قوله تعالى : { وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً } الآية ، كان المشركون يجعلون لله من حروثهم وأنعامهم وثمارهم ، وسائر أموالهم نصيباً ، وللأوثان نصيباً ، فما جعلوه لله صرفوه إلى الضيفان والمساكين ، وما جعلوه للأصنام أنفقوه على الأصنام وخدمها ، فإن سقط شيء مما جعلوه لله تعالى في نصيب الأوثان تركوه وقالوا : إن الله غني عن هذا ، وإن سقط شيء من نصيب الأصنام فيما جعلوه لله ردوه إلى الأوثان ، وقالوا : إنها محتاجة ، وكان إذا هلك أو انتقص شيء مما جعلوه لله لم يبالوا به ، وإذا هلك أو انتقص شيء مما جعلوا للأصنام جبروه بما جعلوه لله ، فذلك قوله تعالى : { وجعلوا لله مما ذرأ } من خلق الحرث والأنعام نصيبا ، وفيه اختصار مجازه : وجعلوا لله نصيباً ولشركائهم نصيباً .
قوله تعالى : { فقالوا هذا لله بزعمهم } ، قرأ الكسائي ( بزعمهم ) بضم الزاي ، والباقون بفتحها ، وهما لغتان ، وهو القول من غير حقيقة .
قوله تعالى : { وهذا لشركائنا } ، يعني :الأوثان .
قوله تعالى : { فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم } ومعناه : ما قلنا أنهم كانوا يتمون ما جعلوا للأوثان مما جعلوه لله ، ولا يتمون ما جعلوه لله مما جعلوه للأوثان ، وقال قتادة : كانوا إذا أصابتهم سنة استعانوا بما جزؤوا لله ، وأكلوا منه ، فوفروا ما جزؤوا لشركائهم ولم يأكلوا منه .
يخبر تعالى ، عمَّا عليه المشركون المكذبون للنبي صلى الله عليه وسلم ، من سفاهة العقل ، وخفة الأحلام ، والجهل البليغ ، وعدَّد تبارك وتعالى شيئا من خرافاتهم ، لينبه بذلك على ضلالهم والحذر منهم ، وأن معارضة أمثال هؤلاء السفهاء للحق الذي جاء به الرسول ، لا تقدح فيه أصلا ، فإنهم لا أهلية لهم في مقابلة الحق ، فذكر من ذلك أنهم { جعلوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا } ولشركائهم من ذلك نصيبا ، والحال أن الله تعالى هو الذي ذرأه للعباد ، وأوجده رزقا ، فجمعوا بين محذورين محظورين ، بل ثلاثة محاذير ، منَّتهم على الله ، في جعلهم له نصيبا ، مع اعتقادهم أن ذلك منهم تبرع ، وإشراك الشركاء الذين لم يرزقوهم ، ولم يوجدوا لهم شيئا في ذلك ، وحكمهم الجائر في أن ما كان لله لم يبالوا به ، ولم يهتموا ، ولو كان واصلا إلى الشركاء ، وما كان لشركائهم اعتنوا به واحتفظوا به ولم يصل إلى الله منه شيء ، وذلك أنهم إذا حصل لهم -من زروعهم وثمارهم وأنعامهم ، التي أوجدها الله لهم- شيء ، جعلوه قسمين :
قسمًا قالوا : هذا لله بقولهم وزعمهم ، وإلا فالله لا يقبل إلا ما كان خالصا لوجهه ، ولا يقبل عمل مَن أشرك به .
وقسمًا جعلوه حصة شركائهم من الأوثان والأنداد .
فإن وصل شيء مما جعلوه لله ، واختلط بما جعلوه لغيره ، لم يبالوا بذلك ، وقالوا : الله غني عنه ، فلا يردونه ، وإن وصل شيء مما جعلوه لآلهتهم إلى ما جعلوه لله ، ردوه إلى محله ، وقالوا : إنها فقيرة ، لا بد من رد نصيبها .
فهل أسوأ من هذا الحكم . وأظلم ؟ " حيث جعلوا ما للمخلوق ، يجتهد فيه وينصح ويحفظ ، أكثر مما يفعل بحق الله .
ويحتمل أن تأويل الآية الكريمة ، ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال عن الله تعالى أنه قال : " أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، من أشرك معي شيئا تركته وشركه " .
وأن معنى الآية أن ما جعلوه وتقربوا به لأوثانهم ، فهو تقرب خالص لغير الله ، ليس لله منه شيء ، وما جعلوه لله -على زعمهم- فإنه لا يصل إليه لكونه شركًا ، بل يكون حظ الشركاء والأنداد ، لأن الله غني عنه ، لا يقبل العمل الذي أُشرِك به معه أحد من الخلق .
( وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً . فقالوا : هذا لله - بزعمهم - وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله ، وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم . ساء ما يحكمون ! ) . .
يقرر السياق - وهو يصف تصورات الجاهلية وتقاليدها في الحرث والأنعام - أن الله هو الذي أنشأ لهم هذه الزروع والأنعام ؛ فما من أحد غير الله يرزق الناس من الأرض والسماء . . ثم يذكر بعد هذا التقرير ما يفعلونه بما رزقهم . إذ يجعلون له منه سبحانه جزءا ، ويجعلون لأوثانهم وأصنامهم جزءا [ وطبيعي أن سدنة الأوثان هم الذين ينتهي إليهم هذا الجزء الأخير ! ] . ثم هم بعد ذلك يجورون على الجزء الذي جعلوه لله . على النحو الذي تقرره الآية !
عن ابن عباس قال : كانوا إذا أدخلوا الطعام فجعلوه حزما ، جعلوا منه لله سهما وسهما لآلهتهم . وكانت إذا هبت الريح من نحو الذي جعلوه لآلهتهم إلى الذي جعلوه لله ردوه إلى الذي جعلوه لآلهتم . وإذا هبت الريح من نحو الذي جعلوها لله إلى الذي جعلوه لآلهتهم ، أقروه ولم يردوه . فذلك قوله : ( ساء ما يحكمون ) .
وعن مجاهد قال : يسمون لله جزءا من الحرث ، ولشركائهم وأوثانهم جزءا . فما ذهبت به الريح مما سموا لله إلى جزء أوثانهم تركوه . وما ذهب من جزء أوثانهم إلى جزء الله ردوه . وقالوا : " الله عن هذا غني " ! والأنعام : السائبة والبحيرة التي سموا .
وعن قتادة قال : عمد ناس من أهل الضلالة فجزأوا من حروثهم ومواشيهم جزءاً لله وجزءاً لشركائهم وكانوا إذا خالط شيء مما جزأوا لله فيما جزأوا لشركائهم خلوه . فإذا خالط شيء مما جزأوا لشركائهم فيما جزأوا لله ردوه على شركائهم . وكانوا إذا أصابتهم السنة [ يعني الجدب ] استعانوا بما جزأوا لله ، وأقروا ما جزأوا لشركائهم . قال الله ، ( ساء ما يحكمون ) .
وعن السدي قال : كانوا يقسمون من أموالهم قسما فيجعلونه لله ، ويزرعون زرعا فيجعلونه لله . ويجعلون لآلهتهم مثل ذلك . . فما خرج للآلهة أنفقوه عليها ، وما خرج لله تصدقوا به . فإذا هلك الذي يصنعون لشركائهم ، وكثر الذي لله ، قالوا : " ليس بد لآلهتنا من نفقة " ! وأخذوا الذي لله فأنفقوه على آلهتهم . وإذا أجدب الذي لله ، وكثر الذي لآلهتهم ، قالوا : " لو شاء أزكى الذي له " ! فلا يردون عليه شيئا مما للآلهة . قال الله . . لو كانوا صادقين فيما قسموا لبئس إذن ما حكموا : أن يأخذوا مني ولا يعطوني ! فذلك حين يقول : ( ساء ما يحكمون ) .
وعن ابن جرير : وأما قوله : ( ساء ما يحكمون ) فإنه خبر من الله جل ثناؤه عن فعل هؤلاء المشركين الذين وصف صفتهم . يقول جل ثناؤه : وقد أساءوا في حكمهم ، إذ أخذوا من نصيبي لشركائهم ، ولم يعطوني من نصيب شركائهم ، وإنما عنى بذلك - تعالى ذكره - الخبر عن جهلهم وضلالتهم ، وذهابهم عن سبيل الحق ، بأنهم لم يرضوا أن عدلوا بمن خلقهم وغذاهم ، وأنعم عليهم بالنعم التي لا تحصى ، ما لا يضرهم ولا ينفعهم ، حتى فضلوه في أقسامهم عن أنفسهم بالقسم عليه !
هذا هو ما كان شياطين الإنس والجن يوحون به إلى أوليائهم ليجادلوا به المؤمنين في الأنعام والزروع . وظاهر في هذه التصورات والتصرفات أثر المصلحة للشياطين في هذا الذي يزينونه لأوليائهم . فأما مصلحة شياطين الإنس - من الكهنة والسدنة والرؤساء - فهي متمثلة أولا في الاستيلاء على قلوب الأتباع والأولياء ، وتحريكهم على هواهم وفق ما يزينونه لهم من تصورات باطلة وعقائد فاسدة ! ومتمثلة ثانيا في المصالح المادية التي تتحقق لهم من وراء هذا التزيين والاستهواء لجماهير الناس ؛ وهو ما يعود عليهم مما يقسمه هؤلاء الأغرار المغفلون للآلهة ! . . وأما مصلحة شياطين الجن فتتمثل في نجاح الإغواء والوسوسة لبني آدم حتى يفسدوا عليهم حياتهم ، ويفسدوا عليهم دينهم ، ويقودوهم ذللاً إلى الدمار في الدنيا والنار في الآخرة ! وهذه الصورة التي كانت تقع في جاهلية العرب ، وكانت تقع نظائرها في الجاهليات الأخرى : للإغريق والفرس والرومان ، والتي ما تزال تقع في الهند وإفريقية وآسيا . . . هذه الصور كلها ليست إلا صورا من التصرف في المال لا تقتصر عليها الجاهلية ! فالجاهلية الحاضرة تتصرف كذلك في الأموال بما لم يأذن به الله . وعندئذ تلتقي في الشرك مع تلك الجاهليات القديمة . تلتقي في الأصل والقاعدة . فالجاهلية هي كل وضع يتصرف في شؤون الناس بغير شريعة من الله . ولا عبرة بعد ذلك باختلاف الأشكال التي يتمثل فيها هذا التصرف . . فإن هي إلا اشكال . .
هذا ذم وتوبيخ من الله للمشركين الذين ابتدعوا بدعًا وكفرًا وشركًا ، وجعلوا لله جزءًا من خلقه ، وهو خالق كل شيء سبحانه وتعالى عما يشركون ؛ ولهذا قال تعالى : { وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ } أي : مما خلق وبرأ { مِنَ الْحَرْثِ } أي : من الزروع والثمار { وَالأنْعَامِ نَصِيبًا } أي : جزءا وقسما ، { فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا }
وقوله : { فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ } قال علي بن أبي طلحة ، والعَوْفي ، عن ابن عباس ؛ أنه قال في{[11248]} تفسير هذه الآية : إن أعداء الله كانوا إذا حرثوا حرثًا ، أو كانت لهم ثمرة ، جعلوا لله منه جزءًا وللوثن جزءًا ، فما كان من حرث أو ثمرة أو شيء من نصيب الأوثان حفظوه وأحصوه . وإن سقط منه شيء فيما سُمّي للصمد ردوه إلى ما جعلوه للوثن . وإن سبقهم الماء الذي جعلوه للوثن . فسقى شيئا جعلوه لله جعلوا ذلك للوثن . وإن سقط شيء من الحرث والثمرة الذي جعلوه لله ، فاختلط بالذي جعلوه للوثن ، قالوا : هذا فقير . ولم يردوه إلى ما جعلوه لله . وإن سبقهم الماء الذي جعلوه لله . فسقى ما سُمّي للوثن تركوه للوثن ، وكانوا يحرمون من أموالهم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ، فيجعلونه للأوثان ، ويزعمون أنهم يحرمونه لله ، فقال الله عز وجل{[11249]} { وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأنْعَامِ نَصِيبًا } الآية .
وهكذا قال مجاهد ، وقتادة ، والسدي ، وغير واحد .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في تفسيره : كل شيء جعلوه لله من ذبْح يذبحونه ، لا يأكلونه أبدا حتى يذكروا معه أسماء الآلهة . وما كان للآلهة لم يذكروا اسم الله معه ، وقرأ الآية حتى بلغ : { سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } أي : ساء ما يقسمون ، فإنهم أخطؤوا أولا في القسمة ، فإن الله تعالى هو رب كل شيء ومليكه وخالقه ، وله الملك ، وكل شيء له وفي تصرفه وتحت قدرته ومشيئته ، لا إله غيره ، ولا رب سواه . ثم لما قسموا فيما زعموا لم يحفظوا القسمة التي هي فاسدة ، بل جاروا فيها ، كما قال تعالى : { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ } [ النحل : 57 ] ، وقال تعالى : { وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ } [ الزخرف : 15 ] ، وقال تعالى : { أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأنْثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى } [ النجم : 21 ، 22 ] .
الضمير في { جعلوا } عائد على كفار العرب العادلين بربهم الأوثان الذين تقدم الردعليهم من أول السورة ، و { ذرأ } معناه خلق وأنشأ وبث في الأرض ، يقال ذرأ الله الخلق يذرؤهم ذرءاً وذروءاً أي خلقهم ، وقوله وجعلوا من كذا وكذا نصيباً يتضمن بقاء نصيب آخر ليس بداخل في حكم الأول ، فبينه بقوله : { فقالوا هذا لله وهذا لشركائنا } ، ثم اعترضهم أثناء القول بأن ذلك زعم وتقول ، والزعم في كثير كلام العرب أقرب إلى غير اليقين والحق ، يقال «زَعم » بفتح الزاي وبه قرأت الجماعة ، «وزُعم » بضمها ، وقرأ الكسائي وحده في هذه الآية{[5105]} «زِعم » بكسر الزاي ، ولا أحفظ أحداً قرأت به و { الحرث } في هذه الآية يريد به الزرع والأشجار وما يكون من الأرض ، وقوله { لشركائنا } يريد به الأصنام والأوثان ، وسموهم شركاء على معتقدهم فيهم أنهم يساهمونهم في الخير والشر ويكسبونهم ذلك ، وسبب نزول هذه الآية أن العرب كانت تجعل من غلاّتها وزرعها وثمارها ومن أنعامها جزءاً تسميه لله وجزءاً تسميه لأصنامها ، وكانت عادتها التحفي والاهتبال بنصيب الأصنام أكثر منها بنصيب الله إذ كانوا يعتقدون أن الأصنام بها فقر وليس ذلك بالله فكانوا إذا جمعوا الزرع فهبت الريح فحملت ِمَن الذي لله إلى الذي لشركائهم أقروه ، وإذا حملت من الذي لشركائهم إلى الله ردوه . وإذا تفجر من سقي ما جعلوا لله في نصيب شركائهم تركوه ، وإن بالعكس سدوه ، وإذا لم يصيبوا في نصيب شركائهم شيئاً قالوا لا بد للآلهة من نفقة فيجعلون نصيب الله تعالى في ذلك .
قال هذا المعنى ابن عباس ومجاهد والسدي وغيرهم أنهم كانوا يفعلون هذا ونحوه من الفعل وكذلك في الأنعام وكانوا إذا أصابتهم السنة أكلوا نصِيب الله وتحاموا نصيب شركائهم ، وقوله تعالى : { فما كان لشركائهم } الآية قال جمهور المتأولين إن المراد بقوله تعالى : { فلا يصل } وبقوله تعالى : { يصل } ما قدمنا ذكره من حمايتهم نصيب آلهتهم في هبوب الريح وغير ذلك ، وقال ابن زيد إنما ذلك في أنهم كانوا إذا ذبحوا لله ذكروا آلهتهم على ذلك الذبح وإذا ذبحوا لآلهتهم لم يذكروا الله ، فكأنه قال «فلا يصل » إلى ذكر الله وقال فهو «يصل » إلى ذكر شركائهم ، و { ما } في موضع رفع كأنه قال ساء الذي يحكمون ، ولا يتجه عندي أن يجري هنا { ساء } مجرى نعم وبئس لأن المفسر هنا مضمر ولا بد من إظهاره باتفاق من النحاة ، وإنما اتجه أن تجري مجرى بئس في قوله { ساء مثلاً القوم }{[5106]} . لأن المفسر ظاهر في الكلام{[5107]} .
عَطفٌ على نظائره ممّا حكيت فيه أقوالهم وأعمالهم من قوله : { وما قدروا الله حقّ قدره إذ قالوا ما أنزل اللَّه على بشر من شيء } [ الأنعام : 91 ] وقوله : { وجعلوا لله شركاء الجنّ } [ الأنعام : 100 ] وقوله : { وأقسموا بالله جَهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنُنّ بها } [ الأنعام : 109 ] وقوله : { وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله } [ الأنعام : 124 ] وما تخلّل ذلك فهو إبطال لأقوالهم ، ورد لمذاهبهم ، وتمثيلات ونظائر ، فضمير الجماعة يعود على المشركين الّذين هم غرض الكلام من أوّل السّورة من قوله : { ثم الذين كفروا بربّهم يعدلون } [ الأنعام : 1 ] . وهذا ابتداءُ بيان تشريعاتهم الباطلة ، وأوّلُها مَا جعلوه حقّاً عليهم في أموالهم للأصنام : ممّا يشبه الصّدقات الواجبة ، وإنَّما كانوا يوجبونها على أنفسهم بالالتزام مثل النّذور ، أو بتعيين من الّذين يشرعون لهم كما سيأتي .
والجعل هنا معناه الصّرف والتّقسيم ، كما في قول عمر في قضيّة : ما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم المختصم فيها العبّاس وعليّ رضي الله عنهم « فيجعَلُه رسولُ اللَّه مجعل مالِ اللَّه » أي يضعه ويصرفه ، وحقيقة معنى الجعل هو التّصيير ، فكما جاء صيّر لمعان مجازية ، كذلك جاء ( جعل ) ، فمعنى { وجعلوا لله } : صرفوا ووضعوا لله ، أي عيّنوا له نصيباً ، لأنّ في التّعيين تصييراً تقديرياً ونقلاً . وكَذلِك قول النّبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي طلحةَ : " أرى أن تجعلَها في الأقربِين " أي أن تصرفها إليهم ، و { جعل } هذا يتعدّى إلى مفعول واحد ، وهذه التّعدية هي أكثر أحوال تعديته ، حتّى أنّ تعديته إلى مفعولين إنَّما ما في الحقيقة مفعولٌ وحالٌ منه .
ومعنى : { ذرأ } أنشأ شيئاً وكثّره . فأطلق على الإنماء لأنّ إنشاء شيء تكثير وإنماء . و { ممّا ذرأ } متعلّق ب { جَعلوا } ، و { من } تبعيضية ، فهو في معنى المفعول ، و { مَا } موصولة ، والإتيان بالموصول لأجل دلالة صلته على تسفيه آرائهم ، إذ ملَّكوا الله بعض مَلْكه ، لأنّ ما ذرأه هو مِلْكُه ، وهو حقيق به بلا جَعْل منهم .
واختيار فعل : { ذرأ } هنا لأنّه الّذي يدلّ على المعنى المراد ، إذ المقصود بيان شرائعهم الفاسدة في نتائج أموالهم . ثمّ سيبيّن شرعهم في أصول أموالهم في قوله : { وقالوا هذه أنعام وحرث حجر } [ الأنعام : 138 ] الآية .
و { من الحرث والأنعام } بيان { ما } الموصولة . والحرثُ مراد به الزّرع والشّجر ، وهو في الأصل من إطلاق المصدر على اسم المفعول ، ثمّ شاع ذلك الإطلاق حتّى صار الحرث حقيقة عرفية في الجنّات والمزارع ، قال تعالى : { أن اغْدُوا على حرثكم إن كنتم صارمين } [ القلم : 22 ] .
والنّصيب : الحظ والقِسْم وتقدّم في قوله تعالى : { أولئك لهم نصيب ممّا كسبوا } في سورة البقرة ( 202 ) ، والتّقدير : جعلوا لله نصيباً ولغيره نصيباً آخر ، وفهم من السّياق أنّ النّصيب الآخر لآلهتهم . وقد أفصح عنه في التّفريع بقوله : { فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا } .
والإشارتان إلى النّصيب المعيّن لله والنّصيب المعيّن للشركاء ، واسما الإشارة مشار بكلّ واحد منهما إلى أحد النّصيبين على الإجمال إذ لا غرض في المقام في تعيين ما جعلوه لله وما جعلوه لشركائهم .
والزّعم : الاعتقاد الفاسد ، أو القريب من الخطأ ، كما تقدّم عند قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين يزعمون أنّهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك } في سورة النساء ( 60 ) ، وهو مثلّث الزاي ، والمشهور فيه فتح الزاي ، ومثله الرّغم بالرّاء مثلّث الراء .
وقرأ الجمهور بفتح الزاي وقرأه الكسائي بضمّ الزاي ويتعلّق قولهم : { بزعمهم } ب { قالوا } وجُعل قوله : { بزعمهم } موالياً لبعض مقول القول ليكون متّصلاً بما جعلوه لله فيرتَّبُ التّعجيب من حكمهم بأنّ ما كان لله يصل إلى شركائهم ، أي ما اكتفوا بزعمهم الباطل حتّى نكلوا عنه وأشركوا شركاؤهم فيماجعلوه لله بزعمهم .
والباء الداخلة على { بزعمهم } إمّا بمعنى { مِن } أي ، قالوا ذلك بألسنتهم ، وأعلنوا به قولاً ناشئاً عن الزعم ، أي الاعتقاد الباطل ، وإمّا للسببيّة ، أي قالوا ذلك بسبب أنّهم زعموا . ومحلّ الزّعم هو ما اقتضته القسمة بين الله وبين الآلهة ، وإلاّ فإنّ القول بأنّه ملك لله قول حقّ ، لكنّهم لما قالوه على معنى تعيين حقّ الله في ذلك النّصيب دون نصيب آخر . كان قولهم زعماً باطلاً .
والشّركاء هنا جمع شريك ، أي شريك الله سبحانه في الإلهية ، ولمّا شاع ذلك عندهم صار كالعَلم بالغلبة ، فلذلك استغنى عن الإضافة إلى ما فيه المعنى المشتقّ منه أعني الشّركة ثمّ لأجل غلبته في هذا المعنى صار بمنزلة اللّقب ، فلذلك أضافوه إلى ضميرهم ، فقالوا : لشركائنا ، إضافة معنوية لا لفظيّة ، أي للشّركاء الّذين يُعرفون بنا . قال ابن عبَّاس وأصحابه : كان المشركون يجعلون لله من حروثهم ( يعني زرعهم وشجرهم ) وأنعامهم نصيباً وللأوثان نصيباً فما كان للأصنام أنفقوه عليها وما كان لله أطعموه الضيفان والمساكين ولا يأكلون منه البتة .
وكانوا يجعلون البَحيرة والسائبة والوصيلة والحامي للأصنام . وذكر ابن إسحاق : أنّ ( خَوْلاَن ) كان لهم صنم اسمه ( عَمّ أنَس ) يقسمون له من أنعامهم وحروثهم قِسَما بينه وبين الله ، فما دخل في حق ( عَمّ أنس ) من حَقّ الله الّذي سَمَّوه له تركوه للصّنم وما دخل في حقّ الله من حقّ ( عَمّ أنس ) ردّوه عليه ، ومنهم بطن يقال لهم ( الأدِيم ) قال : وفيهم نزل قوله تعالى : { وجعلوا لله مما ذرأ } الآية .
وقوله : { فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم } . قال ابن عبّاس وقتادة : كانوا إذا جمعوا الزرع فهبت الرّيح فحملت من الّذي لله إلى الّذي لشركائهم أقَرّوه وقالوا : إنّ الله غنيّ عنه ، وإذا حملت من الّذي لشركائهم إلى الّذي للَّهِ ردّوه ، وإذا هلك ما لأصنامهم بقحط أخذوا بدله ممّا لله ، ولا يفعلون ذلك فيما لله ، وإذا انفجر من سقي ما جعلوه لله فساح إلى ما للّذي للأصنام تركوه وإذا انفجر من سقي ما للأصنام فدخل في زرع الّذي لله سَدّوه .
وكانوا إذا أصابتهم سَنَةٌ استعانوا بما جعلوه لله فأنفقوه على أنفسهم وأقرّوا ما جعلوه لشركائهم للشركاء ، وإذا هلك الّذي جعلوه للأصنام وكثر الّذي جعلوه لله قالوا : ليس لآلهتنا بدّ من نفقة وأخذوا الّذي جعلوه لله فأنفقوه عليها ، وإذا أجدب الّذي لله وكثر الّذي لآلهتهم قالوا : لو شاء الله أزكى الّذي له فلا يردّون على ما جعلوه لله شيئاً ممّا لآلهتهم ، فقوله : { فلا يصل إلى الله } مبالغة في صونه من أن يعطى لما لله لأنَّه إذا كان لا يصل فهو لا يُتْرك إذا وَصل بالأوْلى .
وعدّي { يصل } إلى اسم الجلالة وإلى اسم شركائهم . والمراد لا يصل إلى النّصيب المجعول لله أو إلى لشركائهم لأنَّهم لما جعلوا نصيباً لله ونصيباً لشركائهم فقد استشعروا ذلك النّصيب محوزاً لمن جُعل إليه وفي حرزه فكأنّه وصل إلى ذاته .
وجملة : { ساء ما يحكمون } استئناف لإنشاء ذمّ شرائعهم . وساء هنا بمعنى بِئس : و مَا هي فاعل ساء وهي موصولة وصلتها { يحكمون } ، وحذف العائد المنصوب ، وحذف المخصوص بالذّم لدلالة : { جعلوا } عليه ، أي : ساء ما يحكمون جَعْلُهم ، وسمَّاه حكماً تهكّما ، لأنَّهم نصبوا أنفسهم لتعيين الحقوق ، ففَصَلوا بحكمهم حقّ الله من حقّ الأصنام ، ثمّ أباحوا أن تأخذ الأصنام حقّ الله ولا يَأخذ الله حقّ الأصنام ، فكان حكماً باطلاً كقوله : { أفحكم الجاهليّة يبغون } [ المائدة : 50 ] .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وجعل هؤلاء العادلون بربهم الأوثان والأصنام لربهم "ممّا ذَرَأَ "خالقهم، يعني: مما خلق من الحرث والأنعام، يقال منه: ذرأ الله الخلق...: إذا خلقهم. "نصيبا": يعني قسما وجزءا.
ثم اختلف أهل التأويل في صفة النصيب الذي جعلوا لله والذي جعلوه لشركائهم من الأوثان والشيطان؛
فقال بعضهم: كان ذلك جزءا من حروثهم وأنعامهم يقرّرونه لهذا، وجزءا لهذا... عن ابن عباس... قال: كانوا إذا أدخلوا الطعام فجعلوه حُزَما جعلوا منها لله سهما وسهما لآلهتهم، وكان إذا هبت الريح من نحو الذي جعلوه لآلهتهم إلى الذي جعلوه لله ردّوه إلى الذي جعلوه لآلهتهم وإذا هبت الريح من نحو الذي جعلوه لله إلى الذي جعلوه لآلهتم أقرّوه ولم يردّوه، فذلك قوله: "ساءَ ما يَحْكُمُونَ"...
عن ابن عباس، في قوله: "وَجَعَلُوا لِلّهِ مِمّا ذَرَأ مِنَ الحَرْثِ والأنْعامِ نَصِيبا فقالُوا هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكائِنا" قال: جعلوا لله من ثمراتهم ومالهم نصيبا وللشيطان والأوثان نصيبا، فإن سقط من ثمرة ما جعلوا لله في نصيب الشيطان تركوه، وإن سقط مما جعلوه للشيطان في نصيب الله التقطوه وحفظوه وردّوه إلى نصيب الشيطان. وإن انفجر من سَقْي ما جعلوه لله في نصيب الشيطان تركوه وإن انفجر من سَقْي ما جعلوه للشيطان في نصيب الله سدوه، فهذا ما جعلوا من الحروث وسقي الماء. وأما ما جعلوا للشيطان من الأنعام، فهو قول الله: "ما جَعَلَ اللّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ"...
وقال آخرون: النصيب الذي كانوا يجعلونه لله فكان يصل منه إلى شركائهم أنهم كانوا لا يأكلون ما ذبحوا لله حتى يسموا الآلهة، وكانوا ما ذبحوه للآلهة يأكلونه ولا يسمون الله عليه... وأولى التأويلين بالآية، ما قال ابن عباس، ومن قال بمثل قوله في ذلك لأن الله جلّ ثناؤه أخبر أنهم جعلوا لله من حرثهم وأنعامهم قسما مقدّرا، فقالوا: هذا لله، وجعلوا مثله لشركائهم، وهم أوثانهم بإجماع من أهل التأويل عليه، فقالوا: هذا لشركائنا وإن نصيب شركائهم لا يصل منه إلى الله، بمعنى: لا يصل إلى نصيب الله، وما كان لله وصل إلى نصيب شركائهم. فلو كان وصول ذلك بالتسمية وترك التسمية، كان أعيان ما أخبر الله عنه أنهم لم يصل جائزا أن تكون قد وصلت، وما أخبر عنه أنه قد وصل لم يصل، وذلك خلاف ما دلّ عليه ظاهر الكلام لأن الذبيحتين تذبح إحداهما لله والأخرى للآلهة، جائز أن تكون لحومهما قد اختلطت وخلطوهما، إذ كان المكروه عندهم تسمية الله على ما كان مذبوحا للآلهة دون اختلاط الأعيان واتصال بعضها ببعض.
وأما قوله: "ساءَ ما يَحْكُمُونَ" فإنه خبر من الله جلّ ثناؤه عن فعل هؤلاء المشركين الذين وصف صفتهم. يقول جلّ ثناؤه: وقد أساءوا في حكمهم إذ أخذوا من نصيبي لشركائهم ولم يعطوني من نصيب شركائهم. وإنما عنى بذلك تعالى ذكره الخبر عن جهلهم وضلالتهم وذهابهم عن سبيل الحقّ بأنهم لم يرضوا أن عدلوا بمن خلقهم وغذاهم وأنعم عليهم بالنعم التي لا تحصى ما لا يضرّهم ولا ينفعهم، حتى فضلوه في إقسامهم عند أنفسهم بالقسم عليه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
..قوله تعالى: {وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا} يخبر عز وجل عن سفههم من وجوه: أحدها: أنهم كانوا يجعلون لله نصيبا مما كان لله ذلك في الحقيقة، مع علمهم أن الله هو الذي أنشأ لهم تلك الأشياء، وهو ذرأها، ثم يجعلون لله في ذلك نصيبا وللأصنام نصيبا بسفههم أنهم إذا علموا أن الله هو الذي ذرأ لهم تلك الأشياء، وأنشأها لهم، فإليه الاختيار في جعل ذلك لا إليهم، إذ علموا أنهم إنما يملكون هم [ما] يجعل الله لهم، وهو المالك لها حقيقة. والثاني: ما يبين سفههم أيضا أنهم يجعلون لله في ذلك نصيبا وللأصنام نصيبا من الثمار والحروث وغيرها، ثم إذا وقع شيء مما جعلوا لله وخالط ما جعلوه لشركائهم، تركوه، وإذا خالط شيء مما جعلوا لشركائهم، ووقع في ما جعلوه لله، أخذوه وردوه على شركائهم، وانتفعوا به، وتركوا الآخر للأصنام إيثارا للأصنام عليه وإعظاما لها. وإذا زكا نصيب الأصنام ونما، ولم يزك نصيب الله ولم ينم، تركوا ذلك للأصنام، ويقولون: لو شاء الله لأزكى نصيبه. وإذا زكا الذي كانوا يجعلون لله، ولم يزك نصيب الأصنام، أخذوا نصيب الله، فقسموه بين المساكين وبين الأصنام نصفين. يسفههم عز وجل بصنيعهم الذي يصنعون، ويبين جوهرهم بإيثارهم الأصنام وإعظامهم إياها والتفضيل في القسمة والتجزئة مع علمهم أن الله هو الذي ذرأ ذلك وأنشأه لهم، وأن الأصنام التي أشركوها في أموالهم وعبادتهم لله لا تملك من ذلك شيئا [وذلك] منهم سفه وجور حين أشركوا في أموالهم وعبادتهم مع الله أحدا، لا يستحق بذلك شيئا... ثم أخبر أنهم {ساء ما يحكمون} أي بئس الحكم حكمهم...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لما بَنَوا قاعدة أمرِهم على موجب الهوى صارت فروعُهم لائقةً بأصولهم...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
وقوله: (ساء ما يحكمون) أي: لم يأتهم فيه وحي، ولا يقتضيه عقل؛ فإن القياس يقتضي التسوية -على زعمهم- بين الشريكين، لا ما حكموا به...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
كانوا يعينون أشياء من حرث ونتاج لله، وأشياء منها لآلهتهم؛ فإذا رأوا ما جعلوه لله زاكياً نامياً يزيد في نفسه خيراً رجعوا فجعلوه للآلهة، وإذا زكا ما جعلوه للأصنام تركوه لها واعتلوا بأنّ الله غنيّ، وإنما ذاك لحبهم آلهتهم وإيثارهم لها: وقوله: {مِمَّا ذَرَأَ} فيه أن الله كان أولى بأن يجعل له الزاكي، لأنه هو الذي ذرأه وزكاه، ولا يرد إلى ما لا يقدر على ذرء ولا تزكيه {بِزَعْمِهِمْ} وقرىء: بالضم، أي قد زعموا أنه لله، والله لم يأمرهم بذلك ولا شرع لهم تلك القسمة التي هي من الشرك، لأنهم أشركوا بين الله وبين أصنامهم في القُربة.
{فَلاَ يَصِلُ إِلَى الله} أي لا يصلّ إلى الوجوه التي كانوا يصرفونه إليها من قرى الضيفان والتصدق على المساكين.
{فَهُوَ يَصِلُ إلى شُرَكَائِهِمْ} من إنفاق عليها بذبح النسائك عندها والإجراء على سدنتها ونحو ذلك. {سَاء مَا يَحْكُمُونَ} في إيثار آلهتهم على الله تعالى وعملهم ما لم يشرع لهم.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْلَمَ جَهْلَ الْعَرَبِ فَلْيَقْرَأْ مَا فَوْقَ الثَّلَاثِينَ وَالْمِائَةِ من سُورَةِ الْأَنْعَامِ إلَى قَوْله تَعَالَى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَلَامٌ صَحِيحٌ، فَإِنَّهَا تَصَرَّفَتْ بِعُقُولِهَا الْقَاصِرَةِ فِي تَنْوِيعِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ سَفَاهَةً بِغَيْرِ مَعْرِفَةٍ وَلَا عَدْلٍ؛ وَاَلَّذِي تَصَرَّفَتْ بِالْجَهْلِ فِيهِ من اتِّخَاذِ آلِهَةٍ أَعْظَمَ جَهْلًا وَأَكْبَرَ جُرْمًا؛ فَإِنَّ الِاعْتِدَاءَ عَلَى اللَّهِ أَعْظَمُ من الِاعْتِدَاءِ عَلَى الْمَخْلُوقِينَ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَاحِدٌ فِي ذَاتِهِ، وَاحِدٌ فِي صِفَاتِهِ، وَاحِدٌ فِي مَخْلُوقَاتِهِ أَبْيَنُ وَأَوْضَحُ من الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ هَذَا حَلَالٌ، وَهَذَا حَرَامٌ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لعمرو بْنِ الْعَاصِ: إنَّكُمْ عَلَى كَمَالِ عُقُولِكُمْ وَوُفُورِ أَحْلَامِكُمْ كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ الْحَجَرَ. فَقَالَ عَمْرو: تِلْكَ عُقُولٌ كَادَهَا بَارِيهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذَا الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ من سَخَافَةِ الْعَرَبِ وَجَهْلِهَا أَمْرٌ أَذْهَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْإِسْلَامِ، وَأَبْطَلَهُ بِبَعْثَةِ الرَّسُولِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَكَانَ من الظَّاهِرِ لَنَا أَنْ نُمِيتَهُ حَتَّى لَا يَظْهَرَ، وَنَنْسَاهُ حَتَّى لَا يُذْكَرَ إلَّا أَنَّ رَبَّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى ذَكَرَهُ بِنَصِّهِ، وَأَوْرَدَهُ بِشَرْحِهِ، كَمَا ذَكَرَ كُفْرَ الْكَافِرِينَ بِهِ. وَكَانَتْ الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ -وَاَللَّهُ أَعْلَمُ- أَنَّ قَضَاءَهُ قَدْ سَبَقَ، وَحُكْمَهُ قَدْ نَفَذَ، بِأَنَّ الْكُفْرَ وَالتَّخْلِيطَ لَا يَنْقَطِعَانِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقَدْ قَضَى اللَّهُ أَلَّا يَصُدَّ كَافِرٌ عَنْ ذِكْرِ الْكُفْرِ، وَلَا مُبْتَدِعٌ عَنْ تَغْيِيرِ الدِّينِ، قَصَدَهُ بِبَيَانِ الْأَدِلَّةِ، ثُمَّ وَفَّقَ مَنْ سَبَقَ لَهُ عِنْدَهُ الْخَيْرُ فَيَسَّرَ لَهُ مَعْرِفَتَهَا، فَآمَنَ وَأَطَاعَ، وَخَذَلَ مَنْ سَبَقَ لَهُ عِنْدَهُ الشَّرُّ فَصَدَفَهُ عَنْهَا، فَكَفَرَ وَعَصَى {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ}؛ فَتَعَيَّنَ عَلَيْنَا أَنْ نُشِيرَ إلَى بَسْطِ مَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى من ذَلِكَ وَهِيَ
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ من الْحَرْثِ} أَيْ: أَظْهَرَ بِالْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ من الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا، وَجَمِيعُهُ لَهُ لَا شَرِيكَ مَعَهُ فِي خَلْقِهِ، فَكَيْفَ فَعَلُوا لَهُ شَرِيكًا فِي الْقُرْبَانِ بِهِ من الْأَوْثَانِ الَّتِي نَصَبُوهَا لِلْعِبَادَةِ مَعَهُ، وَشَرُّ الْعَبِيدِ كَمَا يَأْتِي [بَيَانُهُ] فِي الْأَثَرِ مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ سَيِّدُهُ بِنِعْمَةٍ فَجَعَلَ يَشْكُرُ غَيْرَهُ عَلَيْهَا، وَكَانَ هَذَا النَّصِيبُ الَّذِي لِلْأَوْثَانِ جَعَلُوهُ لِلَّهِ من الْحَرْثِ مَصْرُوفًا فِي النَّفَقَةِ عَلَيْهَا وَعَلَى خُدَّامِهَا، وَكَذَلِكَ نَصِيبُ الْأَنْعَامِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَجْعَلُونَهَا قُرْبَانًا لِلْآلِهَةِ...
{ساء ما يحكمون} والمقصود من حكاية أمثال هذه المذاهب الفاسدة، أن يعرف الناس قلة عقول القائلين بهذه المذاهب، وأن يصير ذلك سببا لتحقيرهم في أعين العقلاء، وأن لا يلتفت إلى كلامهم أحد البتة...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
... {وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا} أي وكان من أمرهم في ضلالتهم العملية أن جعلوا لله نصيبا مما ذرأ وخلق لهم من ثمر الزرع وغلته كالتمر والحبوب ونتاج الأنعام ونصيبا لمن أشركوا معه من الأوثان والأصنام وقد حذف ذكر هذا النصيب إيجاز لدلالة ما بعده عليه وهو قوله تعالى: {فَقَالُواْ هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا} أي فقالوا في الأول هذا لله أي نتقرب به إليه، وفي الثاني هذا لشركائنا أي معبوداتهم يتقربون به إليها، وقوله في الأول بزعمهم معناه بتقولهم ووضعهم الذي لا علم لهم به ولا هدى من الله لأن جعله قربة لله يجب أن لا يشرك معه غيره فمثله وأن يكون بإذن منه تعالى لأنه دين وإنما الدين لله ومن الله وحده؟ وأما كونه لله خلقا وملكا فغير مراد في هذه القسمة فإن له تعالى كل شيء لأنه خالق كل شيء لا شريك له في الخلق، وهذا لا خلاف فيه بينهم وبين المؤمنين وإنما الخلاف في التقرب إلى غيره تعالى بمثل ما يتقرب به إليه من دعاء وصدقة وذبائح نسك، وأن يطاع غيره طاعة خضوع في التحليل والتحريم لذاته بغير إذن منه تعالى وغير ذلك، فهذا شرك جلي، ومنه هذه القسمة بين الله تعالى وبين ما أشركوا معه.
روي أنهم كانوا يجعلون نصيب الله تعالى لقرى الضيفان وإكرام الصبيان والتصدق على المساكين ونصيب آلهتهم لسدتنا وقرابينها وما ينفق على معاهدها، فإن قيل لمَ قرن الأول بالزعم الذي يعبر به عن قول الكذب والباطل على ما فيه من البر والخير دون الثاني الذي هو شر محض وباطل بحت وبه كان الأول شركا في القسمة ودون جعله لكل منهما؟ نقول إن الأول وحده هو الذي يمكن أن يستحسنه المؤمن أو العاقل وإن لم يكن مؤمنا فاحتيج إلى قرنه بكونه زعما مخترعا لهم لا دينا مشترعا لله تعالى فكان بهذا باطلا في نفسه فوق كونه مقرونا بالشرك إذ جعلوا مثله لما اتخذوا لله من الأنداد مع أحكام أخرى لهم فيه فصلها بقوله:
{فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللّهِ} أي فما كان منه للتقرب إلى شركائهم التي جعلوها لله فلا يصل إلى الوجوه التي جعلوها لله لا بالتصدق ولا بالضيافة ولا غيرهما بل يعنون بحفظه لها بإنفاقه على سدنتها وذبح النسائك عندها ونحو ذلك {وَمَا كَانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ} أي وما جعلوه لله فهو يحول أحيانا إلى التقرب به إليها فيما ذكر آنفا وفي غيره مما سيأتي {سَاء مَا يَحْكُمُونَ} أي قبح حكمهم هذا أو ما يحكمون به. وقبحه من وجوه منها أنه اعتداء على الله بالتشريع، ومنها الشرك في عبادته ولا يجوز أن يكون لغير الله أدنى نصيب مما يتقرب به إليه، ومنها ترجيح ما جعلوه لشركائهم على ما جعلوه لخالقها فيما فصل آنفا وهو أدنى الوجوه الثلاثة المحتملة في القسمة، والثاني المساواة بين ما لشركائهم وما لله سبحانه، والثالث ترجيح ما لله تعالى. ومنها أن هذا الحكم لا مستند له من العقل، كما أنه لا هداية فيه من الشرع، وهذا مما يستدل به عل أن العقول تدرك حسن الأحكام وقبحها ويحتج بها فيها...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... إبطال لأقوالهم، ورد لمذاهبهم، وتمثيلات ونظائر، فضمير الجماعة يعود على المشركين الّذين هم غرض الكلام من أوّل السّورة من قوله: {ثم الذين كفروا بربّهم يعدلون} [الأنعام: 1]. وهذا ابتداءُ بيان تشريعاتهم الباطلة، وأوّلُها مَا جعلوه حقّاً عليهم في أموالهم للأصنام: ممّا يشبه الصّدقات الواجبة، وإنَّما كانوا يوجبونها على أنفسهم بالالتزام مثل النّذور، أو بتعيين من الّذين يشرعون لهم كما سيأتي.
والجعل هنا معناه: الصّرف والتّقسيم...وحقيقة معنى الجعل هو التّصيير، فكما جاء صيّر لمعان مجازية، كذلك جاء (جعل)، فمعنى {وجعلوا لله}: صرفوا ووضعوا لله، أي عيّنوا له نصيباً، لأنّ في التّعيين تصييراً تقديرياً ونقلاً... ومعنى: {ذرأ} أنشأ شيئاً وكثّره. فأطلق على الإنماء لأنّ إنشاء شيء تكثير وإنماء. و {ممّا ذرأ} متعلّق ب {جَعلوا}، و {من} تبعيضية، فهو في معنى المفعول، و {مَا} موصولة، والإتيان بالموصول لأجل دلالة صلته على تسفيه آرائهم، إذ ملَّكوا الله بعض مَلْكه، لأنّ ما ذرأه هو مِلْكُه، وهو حقيق به بلا جَعْل منهم.
واختيار فعل: {ذرأ} هنا لأنّه الّذي يدلّ على المعنى المراد، إذ المقصود بيان شرائعهم الفاسدة في نتائج أموالهم. ثمّ سيبيّن شرعهم في أصول أموالهم في قوله: {وقالوا هذه أنعام وحرث حجر} [الأنعام: 138] الآية.
و {من الحرث والأنعام} بيان {ما} الموصولة. والحرثُ مراد به الزّرع والشّجر، وهو في الأصل من إطلاق المصدر على اسم المفعول، ثمّ شاع ذلك الإطلاق حتّى صار الحرث حقيقة عرفية في الجنّات والمزارع، قال تعالى: {أن اغْدُوا على حرثكم إن كنتم صارمين} [القلم: 22].
والنّصيب: الحظ والقِسْم وتقدّم في قوله تعالى: {أولئك لهم نصيب ممّا كسبوا} في سورة البقرة (202)، والتّقدير: جعلوا لله نصيباً ولغيره نصيباً آخر، وفهم من السّياق أنّ النّصيب الآخر لآلهتهم. وقد أفصح عنه في التّفريع بقوله: {فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا}.
والإشارتان إلى النّصيب المعيّن لله والنّصيب المعيّن للشركاء، واسما الإشارة مشار بكلّ واحد منهما إلى أحد النّصيبين على الإجمال إذ لا غرض في المقام في تعيين ما جعلوه لله وما جعلوه لشركائهم.
والزّعم: الاعتقاد الفاسد، أو القريب من الخطأ، كما تقدّم عند قوله تعالى: {ألم تر إلى الذين يزعمون أنّهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك} في سورة النساء (60)... ويتعلّق قولهم: {بزعمهم} ب {قالوا} وجُعل قوله: {بزعمهم} موالياً لبعض مقول القول ليكون متّصلاً بما جعلوه لله فيرتَّبُ التّعجيب من حكمهم بأنّ ما كان لله يصل إلى شركائهم، أي ما اكتفوا بزعمهم الباطل حتّى نكلوا عنه وأشركوا شركاؤهم فيما جعلوه لله بزعمهم.
والباء الداخلة على {بزعمهم} إمّا بمعنى {مِن} أي، قالوا ذلك بألسنتهم، وأعلنوا به قولاً ناشئاً عن الزعم، أي الاعتقاد الباطل، وإمّا للسببيّة، أي قالوا ذلك بسبب أنّهم زعموا. ومحلّ الزّعم هو ما اقتضته القسمة بين الله وبين الآلهة، وإلاّ فإنّ القول بأنّه ملك لله قول حقّ، لكنّهم لما قالوه على معنى تعيين حقّ الله في ذلك النّصيب دون نصيب آخر كان قولهم زعماً باطلاً.
والشّركاء هنا جمع شريك، أي شريك الله سبحانه في الإلهية، ولمّا شاع ذلك عندهم صار كالعَلم بالغلبة، فلذلك استغنى عن الإضافة إلى ما فيه المعنى المشتقّ منه أعني الشّركة ثمّ لأجل غلبته في هذا المعنى صار بمنزلة اللّقب، فلذلك أضافوه إلى ضميرهم، فقالوا: لشركائنا، إضافة معنوية لا لفظيّة، أي للشّركاء الّذين يُعرفون بنا...
وجملة: {ساء ما يحكمون} استئناف لإنشاء ذمّ شرائعهم. وساء هنا بمعنى: بِئس... وسمَّاه حكماً تهكّما، لأنَّهم نصبوا أنفسهم لتعيين الحقوق، ففَصَلوا بحكمهم حقّ الله من حقّ الأصنام، ثمّ أباحوا أن تأخذ الأصنام حقّ الله ولا يَأخذ الله حقّ الأصنام، فكان حكماً باطلاً كقوله: {أفحكم الجاهليّة يبغون} [المائدة: 50].
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
إن فساد الاعتقاد يؤدي إلى فساد الأعمال، فحيث فسدت العقيدة اتجهت النفس تحت تأثير الأوهام إلى مفاسد كثيرة، فالأوهام التي تفسد الاعتقاد تفسد أيضا الحياة فتحت تأثير أوهام الوثنية أفسدوا حياتهم فحرموا على أنفسهم بعض ما أحل الله، وقتلوا أولادهم حاسبين أن ذلك يرضي أوثانهم ونذروا للأوثان بعض الزرع والنعم ولله نصيب فكما سووا بينها وبين الله في العبادة أو زادوهم فكذلك سووا بينه وبينها في النذر وتحيفوا في تنفيذها لله ولم يتحيفوا على الأوثان... (ساء) في معنى التعجب أي ما اسوأ ما يحكمون به، أي إنه أبلغ الأحكام إساءة فهو حكم سيء في ذاته، وعندي أن الحكم السيء أشد من الحكم الظالم، لأن الحكم الظالم قد يكون في تطبيقه ظالما أما الحكم السيء فإنه في أصله فاسد وفي تطبيقه ظالم وفاسد...