الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ لَا تُفۡسِدُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ قَالُوٓاْ إِنَّمَا نَحۡنُ مُصۡلِحُونَ} (11)

قوله تعالى : { وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون 11 }

" إذا " في موضع نصب على الظرف والعامل فيها " قالوا " ، وهي تؤذن بوقوع الفعل المنتظر . قال الجوهري : " إذا " اسم يدل على زمان مستقبل ، ولم تستعمل إلا مضافة إلى جملة ، تقول : أجيئك إذا أحمر البسر ، وإذا قدم فلان . والذي يدل على أنها اسم وقوعها موقع قولك : آتيك يوم يقدم فلان ، فهي ظرف وفيها معنى المجازاة . وجزاء الشرط ثلاثة : الفعل والفاء وإذا ، فالفعل قولك : إن تأتني آتك . والفاء : إن تأتني فأنا أحسن إليك . وإذا كقوله تعالى : " وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون{[254]} " [ الروم : 36 ] . ومما جاء من المجازاة بإذا في الشعر قول قيس بن الخطيم :

إذا قصرت أسيافنا كان وصلُها *** خُطَانا إلى أعدائنا فنُضَارِبُ{[255]}

فعطف " فنضارب " بالجزم على " كان " لأنه مجزوم ، ولو لم يكن مجزوما لقال : فنضارب ، بالنصب . وقد تزاد على " إذا " " ما " تأكيدا ، فيجزم بها أيضا ، ومنه قول الفرزدق :

فقام أبو ليلى إليه ابنُ ظالمٍ *** وكان إذا ما يسلُلِ السيفَ يضربِ

قال سيبويه : والجيد ما قال كعب بن زهير :

وإذا ما تشاءُ تبعثُ منها *** مغربَ الشمس ناشطا مَذْعُورَا{[256]}

يعني : أن الجيد ألا يجزم بإذا ، كما لم يجزم في هذا البيت . وحكي عن المبرد أنها في قولك في المفاجأة : خرجت فإذا زيد ، ظرف مكان ؛ لأنها تضمنت جُثة . وهذا مردود ؛ لأن المعنى خرجت فإذا حضور زيد ، فإنما تضمنت المصدر كما يقتضيه سائر ظروف الزمان ، ومنه قولهم : " اليوم خمر وغدا أمر " فمعناه وجود خمر ووقوع أمر .

قوله : " قيل " من القول وأصله قَوِل ، نقلت كسرة الواو إلى القاف فانقلبت الواو ياء . ويجوز : " قيلْ لّهم " بإدغام اللام في اللام وجاز الجمع بين ساكنين ، لأن الياء حرف مد ولين . قال الأخفش : ويجوز " قيل " بضم القاف والياء . وقال الكسائي : ويجوز إشمام القاف الضم ليدل على أنه لما لم يسم فاعله ، وهي لغة قيس وكذلك جيء وغيض وحيل وسيق وسيء وسيئت . وكذلك روى هشام عن ابن عباس{[257]} ، وروي{[258]} عن يعقوب . وأشم منها نافع سيء وسيئت خاصة . وزاد ابن ذكوان : حيل وسيق ، وكسر الباقون في الجميع . فأما هذيل وبنو دبير من أسد وبني فقعس فيقولون : " قول " بواو ساكنة .

قوله : " لا تفسدوا " ( لا ) نهي . والفساد ضد الصلاح ، وحقيقته العدول عن الاستقامة إلى ضدها . فسد الشيء فسادا وفسودا ، وهو : فاسد وفسيد . والمعنى في الآية : لا تفسدوا في الأرض بالكفر وموالاة أهله ، وتفريق الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن . وقيل : كانت الأرض قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم فيها الفساد ، ويفعل فيها بالمعاصي ، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم ارتفع الفساد وصلحت الأرض . فإذا عملوا بالمعاصي فقد أفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ، كما قال في آية أخرى : " ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها{[259]} " [ الأعراف : 56 ] .

قوله : " في الأرض " الأرض مؤنثة ، وهي اسم جنس ، وكان حق الواحدة منها أن يقال أرضة ، ولكنهم لم يقولوا . والجمع أرضات ، لأنهم قد يجمعون المؤنث الذي ليست فيه هاء التأنيث بالتاء كقولهم : عُرُسات . ثم قالوا : أرضون فجمعوا بالواو والنون ، والمؤنث لا يجمع بالواو والنون إلا أن يكون منقوصا كثبة وظبة ، ولهم جعلوا الواو والنون عوضا من حذفهم الألف والتاء وتركوا فتحة الراء على حالها ، وربما سكنت . وقد تجمع على أروض . وزعم أبو الخطاب أنهم يقولون : أرض وآراض ، كما قالوا : أهل وآهال . والأراضي أيضا على غير قياس ، كأنهم جمعوا آرُضا . وكل ما سفل فهو أرض . وأرض أريضة ، أي زكية بينة الأراضة . وقد أرِضت بالضم ، أي زكت . قال أبو عمرو : نزلنا أرضا أريضة ، أي معجبة للعين ، ويقال : لا أرض لك ، كما يقال : لا أم لك . والأرض : أسفل قوائم الدابة ، قال حميد يصف فرسا :

ولم يقلب أرضها البَيطارُ *** ولا لحَبْلَيْهِ بها حَبَارُ

أي أثر والأرض : النفضة والرعدة . روى حماد بن سلمة عن قتادة عن عبد الله بن الحارث قال : زلزلت الأرض بالبصرة ، فقال ابن عباس : والله ما أدري أزلزلت الأرض أم بي أرْض ؟ أي أم بي رعدة ، وقال ذو الرمة يصف صائدا :

إذا توجس ركزا من سنابكها *** أو كان صاحب أرض أو به المُومُ{[260]}

والأرض : الزكام . وقد آرضه الله إيراضا ، أي أزكمه فهو مأروض . وفسيل مستأرض ، وودية مستأرضة ( بكسر الراء ) وهو أن يكون له عرق في الأرض ، فأما إذا نبت على جذع النخل فهو الراكب . والإراض ( بالكسر ) : بساط ضخم من صوف أو وبر . ورجل أريض ، أي متواضع خليق للخير . قال الأصمعي يقال : هو آرضهم أن يفعل ذلك ، أي أخلقهم . وشيء عريض أريض إتباع له ، وبعضهم يفرده ويقول : جدي أريض أي سمين .

قوله : " نحن " أصل " نَحْن " نَحُن قلبت حركة الحاء على النون وأسكنت الحاء ، قاله هشام بن معاوية النحوي . وقال الزجاج : " نحن " لجماعة ، ومن علامة الجماعة الواو ، والضمة من جنس الواو ، فلما اضطروا إلى حركة " نحن " لالتقاء الساكنين حركوها بما يكون للجماعة . قال : لهذا ضموا واو الجمع في قوله عز وجل : " أولئك الذين اشتروا الضلالة " [ البقرة : 16 ] وقال محمد بن يزيد : " نحن " مثل قبل وبعد ، لأنها متعلقة بالإخبار عن اثنين وأكثر ، ف " أنا " للواحد " نحن " للتثنية والجمع ، وقد يخبر به المتكلم عن نفسه في قوله : نحن قمنا ، قال الله تعالى : " نحن قسمنا بينهم معيشتهم " [ الزخرف : 32 ] والمؤنث في هذا إذا كانت متكلمة بمنزلة المذكر ، تقول المرأة : قمت وذهبت ، وقمنا وذهبنا ، وأنا فعلت ذاك ، ونحن فعلنا . هذا كلام العرب فاعلم .

قوله تعالى : " مصلحون " اسم فاعل من أصلح . والصلاح : ضد الفساد . وصلح الشيء ( بضم اللام وفتحها ) لغتان ، قال ابن السكيت . والصلوح ( بضم الصاد ) مصدر صلح ( بضم اللام ) ، قال الشاعر :

فكيف بإطراقي إذا ما شتمتني *** وما بعد شتم الوالدين صُلُوحُ

وصلاح من أسماء مكة . والصلح ( بكسر الصاد ) : نهر .

وإنما قالوا ذلك على ظنهم ؛ لأن إفسادهم عندهم إصلاح ، أي أن ممالأتنا للكفار إنما نريد بها الإصلاح بينهم وبين المؤمنين . قاله ابن عباس وغيره .


[254]:راجع ج 14 ص 34
[255]:يقول: إذا قصرت أسيافنا في اللقاء عن الوصول إلى الأقران وصلناها بخطانا مقدمين عليهم حتى تنالهم.
[256]:وصف ناقته بالنشاط والسرعة بعد سير النهار كله، فشبهها في انبعاثها مسرعة بناشط قد ذعر من صائد أو سبع. والناشط: الثور يخرج من بلد إلى بلد، فذلك أوحش له وأذعر.
[257]:في نسخة: "ابن عامر"
[258]:رويس (كزبير) محمد بن المتوكل القارئ، راوي يعقوب ابن إسحاق.
[259]:راجع ج ص 226.
[260]:توجس: تسمع. الركز: الحس والصوت الخفي. سنابكها: حوافرها. الموم: البرسام وهو: الخبل. وقيل: الموم الجدري الكثير المتراكب. ومعناه: أن الصياد يُذْهِبُ نَفسَهُ إلى السماء ويفغر إليها أبدا لئلا يجد الوحش نفسه فينفر. وشبه بالمبرسم أو المزكوم لأن البرسام مفغر والزكام مفغر. (عن اللسان).راجع ج 16 ص 83.