معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَوَصَّيۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيۡهِ إِحۡسَٰنًاۖ حَمَلَتۡهُ أُمُّهُۥ كُرۡهٗا وَوَضَعَتۡهُ كُرۡهٗاۖ وَحَمۡلُهُۥ وَفِصَٰلُهُۥ ثَلَٰثُونَ شَهۡرًاۚ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُۥ وَبَلَغَ أَرۡبَعِينَ سَنَةٗ قَالَ رَبِّ أَوۡزِعۡنِيٓ أَنۡ أَشۡكُرَ نِعۡمَتَكَ ٱلَّتِيٓ أَنۡعَمۡتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَٰلِدَيَّ وَأَنۡ أَعۡمَلَ صَٰلِحٗا تَرۡضَىٰهُ وَأَصۡلِحۡ لِي فِي ذُرِّيَّتِيٓۖ إِنِّي تُبۡتُ إِلَيۡكَ وَإِنِّي مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِينَ} (15)

قوله عز وجل : { ووصينا الإنسان بوالديه حسناً } قرأ أهل الكوفة : إحسانا كقوله تعالى : { وبالوالدين إحسانا } ( البقرة-83 ) { حملته أمه كرهاً ووضعته كرهاً } يريد شدة الطلق . قرأ أهل الحجاز وأبو عمرو { كرهاً } بفتح الكاف فيهما ، وقرأ الآخرون بضمها . { وحمله وفصاله } فطامه ، وقرأ يعقوب : { وفصله } بغير ألف ، { ثلاثون شهراً } يريد أقل مدة الحمل ، وهي ستة أشهر ، وأكثر مدة الرضاع أربعة وعشرون شهراً . وروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه قال : إذا حملت المرأة تسعة أشهر أرضعت إحدى وعشرين شهراً ، وإذا حملت ستة أشهر أرضعت أربعة وعشرين شهراً : { حتى إذا بلغ أشده } نهاية قوته ، وغاية شبابه واستوائه ، وهو ما بين ثماني عشرة سنة إلى أربعين سنة ، فذلك قوله : { وبلغ أربعين سنةً } وقال السدي والضحاك : نزلت في سعد بن أبي وقاص ، وقد مضت القصة . وقال الآخرون : نزلت في أبي بكر الصديق وأبيه أبي قحافة عثمان ابن عمرة ، وأمه أم الخير بنت صخر بن عمر وقال علي بن أبي طالب : الآية نزلت في أبي بكر ، أسلم أبواه جميعاً ، ولم يجتمع لأحد من المهاجرين أبواه غيره ، أوصاه الله بهما ، ولزم ذلك من بعده . وكان أبو بكر صحب النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثماني عشرة سنةً ، والنبي صلى الله عليه وسلم ابن عشرين سنة ، في تجارة إلى الشام ، فلما بلغ أربعين سنة ونبئ النبي صلى الله عليه وسلم آمن به ودعا ربه . { فقال رب أوزعني } ألهمني ، { أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي } بالهداية والإيمان ، { وأن أعمل صالحاً ترضاه } قال ابن عباس : وأجابه الله عز وجل ، فأعتق تسعة من المؤمنين يعذبون في الله ولم يرد شيئاً من الخير إلا أعانه الله عليه ، ودعا أيضاً فقال : { وأصلح لي في ذريتي } فأجابه الله ، فلم يكن له ولد إلا آمنوا جميعاً ، فاجتمع له إسلام أبويه وأولاده جميعاً ، فأدرك أبو قحافة النبي صلى الله عليه وسلم ، وابنه أبو بكر وابنه عبد الرحمن بن أبي بكر وابن عبد الرحمن أبو عتيق كلهم أدركوا النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يكن ذلك لأحد من الصحابة . { إني تبت إليك وإني من المسلمين } .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَوَصَّيۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيۡهِ إِحۡسَٰنًاۖ حَمَلَتۡهُ أُمُّهُۥ كُرۡهٗا وَوَضَعَتۡهُ كُرۡهٗاۖ وَحَمۡلُهُۥ وَفِصَٰلُهُۥ ثَلَٰثُونَ شَهۡرًاۚ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُۥ وَبَلَغَ أَرۡبَعِينَ سَنَةٗ قَالَ رَبِّ أَوۡزِعۡنِيٓ أَنۡ أَشۡكُرَ نِعۡمَتَكَ ٱلَّتِيٓ أَنۡعَمۡتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَٰلِدَيَّ وَأَنۡ أَعۡمَلَ صَٰلِحٗا تَرۡضَىٰهُ وَأَصۡلِحۡ لِي فِي ذُرِّيَّتِيٓۖ إِنِّي تُبۡتُ إِلَيۡكَ وَإِنِّي مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِينَ} (15)

{ 15-16 } { وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ }

هذا من لطفه تعالى بعباده وشكره للوالدين أن وصى الأولاد وعهد إليهم أن يحسنوا إلى والديهم بالقول اللطيف والكلام اللين وبذل المال والنفقة وغير ذلك من وجوه الإحسان .

ثم نبه على ذكر السبب الموجب لذلك فذكر ما تحملته الأم من ولدها وما قاسته من المكاره وقت حملها ثم مشقة ولادتها المشقة الكبيرة ثم مشقة الرضاع وخدمة الحضانة ، وليست المذكورات مدة يسيرة ساعة أو ساعتين ،

وإنما ذلك مدة طويلة قدرها { ثَلَاثُونَ شَهْرًا } للحمل تسعة أشهر ونحوها والباقي للرضاع هذا هو الغالب .

ويستدل بهذه الآية مع قوله : { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } أن أقل مدة الحمل ستة أشهر لأن مدة الرضاع -وهي سنتان- إذا سقطت منها السنتان بقي ستة أشهر مدة للحمل ، { حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ } أي : نهاية قوته وشبابه وكمال عقله ، { وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي } أي : ألهمني ووفقني { أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ } أي : نعم الدين ونعم الدنيا ، وشكره بصرف النعم في طاعة مسديها وموليها ومقابلته منته بالاعتراف والعجز عن الشكر والاجتهاد في الثناء بها على الله ، والنعم على الوالدين نعم على أولادهم وذريتهم لأنهم لا بد أن ينالهم منها ومن أسبابها وآثارها ، خصوصا نعم الدين فإن صلاح الوالدين بالعلم والعمل من أعظم الأسباب لصلاح أولادهم .

{ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ } بأن يكون جامعا لما يصلحه سالما مما يفسده ، فهذا العمل الذي يرضاه الله ويقبله ويثيب عليه . { وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي } لما دعا لنفسه بالصلاح دعا لذريته أن يصلح الله أحوالهم ، وذكر أن صلاحهم يعود نفعه على والديهم لقوله : { وَأَصْلِحْ لِي }

{ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ } من الذنوب والمعاصي ورجعت إلى طاعتك { وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ }

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَوَصَّيۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيۡهِ إِحۡسَٰنًاۖ حَمَلَتۡهُ أُمُّهُۥ كُرۡهٗا وَوَضَعَتۡهُ كُرۡهٗاۖ وَحَمۡلُهُۥ وَفِصَٰلُهُۥ ثَلَٰثُونَ شَهۡرًاۚ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُۥ وَبَلَغَ أَرۡبَعِينَ سَنَةٗ قَالَ رَبِّ أَوۡزِعۡنِيٓ أَنۡ أَشۡكُرَ نِعۡمَتَكَ ٱلَّتِيٓ أَنۡعَمۡتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَٰلِدَيَّ وَأَنۡ أَعۡمَلَ صَٰلِحٗا تَرۡضَىٰهُ وَأَصۡلِحۡ لِي فِي ذُرِّيَّتِيٓۖ إِنِّي تُبۡتُ إِلَيۡكَ وَإِنِّي مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِينَ} (15)

15

ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا . .

فهي وصية لجنس الإنسان كله ، قائمة على أساس إنسانيته ، بدون حاجة إلى أية صفة أخرى وراء كونه إنسانا . وهي وصية بالإحسان مطلقة من كل شرط ومن كل قيد . فصفة الوالدية تقتضي هذا الإحسان بذاتها ، بدون حاجة إلى أية صفة أخرى كذلك . وهي وصية صادرة من خالق الإنسان ، وربما كانت خاصة بهذا الجنس أيضا . فما يعرف في عالم الطير أو الحيوان أو الحشرات وما إليها أن صغارها مكلفة برعاية كبارها . والمشاهد الملحوظ هو فقط تكليف فطرة هذه الخلائق أن ترعى كبارها صغارها في بعض الأجناس . فهي وصية ربما كانت خاصة بجنس الإنسان .

وتتكرر في القرآن الكريم وفي حديث الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] الوصية بالإحسان إلى الوالدين . ولا ترد وصية الوالدين بالأولاد إلا نادرة ، ولمناسبة حالات معينة . ذلك أن الفطرة وحدها تتكفل برعاية الوالدين للأولاد ، رعاية تلقائية مندفعة بذاتها لا تحتاج إلى مثير . وبالتضحية النبيلة الكاملة العجيبة التي كثيرا ما تصل إلى حد الموت - فضلا على الألم - بدون تردد ، ودون انتظار عوض ، ودون من ولا رغبة حتى في الشكران ! أما الجيل الناشيء فقلما يتلفت إلى الخلف . قلما يتلفت إلى الجيل المضحي الواهب الفاني . لأنه بدوره مندفع إلى الأمام ، يطلب جيلا ناشئا منه يضحي له بدوره ويرعاه ! وهكذا تمضي الحياة !

والإسلام يجعل الأسرة هي اللبنة الأولى في بنائه ؛ والمحضن الذي تدرج فيه الفراخ الخضر وتكبر ؛ وتتلقى رصيدها من الحب والتعاون والتكافل والبناء . والطفل الذي يحرم من محضن الأسرة ينشأ شاذا غير طبيعي في كثير من جوانب حياته - مهما توفرت له وسائل الراحة والتربية في غير محيط الأسرة - وأول ما يفقده في أي محضن آخر غير محضن الأسرة ، هو شعور الحب . فقد ثبت أن الطفل بفطرته يحب أن يستأثر وحده بأمه فترة العامين الأولين من حياته . ولا يطيق أن يشاركه فيها أحد . وفي المحاضن الصناعية لا يمكن أن يتوفر هذا . إذ تقوم الحاضنة بحضانة عدة أطفال ، يتحاقدون فيما بينهم ، على الأم الصناعية المشتركة ، وتبذر في قلوبهم بذرة الحقد فلا تنمو بذرة الحب أبدا . كذلك يحتاج الطفل إلى سلطة واحدة ثابتة تشرف عليه فترة من حياته كي يتحقق له ثبات الشخصية . وهذا ما لا يتيسر إلا في محضن الأسرة الطبيعي . فأما في المحاضن الصناعية فلا تتوفر السلطة الشخصية الثابتة لتغير الحاضنات بالمناوبة على الأطفال . فتنشأ شخصياتهم مخلخلة ، ويحرمون ثبات الشخصية . . والتجارب في المحاضن تكشف في كل يوم عن حكمة أصيلة في جعل الأسرة هي اللبنة الأولى في بناء المجتمع السليم ، الذي يستهدف الإسلام إنشاءه على أساس الفطرة السليم .

ويصور القرآن هنا تلك التضحية النبيلة الكريمة الواهبة التي تتقدم بها الأمومة ، والتي لا يجزيها أبدا إحسان من الأولاد مهما أحسنوا القيام بوصية الله في الوالدين :

( حملته أمه كرها ، ووضعته كرها ، وحمله وفصاله ثلاثون شهرا ) . .

وتركيب الألفاظ وجرسها يكاد يجسم العناء والجهد والضنى والكلال : ( حملته أمه كرها . ووضعته كرها ) . . لكأنها آهة مجهد مكروب ينوء بعبء ويتنفس بجهد ، ويلهث بالأنفاس ! إنها صورة الحمل وبخاصة في أواخر أيامه ، وصورة الوضع وطلقه وآلامه !

ويتقدم علم الأجنة فإذا به يكشف لنا في عملية الحمل عن جسامة التضحية ونبلها في صورة حسية مؤثرة . .

إن البويضة بمجرد تلقيحها بالخلية المنوية تسعى للالتصاق بجدار الرحم . وهي مزودة بخاصية أكالة . تمزق جدار الرحم الذي تلتصق به وتأكله ؛ فيتوارد دم الأم إلى موضعها ، حيث تسبح هذه البويضة الملقحة دائما في بركة من دم الأم الغني بكل ما في جسمها من خلاصات ؛ وتمتصه لتحيا به وتنمو . وهي دائمة الأكلان لجدار الرحم . دائمة الامتصاص لمادة الحياة . والأم المسكينة تأكل وتشرب وتهضم وتمتص ، لتصب هذا كله دما نقيا غنيا لهذه البويضة الشرهة النهمة الأكول ! وفي فترة تكوين عظام الجنين يشتد امتصاصه للجير من دم الأم فتفتقر إلى الجير . ذلك أنها تعطي محلول عظامها في الدم ليقوم به هيكل هذا الصغير ! وهذا كله قليل من كثير !

ثم الوضع ، وهو عملية شاقة ، ممزقة ، ولكن آلامها الهائلة كلها لا تقف في وجه الفطرة ولا تنسي الأم حلاوة الثمرة . ثمرة التلبية للفطرة ، ومنح الحياة نبتة جديدة تعيش ، وتمتد . . بينما هي تذوي وتموت !

ثم الرضاع والرعاية . حيث تعطي الأم عصارة لحمها وعظمها في اللبن ، وعصارة قلبها وأعصابها في الرعاية . وهي مع هذا وذلك فرحة سعيدة رحيمة ودود . لا تمل أبدا ولا تكره تعب هذا الوليد . وأكبر ما تتطلع إليه من جزاء أن تراه يسلم وينمو . فهذا هو جزاؤها الحبيب الوحيد !

فأنى يبلغ الإنسان في جزاء هذه التضحية ، مهما يفعل . وهو لا يفعل إلا القليل الزهيد ?

وصدق رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وقد جاءه رجل كان في الطواف حاملا أمه يطوف بها ، فسأل رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] هل أديت حقها ? فأجابه : " لا ، ولا بزفرة واحدة " .

ويخلص من هذه الوقفة أمام الوصية بالوالدين ، واستجاشة الضمائر بصورة التضحية النبيلة ممثلة في الأم ، إلى مرحلة النضج والرشد ، مع استقامة الفطرة ، واهتداء القلب :

( حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال : رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي ، وأن أعمل صالحا ترضاه ، وأصلح لي في ذريتي ، إني تبت إليك ، وإني من المسلمين ) . .

وبلوغ الأشد يتراوح بين الثلاثين والأربعين . والأربعون هي غاية النضج والرشد ، وفيها تكتمل جميع القوى والطاقات ، ويتهيأ الإنسان للتدبر والتفكر في اكتمال وهدوء . وفي هذه السن تتجه الفطرة المستقيمة السليمة إلى ما وراء الحياة وما بعد الحياة . وتتدبر المصير والمآل .

ويصور القرآن هنا خوالج النفس المستقيمة ، وهي في مفرق الطريق ، بين شطر من العمر ولى ، وشطر يكاد آخره يتبدى . وهي تتوجه إلى الله :

( رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي ) . .

دعوة القلب الشاعر بنعمة ربه ، المستعظم المستكثر لهذه النعمة التي تغمره وتغمر والديه قبله فهي قديمة العهد به ، المستقل المستصغر لجهده في شكرها . يدعو ربه أن يعينه بأن يجمعه كله : ( أوزعني ) . . لينهض بواجب الشكر ؛ فلا يفرق طاقته ولا اهتمامه في مشاغل أخرى غير هذا الواجب الضخم الكبير .

( وأن أعمل صالحا ترضاه ) . .

وهذه أخرى . فهو يطلب العون للتوفيق إلى عمل صالح ، يبلغ من كماله وإحسانه أن يرضاه ربه . فرضى ربه هو الغاية التي يتطلع إليها . وهو وحده الرجاء الذي يأمل فيه .

( وأصلح لي في ذريتي ) . .

وهذه ثالثة . وهي رغبة القلب المؤمن في أن يتصل عمله الصالح في ذريته . وأن يؤنس قلبه شعوره بأن في عقبه من يعبد الله ويطلب رضاه . والذرية الصالحة أمل العبد الصالح . وهي آثر عنده من الكنوز والذخائر . وأروح لقلبه من كل زينة الحياة . والدعاء يمتد من الوالدين إلى الذرية ليصل الأجيال المتعاقبة في طاعة الله .

وشفاعته إلى ربه . شفاعته التي يتقدم بها بين يدي هذا الدعاء الخالص لله ، هي التوبة والإسلام :

( إني تبت إليك وإني من المسلمين ) . .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَوَصَّيۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيۡهِ إِحۡسَٰنًاۖ حَمَلَتۡهُ أُمُّهُۥ كُرۡهٗا وَوَضَعَتۡهُ كُرۡهٗاۖ وَحَمۡلُهُۥ وَفِصَٰلُهُۥ ثَلَٰثُونَ شَهۡرًاۚ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُۥ وَبَلَغَ أَرۡبَعِينَ سَنَةٗ قَالَ رَبِّ أَوۡزِعۡنِيٓ أَنۡ أَشۡكُرَ نِعۡمَتَكَ ٱلَّتِيٓ أَنۡعَمۡتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَٰلِدَيَّ وَأَنۡ أَعۡمَلَ صَٰلِحٗا تَرۡضَىٰهُ وَأَصۡلِحۡ لِي فِي ذُرِّيَّتِيٓۖ إِنِّي تُبۡتُ إِلَيۡكَ وَإِنِّي مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِينَ} (15)

{ ووصينا الإنسان بوالديه حسنا } وقرأ الكوفيون " إحسانا " وقرئ { حسنا } أي إيصاء { حسنا } . { حملته أمه كرها ووضعته كرها } ذات كره أو حملا ذا كره وهو المشقة ، وقرأ الحجازيان وأبو عمرو وهشام بالفتح وهما لغتان كالفقر والفقر . وقيل المضموم اسم والمفتوح مصدر . { وحمله وفصاله } ومدة { حمله وفصاله } ، والفصال الفطام ويدل عليه قراءة يعقوب " وفصله " أو وقته والمراد به الرضاع التام المنتهى به ولذلك عبر به كما يعبر بالأمد عن المدة ، قال :

كل حي مستكمل عدة العم *** ر ومود إذا انتهى أمده

{ ثلاثون شهرا } كل ذلك بيان لما تكابده الأم في تربية الولد مبالغة في التوصية بها ، وفيه دليل على أن أقل مدة الحمل سنة أشهر لأنه إذا حط منه الفصال حولان لقوله تعالى : { حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة } بقي ذلك وبه قال الأطباء ولعل تخصيص أقل الحمل وأكثر الرضاع لانضباطهما وتحقق ارتباط حكم النسب والرضاع بهما . { حتى إذا بلغ أشده } إذا اكتهل واستحكم قوته وعقله . { وبلغ أربعين سنة } قيل لم يبعث نبي إلا بعد الأربعين . { قال رب أوزعني } ألهمني وأصله أولعني من أوزعته بكذا . { أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي } يعني نعمة الدين أو ما يعمها وغيرها ، وذلك يؤيد ما روي أنها نزلت في أبي بكر رضي الله تعالى عنه لأنه لم يكن أحد أسلم هو وأبواه من المهاجرين والأنصار سواه . { وأن أعمل صالحا ترضاه } نكره للتعظيم أو لأنه أراد نوعا من الجنس يستجلب رضا الله عز وجل . { وأصلح لي في ذريتي } واجعل لي الصلاح ساريا في ذريتي راسخا فيهم ونحوه قوله :

وإن تعتذر بالمحل عن ذي ضروعها *** إلى الضيف يجرح في عراقيبها نصلي { إني تبت إليك } عما لا ترضاه أو يشغل عنك . { وإني من المسلمين } المخلصين لك .