اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يَٰبَنِيَّ ٱذۡهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَاْيۡـَٔسُواْ مِن رَّوۡحِ ٱللَّهِۖ إِنَّهُۥ لَا يَاْيۡـَٔسُ مِن رَّوۡحِ ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡقَوۡمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ} (87)

فعند ذلك قال :{ يا بني اذهبوا تحسّسوا من يوسف وأخيه } أي : استقصوا خبره بحواسِّكم ، والتَّحَسُّسُك طلب الشَّيء بالحاسَّة .

قال ابنُ الأنباريِّ " يقالُ : تَحَسَّسْتُ عن فلانٍ ، ولا يقال : من فلان ، وقيل : ههنا من يوسفح لأنه أقيم : " مِنْ " مقام : " عَنْ " قال : ولا يجوز أن يقال : " مِنْ " للتعبيض ، والمعنى : تحَسَّسُوا خبراً من أخبار يوسف ، واستعملوا بعض أخبار يوسف فذكرت كلمة " مِنْ " لما فيها من الدلالة على التبعيض " .

والتحسُّسُ : يكون في الخيرِ والشَّر ، وقيل : بالحاء في الخير ، وبالجيم في الشَّر ، ولذلك قال هاهنا : " فتَحَسَّسُوا " ، وفي الحجرات : { وَلاَ تَجَسَّسُواْ } [ الحجرات : 12 ] .

وليس كذلك فإنه قد قرىء بالجميم هنا .

ثم قال : { وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ الله } وتقدَّم الخلاف في قوله : { وَلاَ تَيْأَسُواْ } .

وقرأ الأعرج : " ولا تَيْسُوا " وقرأ العامة : " رَوْحِ اللهِ " بالفتح ، وهو رحمته وتنفيسه .

قال الأصمعيُّ رحمه الله " الرَّوحُ ما يجدهُ الإنسان من نسيم الهوى ، فيسكن إليه ، وتركيب الرَّاء ، والواو ، والحاء يفيد الحركة ، وهو الاهتزازُ ، فكلُّ ما يهتزُّ له الإنسان ، ويلتذُّ بوجوده فهو روح " .

قال ابن رضي الله عنهما : { لا تيأسو من روح الله } أي من رحمته وعن قتادة من فضل الله ، وقيل : مِن فَرِجِِ اللهِ .

وقرأ الحسن ، وعمر بن عبدالعزيز ، وقتادة رضي الله عنهم بضمِّ الراء .

قال الزمخشريُّ : " لا تَيْأسوا ، أي : من رحمته التي يحيى بها العباد " .

وقال ابن عطية : وكأن معنى هذه القراءة لا تيأسوا من حي معه روح الله الذي وهبه فإن من بقي روحه يرجى ؛ ومن هذا قول الشاعر : [ الطويل ]

3141 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وفِي غَيْرِ من قَدْ وَارتِ الأرضًُ فاطْمَعِ

ومن هذا قول عبيد بن الأبرص : [ مخلع البسيط ]

3142 وكُلُّ ذِي غيبَةٍ يَئُوبُ *** وغَائِبُ المَوتِ لا يَئُوبُ

وقرأ أبي : مِنْ رحْمةِ اللهِ ، و " عِنْدَ اللهِ " : " مِنْ فضلِ الله " تفسير لاتلاوة .

وقال أبو البقاء : " والجمهور على فتح الرَّاء ، وهو مصدر في معنى الرَّحمة إلا أنَّ استعمال الفعل منه قليل ، وإنِّما يستعمل بالزِّيادة ، مثل أراح ، ويقرأ بضمِّ الرَّاء ، وهي لغةٌ فيه ، وقيل : هو اسم للمصدر ، مثل الشُّربِ والشَّرب " .

ثم قال : { إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ الله إِلاَّ القوم الكافرون } قال ابن عبَّاس : إن المؤمن من من الله على خير يرجوه في البلاءِ ، ويحمده في الرَّخاء . واعلم أنَّ اليأس من رحمة الله لا يحصلُ إلاَّ إذا اعتقد الإنسان أنَّ إله العالم غير قادر على الكمالِ ، أو غير عالم بجميع المعلوماتِ ، أو ليس بكريمٍ ، بل هو بخيلٌ ، وكل واحد من هذه الثلاثة يوجب الكفر ، والمعنى : أنَّ اليأس لا يحصل إلاَّ لمن كان كافراً ، والله أعلم .

فصل

روي عن عبدالله بن يزيد بن أبي فروة : أنَّ يعقوب كتب كتاباً إلى يوسف عليه الصلاة والسلام حين حبس بنيامين :

" من يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله صلوات الله وسلامه عليه إلى ملك مصر ، أما بعد :

فإنا أهلُ بيتٍ ، وكل بناء البَلاءُ ، أما جدّي إبراهيم عليه الصلاة والسلام فشُدَّتْ يداه ، ورجلاه ، وألقي في النَّار ؛ فجلعها الله عليه برداً وسلاماً ، وأمَّا أبي فشدَّت يداه ورجلاه ، ووضع السِّكين على قفاه ؛ ففداه الله ، وأمَّا أنا فكان لي ابنٌ ، وكان أحبَّ أولادي إليّ ، فذهب به إخوته إلى البرِّيةِ ، ثم أتوني بقيمصه ملطّخاً بالدَّم ، فقال : أكله الذِّئب ؛ فذهبت عيناي ، ثمَّ كان لي ابن ، وكان أخاه من أمه ، وكنت أتسلى به ، وأنِّك حبسته ، وزعمتَ أنَّه سرق ، وأنَّا أهل بيتٍ لا نسرقُ ، ولا نَلِدُ سَارقاً ، فإن ردَدْتَهُ عليّ وإلاَّ دَعوتُ علَيْكَ دعْوة تُدرِكُ السَّابعَ من وَلدِك " .

فلما قرأ يوسف لم يتمالك البُكاء ، [ وعيل ] صبره ، وأظهر نفسه على ما يأتي إن شاء الله تعالى .

قال ابن الخطيب : في الآية سؤالات :

الأول : أنَّ بلوغ يعقوب في محبة يوسف إلى هذا الحدِّ العظيم لا يليقُ إلا لمنْ كان غافلاً عن الله تعالى ؛ لأنَّ من عرف اللهِ ؛ أحبه ، من أحبَّ اللهَ لم يتفرغْ قلبه بحب شيءٍ سوى اللهِ تعالى وأيضاً : القلبُ الواحدُ لا يسع الحب المستغرق لشيئين ، فلمَّا كان قلبه مستغرقاً فيحبّ ولده ؛ امتنع أن يقال : إنَّه كان مستغرقاً في حبّ الله تعالى ؟ .

السؤال الثاني : أنّه عند استيلاء الحزن الشَّديد عليه ؛ كان من الواجب عليه أن يشتغل بذكر اللهِ تعالى والتفويض ، والتَّسليم لقضائه . وأما قوله : { يا أسفا على يوسف } ، فذلك لا يليقُ بأهل الدِّين والعلم فضلاً عن أكابرِ الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ؟ .

السؤال الثالث : لا شكّ أن يعقوب عليه الصلاة والسلام كان من أكابر الأنبياء وكان أبوه ، وجده ، وعمه كلهم من أكابر الأنبياء المشهورين في جميع الأنبياء ومن كان كذلك ، ثم وقعت له و اقعةٌ هائلة في أعزِّ أولاده ، لم تبق تلك الواقعة خفيَّة ، بل لا بدَّ ، وأن تبلغ في الشُّهرة إلى حيث يعرفها كل أحدٍ ، لا سيما ، وقد انقضت المدَّة الطويلة فيها ، وبقي يعقوب على حزنه الشديد ، وأسفه العظيم ، وكان يوسف في مصر ، وكان يعقوب في بعض [ بوادي ] الشَّام قريباً من مصر ، فمع قرب المسافة يمتنع بقاء هذه الواقعة خفية .

السؤال الرابع : لِمَ لَمْ يبعث يوسف إلى يعقوب ويعلمه أنَّه من الحياة صلاة الله عليهما وفي السِّلامة ولا يقال : إنه كان يخاف إخوته ؛ لأنه بعد أن صار ملكاً قاهراً يمكنه إرسال الرسول إليه ، وإخوته ما كانوا يقدرون على دفع رسوله ؟ .

السؤال الخامس : كيف جاز ليوسف عليه الصلاة والسلام أن يضع الصَّواعَ في وعاءٍ أخيه ، ثم يستخرجه ويلصقُ به تهمة السرقة مع أنَّه كان بريئاً عها .

السؤال السادس : كيف رغب في إلصاق هذه التُّهمة له ، وحبسه عند نفسه مع أنَّهُ كان يعلم أنه يزداد حزن أبيه ويقوى ؟ .

والجواب عن الأول : أنَّ مع مثل هذه المحبة الشَّديدة يكون كثير الرُّجوع إلى الله تعالى كثير الاشتغال بالدُّعاء ، والتضرُّع ، وذلك يكون سبباً لكمال الاستغراق .

وعن الثاني : أنَّ الداعية الإنسانية لا تزول في الحياة العاجلة ، فتارة كان يقول { يا أسفى على يوسف } وتارة كان يقول : { فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون } وأما بقية الأسئلة ، فالقاضي أجاب عنها فقال : هذه الوقائعُ الَّتي نقلت إلينا إمَّا أن يمكن تخريجها على الأحوال المعتادة أو لايمكن ، فإن كان الأوَّل ، فلا إشكالَ وإن كان الثاني فنقول : كان الزَّمان زمان الأنبياء ، وخرق العادة في ذلك الزمان غير مستبعدٍ ، فلم يمتنع أن يقال : إنَّ بلدة يعقوب مع أنها كانت قريبة من بلدة يوسف عليه الصلاة والسلام ولكن لم يصل خبر أحدهما إلى الآخر على سبيل يقتضي العلم .