قوله تعالى : { يا بني اذهبوا فتحسسوا } ، تخبروا واطلبوا الخير { من يوسف وأخيه } ، والتحسس بالحاء والجيم لا يبعد أحدهما من الآخر ، إلا أن التحسس بالحاء في الخير وبالجيم في الشر ، والتحسس هو طلب الشيء بالحاسة . قال ابن عباس : معناه التمسوا { ولا تيأسوا } ، ولا تقنطوا { من روح الله } أي : من رحمة الله ، وقيل : من فرج الله { إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون فلما دخلوا عليه } .
{ 87 - 88 } { يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ * فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ }
أي : قال يعقوب عليه السلام لبنيه : { يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ } أي : احرصوا واجتهدوا على التفتيش عنهما { وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ } فإن الرجاء يوجب للعبد السعي والاجتهاد فيما رجاه ، والإياس : يوجب له التثاقل والتباطؤ ، وأولى ما رجا العباد ، فضل الله وإحسانه ورحمته وروحه ، { إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } فإنهم لكفرهم يستبعدون رحمته ، ورحمته بعيدة منهم ، فلا تتشبهوا بالكافرين .
ودل هذا على أنه بحسب إيمان العبد يكون رجاؤه لرحمة الله وروحه ،
ثم يوجههم يعقوب إلى تلمس يوسف وأخيه ؛ وألا ييأسوا من رحمة الله ، في العثور عليهما ، فإن رحمة الله واسعة وفرجه دائما منظور :
( يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ، ولا تيأسوا من روح الله . إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ) . .
( يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ) . .
تحسسوا بحواسكم ، في لطف وبصر وصبر على البحث . ودون يأس من الله وفرجه ورحمته . وكلمة " روح " أدق دلالة وأكثر شفافية . ففيها ظل الاسترواح من الكرب الخانق بما ينسم على الأرواح من روح الله الندي :
( إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ) . .
فأما المؤمنون الموصولة قلوبهم بالله ، الندية أرواحهم بروحه ، الشاعرون بنفحاته المحيية الرخية ، فإنهم لا ييأسون من روح الله ولو أحاط بهم الكرب ، واشتد بهم الضيق . وإن المؤمن لفي روح من ظلال إيمانه ، وفي أنس من صلته بربه ، وفي طمأنينة من ثقته بمولاه ، وهو في مضايق الشدة ومخانق الكروب . . .
يقول تعالى مخبرا عن يعقوب ، عليه السلام ، إنه ندب بنيه على{[15269]} الذهاب في الأرض ، يستعلمون أخبار يوسف وأخيه بنيامين .
والتحسس{[15270]} يكون في الخير ، والتجسس يستعمل في الشر .
ونَهّضهم وبشرهم وأمرهم ألا ييأسوا من روح الله ، أي : لا يقطعوا رجاءهم وأملهم من الله فيما يرومونه ويقصدونه{[15271]} فإنه لا يقطع الرجاء ، ويقطع الإياس من الله إلا القوم الكافرون{[15272]} .
يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ( 87 ) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ ( 88 )
المعنى : { اذهبوا } إلى الأرض التي جئتم منها وتركتم أخويكم بنيامين وروبيل ، { فتحسسوا } ، أي استقصوا ونقروا ، والتحسس : طلب الشيء بالحواس من البصر والسمع ، ويستعمل في الخير والشر ، فمن استعماله في الخير هذه الآية ، وفي الشر نهي النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : ولا تحسسوا{[6797]} .
وقوله : { من يوسف } يتعلق بمحذوف يعمل فيه { تحسسوا } التقدير : فتحسسوا نبأ أو حقيقة من أمر يوسف . لكن يحذف ما يدل ظاهر القول عليه إيجازاً .
وقرأت فرقة : «تيأسوا » وقرأت فرقة «تأيسوا » على ما تقدم{[6798]} ، وقرأ الأعرج «تِئسوا » بكسر التاء .
وخص يوسف وبنيامين بالذكر لأن روبيل إنما بقي مختاراً . وهذان قد منعا الأوبة .
و «الروح » : الرحمة . ثم جعل اليأس من رحمة الله وتفريجه من صفة الكافرين . إذ فيه إما التكذيب بالربوبية ، وإما الجهل بصفات الله تعالى .
وقرأ الحسن وقتادة وعمر بن عبد العزيز{[6799]} «من رُوح الله » بضم الراء . وكأن معنى هذه القراءة لا تأيسوا من حي معه روح الله الذي وهبه ، فإن من بقي بوحه فيرجى ، ومن هذا قول الشاعر : [ الطويل ]
وفي غير من قد وارت الأرض فاطمع{[6800]}***
وكل ذي غيبة يؤوب*** وغائب الموت لا يؤوب{[6801]}
ويظهر من حديث الذي قال : إذا مت فاحرقوني ثم اسحقوني ثم اذروني في البحر والبر في يوم راح . فلئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً من الناس ، إنه يئس من روح الله ، وليس الأمر كذلك ، لأن قول النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث فغفر الله له يقتضي أنه مات مؤمناً إذ لا يغفر الله لكافر ، فبقي أن يتأول الحديث ، إما على أن قدر بمعنى ضيق وناقش الحساب ، فذلك معنى بين ، وإما أن تكون من القدرة ، ويقع خطأ في أن ظن في أن الاجتماع بعد السحق والتذرية محال لا يوصف الله تعالى بالقدرة عليه فغلط في أن جعل الجائز محالاً ، ولا يلزمه بهذا كفر . قال النقاش : وقرأ ابن مسعود «من فضل » وقرأ أبي بن كعب : «من رحمة الله » .