . والقائل هو الله تعالى ، أو الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو بعض المؤمنين . وقرأ الكسائي وهشام ( قيل ) بإشمام الضم الأول .
{ قالوا إنما نحن مصلحون } جواب ل{ إذا } رد للناصح على سبيل المبالغة ، والمعنى أنه لا يصح مخاطبتنا بذلك ، فإن شأننا ليس إلا الإصلاح ، وإن حالنا متمحضة عن شوائب الفساد ، لأن إنما تفيد قصر ما دخلت عليه على ما بعده . مثل : إنما زيد منطلق ، وإنما ينطلق زيد ، وإنما قالوا ذلك : لأنهم تصوروا الفساد بصورة الصلاح لما في قلوبهم من المرض كما قال الله تعالى { أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا } .
َوَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ( 11 )
و { إذا } ظرف زمان ، وحكي عن المبرد أنها في قولك في المفاجأة خرجت فإذا زيد ظرف مكان ، لأنها تضمنت جثة ، وهذا مردود لأن المعنى «خرجت فإذا حضور زيد » فإنما تضمنت المصدر ، كما يقتضيه سائر ظروف الزمان ، ومنه قولهم : «اليوم خمر ، وغداً أمر » فمعناه وجود خمر ووقوع أمر ، والعامل في { إذا } في هذه الآية { قالوا } . وأصل { قيل } قول نقلت حركة الواو إلى القاف فقلبت ياء لانكسار ما قبلها .
وقرأ الكسائي : «قُيل وغُيض وسُيء وسُيئت وحُيل وسُيق وجُيء » بضم أوائل ذلك كله . وروي مثل ذلك عن ابن عامر . وروي أيضاً عنه أنه كسر «غِيض وقِيل وجِيء » ، الغين القاف والجيم حيث وقع من القرآن وضم نافع من ذلك كله حرفين «سُيء وسُيئت » وكسر ما بقي . وكان ابن كثير وعاصم وأبوعمرو وحمزة يكسرون أوائل هذه الحروف كلها ، والضمير في { لهم } هو عائد إلى المنافقين المشار إليهم قبل .
وقال بعض الناس : «الإشارة هنا هي إلى منافقي اليهود » .
وقال سلمان الفارسي رضي الله عنه في تفسير هذه الآية : لم يجىء( {[235]} ) هؤلاء بعد ومعنى قوله : لم ينقرضوا بل هم يجيئون في كل زمان .
و { لا تفسدوا في الأرض } معناه بالكفر وموالاة الكفرة ، و { نحن } اسم من ضمائر المرفوع مبني على الضم ، إذ كان اسماً قوياً يقع للواحد المعظم والاثنين والجماعة ، فأعطي أسنى الحركات .
وأيضاً فلما كان في الأغلب ضمير جماعة ، وضمير الجماعة في الأسماء الظاهرة الواو أعطي الضمة إذ هي أخت الواو ، ولقول المنافقين : { إنما نحن مصلحون } ثلاث تأويلات :
أحدها : جحد أنهم مفسدون وهذا استمرار منهم على النفاق .
والثاني : أن يقروا بموالاة الكفار ويدعون أنها صلاح من حيث هم قرابة توصل .
والثالث : أنهم مصلحون بن الكفار والمؤمنين ، فلذلك يداخلون الكفار .
يظهر لي أن جملة { وإذا قيل لهم } عطف على جملة { في قلوبهم مرض } [ البقرة : 10 ] ؛ لأن قوله : { وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون } إخبار عن بعض عجيب أحوالهم ، ومن تلك الأحوال أنهم قالوا { إنما نحن مصلحون } في حين أنهم مفسدون فيكون معطوفاً على أقرب الجمل الملظة لأحوالهم وإن كان ذلك آيلاً في المعنى إلى كونه معطوفاً على الصلة في قوله : { من يقول آمنا بالله } [ البقرة : 8 ] .
و { إذا } هنا لمجرد الظرفية وليست متضمنة معنى الشرط كما أنها هنا للماضي وليست للمستقبل وذلك كثير فيها كقوله تعالى : { حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر } [ آل عمران : 152 ] الآية . ومن نكت القرآن المغفول عنها تقييد هذا الفعل بالظرف فإن الذي يتبادر إلى الذهن أن محل المذمة هو أنهم يقولون { إنما نحن مصلحون } مع كونهم مفسدين ، ولكن عند التأمل يظهر أن هذا القول يكون قائلوه أجدر بالمذمة حين يقولونه في جواب من يقول لهم { لا تفسدوا في الأرض } فإن هذا الجواب الصادر من المفسدين لا ينشأ إلا عن مرض القلب وأفن الرأي ، لأن شأن الفساد أن لا يخفى ولئن خفي فالتصميم عليه واعتقاد أنه صلاح بعد الإيقاظ إليه والموعظة إفراط في الغباوة أو المكابرة وجهل فوق جهل . وعندي أن هذا هو المقتضى لتقديم الظرف على جملة { قالوا . . . } ، لأنه أهم إذ هو محل التعجيب من حالهم ، ونكت الإعجاز لا تتناهى .
والقائل لهم { لا تفسدوا في الأرض } بعض من وقف على حالهم من المؤمنين الذين لهم اطلاع على شؤونهم لقرابة أو صحبة ، فيخلصون لهم النصيحة والموعظة رجاء إيمانهم ويسترون عليهم خشية عليهم من العقوبة وعلماً بأن النبيء صلى الله عليه وسلم يغضي عن زلاتهم كما أشار إليه ابن عطية . وفي جوابهم بقولهم : { إنما نحن مصلحون } ما يفيد أن الذين قالوا لهم { لا تفسدوا في الأرض } كانوا جازمين بأنهم مفسدون لأن ذلك مقتضى حرف إنما كما سيأتي ويدل لذلك عندي بناء فعل قيل للمجهول بحسب ما يأتي في قوله تعالى : { وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا } [ البقرة : 8 ] ولا يصح أن يكون القائل لهم الله والرسول إذ لو نزل الوحي وبلغ إلى معينين منهم لعلم كفرهم ولو نزل مجملاً كما تنزل مواعظ القرآن لم يستقم جوابهم بقولهم : { إنما نحن مصلحون } .
وقد عَنَّ لي في بيان إيقاعهم الفساد أنه مراتب :
أولها : إفسادهم أنفسهم بالإصرار على تلك الأدواء القلبية التي أشرنا إليها فيما مضى وما يترتب عليها من المذام ويتولد من المفاسد .
الثانية : إفسادهم الناس ببث تلك الصفات والدعوة إليها ، وإفسادُهم أبناءهم وعيالهم في اقتدائهم بهم في مساويهم كما قال نوح عليه السلام :
{ إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا } [ نوح : 27 ] .
الثالث : إفسادهم بالأفعال التي ينشأ عنها فساد المجتمع ، كإلقاء النميمة والعداوة وتسعير الفِتَن وتأليب الأحزاب على المسلمين وإحداث العقبات في طريق المصلحين .
والإفساد فعل ما به الفساد ، والهمزة فيه للجَعْل أي جعل الأشياء فاسدة في الأرض . والفساد أصله استحالة منفعة الشيء النافع إلى مضرة به أو بغيره ، وقد يطلق على وجود الشيء مشتملاً على مضرة ، وإن لم يكن فيه نفع من قبل يقال فسد الشيء بعدَ أن كان صالحاً ويقال فَاسِد إذا وُجد فاسداً من أول وَهلة ، وكذلك يقال أفسد إذا عمَد إلى شيء صالح فأزالَ صلاحه ، ويقال أفسَد إذا أَوْجد فساداً من أول الأمر . والأظهر أن الفساد موضوع للقدر المشترك من المعنيين وليس من الوضع المشترك ، فليس إطلاقه عليهما كما هنا من قبيل استعمال المشترك في معنييه . فالإفساد في الأرض منه تصيير الأشياء الصالحة مضرة كالغش في الأطعمة ، ومنه إزالة الأشياء النافعة كالحَرق والقتل للبرآء ، ومنه إفساد الأنظمة كالفِتن والجور ، ومنه إفساد المساعي كتكثير الجهل وتعليم الدعارة وتحسين الكفر ومناوأة الصالحين المصلحين ، ولعل المنافقين قد أخذوا من ضروب الإفساد بالجميع ، فلذلك حُذف متعلق { تفسدوا } تأكيداً للعموم المستفاد من وقوع في حَيز النفي .
وذُكِر المحل الذي أفسدوا ما يَحْتوي عليه وهو الأرضُ لتفظيع فسادهم بأنه مبثوث في هذه الأرض لأن وقوعه في رقعة منها تشويه لمجموعها . والمراد بالأرض هذه الكرة الأرضية بما تحتوي عليه من الأشياء القابلة للإفساد من الناس والحيوان والنبات وسائر الأنظمة والنواميس التي وضعها الله تعالى لها ، ونظيره قوله تعالى : { وإذا تولى سعي في الأرض ليفسد فيها ويُهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد } [ البقرة : 200 ] .
وقوله تعالى : { قالوا إنما نحن مصلحون } جواب بالنقض فإن الإصلاح ضد الإفساد ، أي جعل الشيء صالحاً ، والصلاح ضد الفساد يقال صلح بعد أن كان فاسداً ويقال صلح بمعنى وجد من أول وهلة صالحاً فهو موضوع للقدر المشترك كما قلنا . وجاءوا بإنما المفيدة للقصر باتفاق أئمة العربية والتفسير ولا اعتداد بمخالفه شذوذاً في ذلك . وأفاد { إنما } هنا قصر الموصوف على الصفة رداً على قول من قال لهم { لا تفسدوا } ، لأن القائل أثبت لهم وصف الفساد إما باعتقاد أنهم ليسوا من الصلاح في شيء أو باعتقاد أنهم قد خلطوا عملاً صالحاً وفاسداً ، فردوا عليهم بقصر القلب ، وليس هو قصراً حقيقياً لأن قصر الموصوف على الصفة لا يكون حقيقياً ولأن حرف إنما يختص بقصر القلب كما في « دلائل الإعجاز » ، واختير في كلامهم حرف ( إنما ) لأنه يخاطب به مخاطب مُصِر على الخطأ كما في « دلائل الإعجاز » وجعلت جملة القصر اسمية لتفيد أنهم جعلوا اتصافهم بالإصلاح أمراً ثابتاً دائماً ، إذ من خصوصيات الجملة الاسمية إفادة الدَّوام .