الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ لَا تُفۡسِدُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ قَالُوٓاْ إِنَّمَا نَحۡنُ مُصۡلِحُونَ} (11)

قوله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ } : الآية . " إذا " ظرفُ زمنٍ مستقبل ويلزمُها معنى الشرطِ غالباً ، ولا تكونُ إلا في الأمرِ المحقق أو المرجَّحِ وقوعُه فلذلك لم تَجْزم إلا في شعر لمخالفتِها أدواتِ الشَرط ، فإنها للأمر المحتمل ، ومن الجزم قولُه :

تَرفعُ لي خِنْدِفٌ واللهُ يَرْفَعُ لي *** ناراً إذا خَمَدَتْ نيرانُهم تَقِدِ

وقال آخر :

واستَغْنِ ما أغناك ربُّك بالغِنى *** تُصِبْكَ خَصَاصةٌ فَتَجَمَّلِ

وقول الآخر :

إذا قَصُرَتْ أسيافُنا كان وصلُها *** خُطانا إلى أعدائِنا فَنُضَارِبِ

فقوله : " فَنُضَارِبِ " مجزومٌ لعطفِه على محلِّ قولِه " كان وصلُها " . وقال الفرزدق :

فقام أبو ليلى إليه ابنُ ظَالمٍ *** وكان إذا ما يَسْلُلِ السيفَ يَضْرِبِ

وقد تكونُ للزمنِ الماضي ك " إذ " ، كما قد تكون إذْ للمستقبل ك " إذا " ، وتكون للمفاجأة أيضاً ، وهل هي حينئذٍ باقيةٌ على زمانيتها أو صارَتْ/ ظرفَ مكانٍ أو حرفاً ؟ ثلاثةُ أقوال ، أصحُّها الأولُ استصحاباً للحالِ ، وهل تتصرَّف أم لا ؟ الظاهرُ عدمُ تَصَرُّفِها ، واستدلَّ مَنْ زعم تصرُّفها بقولِه تعالى في قراءة مَنْ قرأ : { إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ خَافِضَةً رَّافِعَةً إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجّاً } الواقعة : 1-4 ] بنصب { خَافِضَةً رَّافِعَةً } ، فَجَعَلَ " إذا " الأولى مبتدأ والثانيةَ خبرَها ، التقديرُ : وَقْتُ وقوعِ الواقعة وقتُ رَجِّ الأرض ، وبقوله : { حَتَّى إِذَا جَآءُوهَا } [ الزمر : 71 ] { حَتَّى إِذَا كُنتُمْ } [ يونس : 22 ] ، فجعلَ " حتى " حرفَ جر و " إذا " مجرورةً بها ، وسيأتي تحقيقُ ذلك في مواضِعِه . ولا تُضافُ إلا إلى الجملِ الفعليةِ خلافاً للأخفش .

وقولُه تعالى : " قيل " فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ للمفعولِ ، وأصلُه : قُولَ كضُرِبَ فاستُثْقِلت الكسرةُ على الواو ، فَنُقِلَت إلى القافِ بعد سَلْبِ حركتِها ، فَسَكَنَتَ الواوُ بعد كسرةٍ فقُلِبت ياءً ، وهذه أفصحُ اللغاتِ ، وفيه لغةٌ ثانية وهي الإِشمامُ ، والإِشمامُ عبارةٌ عن جَعْلِ الضمةِ بين الضمِ والكسرِ ، ولغةٌ ثالثةٌ وهي إخلاصُ الضم ، نحو : قُوْلَ وبُوعَ ، قال الشاعر :

ليت وهل يَنْفَع شيئاً ليتُ *** ليت شباباً بُوْعَ فاشتريْتُ

وقال آخر :

حُوكَتْ على نِيْرَيْنِ إذ تُحاكُ *** تَخْتَبِطَ الشَّوْكَ ولا تُشَاكُ

وقال الأخفش : " ويجوزُ " قُيْل " بضم القافِ والياءُ " يعني مع الياء لا أنَّ الياءَ تضمُّ أيضاً . وتجيءُ هذه اللغاتُ الثلاثُ في اختار وانقاد ورَدَّ وحَبَّ ونحوها ، فتقول : اختير بالكسرِ والإِشمامِ واختُور ، وكذلك انقيد وانقُود ورُدَّ ورِدَّ ، وأنشدوا :

وما حِلَّ مِنْ جَهْلٍ حُبا حُلَمائِنا *** ولا قائِلُ المعروفِ فينا يُعنَّفُ

بكسر حاء " حِلَّ " وقرئ : " ولو رِدُّوا " بكسر الراء ، والقاعدةُ فيما لم يُسَمَّ فاعلُه أن يُضَمَّ أولُ الفعلِ مطلقاً ، فإن كان ماضياً كُسِر ما قبلَ آخرهِ لفظاً نحو : ضُرِب أو تقديراً نحو : قِيلَ واخْتِير ، وإن كان مضارعاً فُتح لفظاً نحو يُضْرَبُ أو تقديراً نحو : يُقال ويُختار ، وقد يُضَمُّ ثاني الماضي أيضاً إذا افتُتح بتاءِ مطاوعةٍ نحو تُدُحْرج الحجرُ ، وثالثهُ إن افتُتح بهمزةِ وصل نحو : انطُلِق بزيدٍ .

واعلم أن شرطَ جوازِ اللغاتِ الثلاث في قيل وغيض ونحوِهما أَلاَّ يُلْبِسَ ، فإن أَلْبس عُمِل بمقتضى عَدمِ اللَّبْس ، هكذا قال بعضُهم ، وإن كان سيبويه قد أطلقَ جوازَ ذلك ، وأشمَّ الكسائي : { قيل } [ البقرة : 11 ] ، { وغيض } [ هود : 44 ] { وجيء } [ الزمر : 69 ] ، { وحيل بينهم } [ سبأ : 54 ] ، { وسيق الذين } [ الزمر : 71 ] ، { وسيىء بهم } [ هود : 77 ] ، { وسيئت وجوهُ } [ الملك : 27 ] ، وافقه هشام في الجميع ، وابنُ ذكوان في " حيل " وما بعدها ، ونافع في " سيئ " و " سيئَتْ " والباقون بإخلاصِ الكسرِ في الجميع . والإِشمامُ له معانٍ أربعةٌ في اصطلاح القرَّاء سيأتي ذلكَ في " يوسف " إن شاء الله تعالى عند { مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا } [ يوسف : 11 ] فإنه أليقُ به .

و " لهم " جارٌّ ومجرور متعلِّق بقيل ، واللامُ للتبليغ ، و " لا " حرفُ نهي تَجْزِمُ فعلاً واحداً ، " تُفْسِدوا " مجزومٌ بها ، علامةُ جَزْمِه حذفُ النون لأنه من الأمثلةِ الخمسةِ ، و " في الأرضِ " متعلّقٌ به ، والقائمُ مقامَ الفاعل هو الجملةُ من قوله " لا تُفْسِدوا " لأنه هو المقولُ في المعنى ، واختاره أبو القاسم الزمخشري ، والتقديرُ : وإذا قيل لهم هذا الكلامُ أو هذا اللفظُ ، فهو من باب الإِسنادِ اللفظي . وقيل : القائمُ مقام الفاعلِ مضمرٌ تقديرُه : وإذا قيل لهم [ قولٌ ] هو ، ويُفَسِّر هذا المضمَر سياقُ الكلامِ كما فسَّره في قولِه :

{ حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ } [ ص : 32 ] والمعنى : " وإذا قيل لهم قولٌ سَديدٌ " فَأُضْمِر هذا القولُ الموصوفُ ، وجاءَتِ الجملةُ بعده مفسرةً فلا موضعَ لها من الإِعراب ، قال : " فإذا أَمْكَنَ الإِسنادُ المعنويُّ لم يُعْدَل إلى اللفظي ، وقد أمكن ذلك بما تقدَّم " وهذا القولُ سبقه إليه أبو البقاء فإنه قال : " والمفعولُ القائمُ مقامَ الفاعل مصدرٌ وهو القولُ وأُضْمر لأنَّ الجملة بعد تفسِّره ، ولا يجوزُ أن يكونَ " لا تُفْسِدوا " قائماً مقامَ الفاعلِ لأنَّ الجملة لا تكون فاعلةً فلا تقومُ مقامَ الفاعل " . انتهى . وقد تقدَّم جوابُ ذلك مِنْ أنَّ المعنى : وإذا قيل لهم هذا اللفظُ ، ولا يجوزُ أن يكونَ " لهم " قائماً مقامَ الفاعلِ إلا في رأي الكوفيين والأخفشِ ، إذ يجوزُ عندهم إقامةُ غيرِ المفعولِ به مع وجودِه . وتلخَّص مِنْ هذا أنَّ جملةَ قولِه : " لا تُفْسدوا " في محلِّ رفعٍ على قولِ الزمخشري ، ولا محلَّ لها على قول أبي البقاء ومَنْ تبعه . والجملةُ من قوله : " قيل " وما في حيِّزِه في محلِّ خَفْض بإضافةِ الظرفِ إليه . والعاملُ في " إذا " جوابُها عند الجمهور وهو " قالوا " ، والتقدير : قالوا إنما نحن مصلحون وقتَ القائل لهم لا تُفْسدوا ، وقال بعضهم : " والذي نختاره أنَّ الجملةَ/ التي بعدَها وتليها ناصبةٌ لها ، وأنَّ ما بعدها ليس في محلِّ خفض بالإِضافةِ لأنها أداةُ شرط ، فحكمُها حكمُ الظروفِ التي يُجازى بها ، فكما أنك إذا قلتَ : " متى تقمْ أقمْ " كان " متى " منصوباً بفعلِ الشرط فكذلك " إذا " .

قال هذا القائل : " والذي يُفْسد مذهبَ الجمهور جوازُ قولِك : " إذا قمت فعمورٌ قائمٌ " ، ووقوعُ " إذا " الفجائية جواباً لها ، وما بعد الفاء وإذا الفجائية لا يَعْمل ما بعدهما فيما قبلهما . وهو اعتراضٌ ظاهر .

وقوله : { إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } " إنَّ " حرفٌ مكفوفٌ ب " ما " الزائدة عن العمل ، ولذلك تليها الجملةُ مطلقاً ، وهي تفيدُ الحصرَ عند بعضِهم . وأَبْعَدَ مَنْ زعم أن " إنما " مركبة من " إنَّ " التي للإِثبات و " ما " التي للنفي ، وأنَّ بالتركيب حدث معنىً يفيد الحصرَ . واعلم أنَّ " إنَّ " وأخواتِها إذا ولِيَتْها " ما " الزائدةُ بَطَلَ عملُها وذهب اختصاصُها بالأسماء كما مرَّ ، إلا " ليت " فإنه يجُوز فيها الوجهان سماعاً ، وأنشدوا قولَ النابغة :

قالتْ ألا ليتما هذا الحمامَُ لنا *** إلى حمامتِنا ونصفَُهُ فَقَدِ

برفع " الحمام " ونصبه ، فأمَّا إعمالُها فلبقاءِ اختصاصِها ، وأمَّا إهمالُها فلحَمْلِها على أخواتها ، على أنه قد رُوي عن سيبويه في البيت أنها معملةٌ على رواية الرفع أيضاً بأن تَجْعل " ما " موصولةً بمعنى الذي ، كالتي في قوله تعالى : { إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ } [ طه : 69 ] و " هذا " خبرُ مبتدأ محذوف هو العائدُ ، و " الحَمام " نعتٌ ل " هذا " و " لنا " خبر لليت ، وحُذِف العائدُ وإنْ لم تَطُلْ الصلةُ ، والتقدير : ألا ليت الذي هو هذا الحمامُ كائنٌ لنا ، وهذا أَوْلى من أن يُدَّعَى إهمالُها ، لأن المقتضَى للإِعمال -وهو الاختصاصُ- باقٍ . وزعم بعضُهم أن " ما " الزائدةَ إذا اتصلت بإنَّ وأخواتِها جاز الإِعمالُ في الجميع .

و " نحن " مبتدأ ، وهو ضميرٌ مرفوعٌ منفصلٌ للمتكلم ، ومن معه ، أو المعظِّمِ نفسه ، و " مصلحون " خبرُه ، والجملةُ في محلِّ نصبٍ لأنها محكيةٌ بقالوا . والجملة الشرطيةُ وهي قولُه : " وإذا قيلَ لهم " عطفٌ على صلة مَنْ ، وهي " يقولُ " ، أي : ومن الناس مَنْ يقول ، ومن الناس مَنْ إذا قيل لهم لا تُفْسِدوا في الأرض قالوا : . وقيل : يجوز أَنْ تكونَ مستأْنفةً ، وعلى هذين القولين فلا محلَّ لها من الإِعراب لما تقدم ، ولكنها جزءُ كلامٍ على القولِ الأول وكلامٌ مستقل على القول الثاني ، وأجازَ الزمخشري وأبو البقاء أن تكون معطوفةً على " يَكْذِبُون " الواقع خبراً ل " كانوا " ، فيكونَ محلُّها النصبَ . وردَّ بعضُهم عليهما بأنَّ هذا الذي أجازاه على أحدِ وَجْهَي " ما " مِنْ قوله { بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } خطأٌ ، وهو أن تكونَ موصولةً بمعنى الذي ، إذ لا عائدَ فيها يعود على " ما " الموصولةِ ، وكذلك إذا جُعِلت مصدريةً فإنها تفتقرُ إلى العائد عند الأخفش وابن السراج . والجوابُ عن هذا أنهما لا يُجيزان ذلك إلا وهما يعتقدان أن " ما " موصولةٌ حرفيةٌ ، وأمّا مذهبُ الأخفش وابن السراجِ فلا يلزمهما القولُ به ، ولكنه يُشْكِل على أبي البقاء وحدَه فإنه يستضعف كونَ " ما " مصدريةً كما تقدم .