قوله تعالى : { والذين يجتنبون كبائر الإثم } قرأ حمزة والكسائي : كبير الإثم على الواحد هاهنا ، وفي سورة النجم ، وقرأ الآخرون : كبائر بالجمع ، وقد ذكرنا معنى الكبائر في سورة النساء { والفواحش } قال السدي : يعني الزنا . وقال مجاهد ومقاتل : ما يوجب الحسد . { وإذا ما غضبوا هم يغفرون } يحلمون ويكظمون الغيظ ويتجاوزون .
{ وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ } والفرق بين الكبائر والفواحش -مع أن جميعهما كبائر- أن الفواحش هي الذنوب الكبار التي في النفوس داع إليها ، كالزنا ونحوه ، والكبائر ما ليس كذلك ، هذا عند الاقتران ، وأما مع إفراد كل منهما عن الآخر فإن الآخر يدخل فيه .
{ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ } أي : قد تخلقوا بمكارم الأخلاق ومحاسن الشيم ، فصار الحلم لهم سجية ، وحسن الخلق لهم طبيعة حتى إذا أغضبهم أحد بمقاله أو فعاله ، كظموا ذلك الغضب فلم ينفذوه ، بل غفروه ، ولم يقابلوا المسيء إلا بالإحسان والعفو والصفح .
فترتب على هذا العفو والصفح ، من المصالح ودفع المفاسد في أنفسهم وغيرهم شيء كثير ، كما قال تعالى : { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ }
وطهارة القلب ، ونظافة السلوك من كبائر الإثم ومن الفواحش ، أثر من آثار الإيمان الصحيح . وضرورة من ضرورات القيادة الراشدة . وما يبقى قلب على صفاء الإيمان ونقاوته وهو يقدم على كبائر الذنوب والمعاصي ولا يتجنبها . وما يصلح قلب للقيادة وقد فارقه صفاء الإيمان وطمسته المعصية وذهبت بنوره .
ولقد ارتفع الإيمان بالحساسية المرهفة في قلوب العصبة المؤمنة ، حتى بلغت تلك الدرجة التي أشارت إليها المقتطفات السابقة [ ص 77 ] وأهلت الجماعة الأولى لقيادة البشرية قيادة غير مسبوقة ولا ملحوقة . ولكنها كالسهم يشير إلى النجم ليهتدي به من يشاء في معترك الشهوات !
والله يعلم ضعف هذا المخلوق البشري ، فيجعل الحد الذي يصلح به للقيادة ، والذي ينال معه ما عند الله ، هو اجتناب كبائر الإثم والفواحش . لا صغائر الإثم والذنب . وتسعه رحمته بما يقع منه من هذه الصغائر ، لأنه أعلم بطاقته . وهذا فضل من الله وسماحة ورحمة بهذا الإنسان ؛ توجب الحياء من الله ، فالسماحة تخجل والعفو يثير في القلب الكريم معنى الحياء .
( وإذا ما غضبوا هم يغفرون ) . .
وتأتي هذه الصفة بعد الإشارة الخفية إلى سماحة الله مع الإنسان في ذنوبه وأخطائه ، فتحبب في السماحة والمغفرة بين العباد . وتجعل صفة المؤمنين أنهم إذا ما غضبوا هم يغفرون .
وتتجلى سماحة الإسلام مرة أخرى مع النفس البشرية ؛ فهو لا يكلف الإنسان فوق طاقته . والله يعلم أن الغضب انفعال بشري ينبع من فطرته . وهو ليس شراً كله . فالغضب لله ولدينه وللحق والعدل غضب مطلوب وفيه الخير . ومن ثم لا يحرم الغضب في ذاته ولا يجعله خطيئة . بل يعترف بوجوده في الفطرة والطبيعة ، فيعفي الإنسان من الحيرة والتمزق بين فطرته وأمر دينه . ولكنه في الوقت ذاته يقوده إلى أن يغلب غضبه ، وأن يغفر ويعفو ، ويحسب له هذا صفة مثلى من صفات الإيمان المحببة . هذا مع أنه عرف عن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أنه لم يغضب لنفسه قط ، إنما كان يغضب لله ، فإذا غضب لله لم يقم لغضبه شيء . ولكن هذه درجة تلك النفس المحمدية العظيمة ؛ لا يكلف الله نفوس المؤمنين إياها . وإن كان يحببهم فيها . إنما يكتفي منهم بالمغفرة عند الغضب ، والعفو عند القدرة ، والاستعلاء على شعور الانتقام ، ما دام الأمر في حدود الدائرة الشخصية المتعلقة بالأفراد .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم نعتهم فقال: {والذين يجتنبون كبائر الإثم}: كل ذنب يختم بنار.
{والفواحش} ما يقام فيه الحد في الدنيا.
{وإذا ما غضبوا هم يغفرون}، يعني يتجاوزون عن ظلمهم، فيكظمون الغيظ ويعفون.
يحيى: عن مالك، عن ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله علمني كلمات أعيش بهن ولا تكثر علي فأنسى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تغضب"...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وما عند الله للذين آمنوا "وَالّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الإثْمِ"، وكبائر فواحش الإثم، قد بيّنا اختلاف أهل التأويل فيها وبيّنا الصواب من القول عندنا فيها في سورة النساء، فأغنى ذلك عن إعادته ها هنا. وَالفَوَاحِش قيل: إنها الزنى...
وقوله: "وَإذَا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ "يقول تعالى ذكره: وإذا ما غضبوا على من اجترم إليهم جرما، هم يغفرون لمن أجرم إليهم ذنبه، ويصفحون عنه عقوبة ذنبه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{والذين يجتنبون كبائر الإثم} هي الفواحش {والفواحش} هي كبائر الإثم، كل واحد منهما في معنى الآخر، والله أعلم.
وقال بعضهم: {كبائر الإثم} أنواع: ما بها يصير المرء مُشركا، وهي كبائر الشرك، وقيل: الكبيرة ما يكبُر، ويعظم من الذنب، والفاحشة ما يفحش من العمل..
{وإذا ما غضبوا هم يغفرون} أي إذا غضبوا هم مما يرجع إلى الأموال والأنفس وأمر الدنيا يغفرون، ويتجاوزون عن ذلك.
فأما ما يُرجع ذلك الغضب إلى أمر الدين فإنه لا يسع المغفرة عن ذلك ولكن يجب الرجوع والتوبة إلى الله...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
العفو المراد في الآية هو ما يتعلق بالإساءة إلى نفوسهم الذي لهم الاختصاص بها فمتى عفوا عنها كانوا ممدوحين. فأما ما يتعلق بحدود الله ووجوب حدوده فليس للإمام تركها ولا العفو عنها، ولا يجوز له أن يعفو عن المرتد وعمن يجري مجراه.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{كَبَائِرَ الإِثْمِ}: الشِرْك. و {وَالْفَوَاحِشَ}: ما دون ذلك من الزلاَّت...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} أي: سجيتهم وخلقهم وطبعهم تقتضي الصفح والعفو عن الناس، ليس سجيتهم الانتقام من الناس. وقد ثبت في الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما انتقم لنفسه قط، إلا أن تنتهك حرمات الله.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان كل من الإيمان والتوكل امراً باطناً فكان لا بد من دلائله من ظواهر الأعمال، وكانت تخليات من الرذائل وتحليات بالفضائل وكانت التخليات لكونها درء للمفاسد مقدمة على التحليات التي هي جلب للمصالح قال عاطفاً على {الذين}:
{والذين يجتبنون} أي يكلفون أنفسهم أن يحابوا.
{كبائر الإثم} أي جنس الفعال الكبار التي لا توجد إلا ضمن أفرادها ويحصل بها دنس للنفس، فيوجب عقاباً لها مع الجسم، وعطف على {كبائر} قوله:
{والفواحش} وهي ما أنكره الشرع والعقل والطبع التي هي آيات الله الثلاث التي نصبها حجة على عباده وله الحجة البالغة.
{وإذا} وأكد بقوله: {ما} وقدم الغضب إشارة إلى الاهتمام بإطفاء جمره وتبريد حره فقال: {غضبوا} أي غضباً هو على حقيقته من أمر مغضب في العادة، وبين بضمير الفصل أن بواطنهم في غفرهم كظواهرهم فقال: {هم يغفرون} أي الإحصاء والإخفاء بأنهم كلما تجدد لهم غضب جددوا غفراً أي محواً للذنب عيناً وأثراً مع القدرة على الانتقام فسجاياهم تقتضي الصفح دون الانتقام ما لم يكن من الظالم بغي لأنه لا يؤاخذ على مجرد الغضب إلا متكبر، والكبر لا يصلح لغير الإله وذلك لأنه لا يغيب أحلامهم عند اشتداد الأمر ما يغيب أحلام غيرهم من طيش الجهل وسفاهة الرأي، فدل ذلك على أن الغفر دون غضب لا يعد بالنسبة إلى الغفر معه، وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم ما انتقم لنفسه قط إلا أن تنتهك حرمات الله، وروى ابن أبي حاتم عن إبراهيم قال: كان المؤمنون يكرهون أن يستذلوا وكانوا أذا قدروا عفوا.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
طهارة القلب، ونظافة السلوك من كبائر الإثم ومن الفواحش، أثر من آثار الإيمان الصحيح. وضرورة من ضرورات القيادة الراشدة. وما يبقى قلب على صفاء الإيمان ونقاوته وهو يقدم على كبائر الذنوب والمعاصي ولا يتجنبها، وما يصلح قلب للقيادة وقد فارقه صفاء الإيمان وطمسته المعصية وذهبت بنوره. ولقد ارتفع الإيمان بالحساسية المرهفة في قلوب العصبة المؤمنة، حتى بلغت تلك الدرجة التي أشارت إليها المقتطفات السابقة [ص 77] وأهلت الجماعة الأولى لقيادة البشرية قيادة غير مسبوقة ولا ملحوقة، ولكنها كالسهم يشير إلى النجم ليهتدي به من يشاء في معترك الشهوات!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
أُتبع الموصول السابق بموصولات معطوفٍ بعضُها على بعض كما تعطف الصفات للموصوف الواحد، فكذلك عطف هذه الصلات وموصولاتها أصحابها متحدون وهم الذين آمنوا بالله وحده وقد تقدم نظيره عند قوله تعالى: {الذين يؤمنون بالغيب} [البقرة: 3] ثم قوله: {والذين يؤمنون بما أنزل إليك} الآية في سورة البقرة (4).
والمقصود من ذلك: هو الاهتمام بالصلات فيكرر الاسم الموصول لتكون صلتُه معتنى بها حتى كأنَّ صاحبها المتّحد منزَّلٌ منزلة ذوات. فالمقصود: ما عند الله خير وأبقى للمؤمنين الذين هذه صفاتهم، أي أتْبَعوا إيمانهم بها. وهذه صفات للمؤمنين باختلاف الأحوال العارضة لهم فهي صفات متداخلة قد تجتمع في المؤمن الواحد إذا وُجدت أسبابها وقد لا تجتمع إذا لم توجد بعض أسبابها مثل {وأمرُهم شورى بينهم} (38).
وقرأ الجمهور {كبائر} بصيغة الجمع. وقرأه حمزة والكسائي وخلَف {كَبِير} بالإفراد، فكبائر الإثم الفعلات الكبيرة من جنس الإثم وهي الآثام العظيمة التي نهى الشرع عنها نهياً جازماً، وتوعد فاعلَها بعقاب الآخرة مثل القذف والاعتداء والبغي. وعلى قراءة {كبيرة الإثم} مراد به معنى كبائر الإثم لأن المفرد لما أضيف إلى معرَّف بلام الجنس من إضافة الصفةِ إلى الموصوف كان له حكم ما أضيف هو إليه.
و {الفواحش}: جمع فاحشة، وهي: الفعلة الموصوفة بالشناعة والتي شدد الدِّين في النهي عنها وتوعّد عليها بالعذاب أو وضعَ لها عقوبات في الدنيا للذي يُظهر عليه من فاعليها. وهذه مثل قتل النفس والزنا والسرقة والحرابة. وتقدّم عند قوله: {وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا} في سورة الأعراف (28).
وكبائر الإثم والفواحش قد تدعو إليها القوة الشاهية. ولما كان كثير من كبائر الإثم والفواحش متسبباً على القوة الغضبية مثل القتل والجراح والشتم والضرب أعقب الثناء على الذين يجتنبونها، فذكر أن من شيمتهم المغفرة عند الغضب، أي إمساك أنفسهم عن الاندفاع مع داعية الغضب فلا يغول الغضب أحلامهم.
وجيء بكلمة {إذَا} المضمنة معنى الشرط والدالّة على تحقق الشرط؛ لأن الغضب طبيعة نفسية لا تكاد تخلو عنه نفس أحد على تفاوت. وجملة {وإذا ما غضبوا هم يغفرون} عطف على جملة الصلة.
وقدم المسند إليه على الخبر الفعلي في جملة {هم يغفرون} لإفادة التقوّي.
وتقييد المسند ب {إذا} المفيدة معنى الشرط للدّلالة على تكرر الغفران كلما غضبوا.
والمقصود من هذا معاملة المسلمين بعضِهم مع بعض فلا يعارضه قوله الآتي {والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون} [الشورى: 39] لأن ذلك في معاملتهم مع أعداء دينهم.
معنى {يَجْتَنِبُونَ..} أي: يبتعدون عن الأسباب المؤدية إلى {كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ..} الكبائر هي الذنوب الكبيرة التي توعَّد اللهُ فاعلها وجعل لها عقوبة. والفواحش كل ما عظُم فُحْشه وقُبْحه، وهذه كلها ذنوب تُوجب إقامة الحدِّ على فاعلها.
وسبق أنْ قلنا: إن مواكب الرسل المختلفة اتفقتْ في تحريم هذه الكبائر، وحثَّتْ الجوارح النفسية أنْ تتبرأ من عيوبها، فالقلب يتبرأ من الشرك ومن الإصرار على المعصية، وألاَّ يأمن مكر الله، وألاَّ ييأس من رحمة الله.
واللسان يبرأ من شهادة الزور وقوْل الزور وقَذْف المحصنات واليمين الغمُوس الذي يُغمس صاحبه في النار، وهو الحلف كذباً على شيء حصل في الماضي، وهذا اليمين ليس له كفارة، لكن إنْ حلف على شيء في المستقبل، وظهر له ما هو أفضل يسمح الله له إنْ يأتي الأفضل ويُكفِّر عن يمينه.
كذلك البطن تبرأ من شرب الخمر وأكْل مال اليتيم وأكْل الربا. والفَرْج يبرأ من كل اتصال لا يحلّ، واليد تبرأ من السرقة والقتل، والرِّجْل تبرأ من التولِّي يوم الزحف. وفوق هذا كله تبرأ كلُّ هذه الجوارح من عقوق الوالدين.
وقوله تعالى: {وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ} الغضب فوران الغريزة الغضبية من شيء أغضبك أو أتعبك، وهذا الشيء حدث من شخص ما فتتولد لديك رغبة الانتقام أو مشاعر الحقد والحسد نحوه.
فالحق سبحانه يُعلِّمنا كيف نغفر ونعفو ونصفح، وإذا كنتَ تحب أن يغفر لك فاغفر لمَنْ أساء إليك، وإذا تأملنا أحوال الناس نلاحظ أن عاقبة الصفح والغفران حميدة، وعاقبة البطش والانتقام وخيمة.
لذلك الحق سبحانه وتعالى يرشدنا إلى أن نأخذ جانب العفو، ونحذر سَوْرة الغضب، وألاَّ ننساق معها، وألاَّ نتجاوز الحدود حين تأخذنا هذه السَّوْرة حتى في مسألة القصاص: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى..} [البقرة: 178].
فبعد أنْ يُشرع لنا القصاص يُذكّرنا بما هو أَوْلَى بنا وأرشد وهو العفو {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ..} [البقرة: 178] فشرع القصاص ليحفظ الحق لصاحبه، ثم فتح باب العفو.
لذلك نجد الدين يمنع أي شخص أنْ يشفع في حَدّ من حدود الله إلا القتل تجوز فيه الشفاعة، لأن وليَّ المقتول حين يعفو عن القاتل يُفشي الودَّ في المجتمع، ويصير القاتل مُداناً له لأنه يعلم أن روحه رَهْن بهذا العفو.
واقرأ قول الله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 34-35].
هذه حقيقة يقررها الخالق سبحانه وهو أعلم بعباده، لذلك نجد البعض في هذه المسألة يقول لك: والله أنا دفعتُ بالتي هي أحسن دون فائدة، نقول له: عليك أنْ تراجع نفسك ومدى صِدْقك في تصرفاتك، فأنت تظن أنك دفعتَ بالتي هي أحسن، لكن الواقع غير ذلك، فأنت تجرِّب مع الله والتجربة مع الله شكٌّ، فلو صدقتَ لصدقتْ الآية معك...
ثم تأمل لماذا أكَّدتْ الآية الفاعل في {يَغْفِرُونَ} بذكر الضمير المنفصل (هم)؟ فقال تعالى: {وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ} قال: هم ليؤكد أنهم أصحاب القرار، فالغفران منهم هم، ليس مجاملة لأحد، ولا إجباراً من أحد، لأنك قد ترسل لصاحب الحق مَنْ يشفع لك عنده، فحين يغفر صاحب الحق يكون الجميل للشافع، فلماذا إذن تحرم نفسك الثواب، لماذا لا تجعلها لك خالصة؟
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
هذه الآيات استمرار للبحث الوارد في الآيات السابقة بخصوص الأجر الإلهي للمؤمنين المتوكلين.
فبعد ذكر الإيمان والتوكل اللذين لهما طبيعة قلبية، تشير هذه الآيات إلى سبعة أنواع من البرامج العملية للصفتين السابقتين سواء كانت إيجابية أو سلبية، فردية أو اجتماعية، مادية أو معنوية، وهذه البرامج توضح أسس المجتمع الصالح والحكومة الصالحة القوية.
والملفت للنظر أنّ هذه الآيات نزلت في مكّة كما يظهر وفي ذلك اليوم لم يكن قد تأسس المجتمع الإسلامي بعد، ولم يكن هناك وجود للحكومة الإسلامية، إلاّ أن هذه الآيات أعطت التفكير الإسلامي الصحيح في هذا الخصوص منذ ذلك اليوم، حيث كان الرّسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) يعلّمهم ويربّيهم لغرض الاستعداد لبناء المجتمع الإسلامي في المستقبل.
فأوّل صفة تبدأ من التطهير حيث تقول الآية أن الثواب الإلهي العظيم سوف يكون من نصيب المؤمنين المتوكلين: (والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش).
وعلى هذا الأساس فإنّ أوّل علائم الإيمان والتوكل هو الاجتناب عن (الكبائر)، فكيف يمكن للإنسان أن يدعي الإيمان والتوكل على الخالق، في حين أنّه مصاب بأنواع الذنوب وقلبه وكر من أوكار الشيطان؟!
ثاني صفة، والتي لها طبيعة تطهيرية أيضاً، فهي السيطرة على النفس عند الغضب الذي يعتبر من أشدّ حالات الإنسان حيث تقول الآية: (وإذا ما غضبوا هم يغفرون).
فهؤلاء لا يفقدون السيطرة على أنفسهم عند الغضب ولا يرتكبون الجرائم عنده، والأكثر من ذلك غسل قلوبهم وقلوب الآخرين من الحقد بواسطة مياه العفو والغفران.
وهذه الصفة لا تتوفر إلاّ في ظل الإيمان الحقيقي والتوكل على الحق.
والطريف في الأمر أن الآية لا تقول: إنّهم لا يغضبون، لأنّ الغضب من طبيعة الإنسان، وهناك ضرورة له في بعض الأحيان خاصةً عندما يكون لله وفي طريق إحقاق الحق، بل تقول: إنّهم لا يلوثون أنفسهم بالذنب عند الغضب، وبكل بساطة يعفون ويغفرون، ويجب أن يكونوا هكذا، فكيف يمكن للإنسان أن ينتظر العفو الإلهي في حين أن أعماقه مليئة بالحقد وحب الانتقام، ولا يعترف بأي قانون عند الغضب؟ وإذا شاهدنا التأكيد على الغضب هنا، فذلك لأنّ هذه الحالة كالنار الحارقة التي تلتهب في داخل أعماق الإنسان، وهناك الكثيرون الذين لا يستطيعون ضبط أنفسهم في تلك الحالة، إلاّ أن المؤمنين الحقيقيين لا يستسلمون أبداً للغضب.