فعند ذلك قال :{ يا بني اذهبوا تحسّسوا من يوسف وأخيه } أي : استقصوا خبره بحواسِّكم ، والتَّحَسُّسُك طلب الشَّيء بالحاسَّة .
قال ابنُ الأنباريِّ " يقالُ : تَحَسَّسْتُ عن فلانٍ ، ولا يقال : من فلان ، وقيل : ههنا من يوسفح لأنه أقيم : " مِنْ " مقام : " عَنْ " قال : ولا يجوز أن يقال : " مِنْ " للتعبيض ، والمعنى : تحَسَّسُوا خبراً من أخبار يوسف ، واستعملوا بعض أخبار يوسف فذكرت كلمة " مِنْ " لما فيها من الدلالة على التبعيض " .
والتحسُّسُ : يكون في الخيرِ والشَّر ، وقيل : بالحاء في الخير ، وبالجيم في الشَّر ، ولذلك قال هاهنا : " فتَحَسَّسُوا " ، وفي الحجرات : { وَلاَ تَجَسَّسُواْ } [ الحجرات : 12 ] .
وليس كذلك فإنه قد قرىء بالجميم هنا .
ثم قال : { وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ الله } وتقدَّم الخلاف في قوله : { وَلاَ تَيْأَسُواْ } .
وقرأ الأعرج : " ولا تَيْسُوا " وقرأ العامة : " رَوْحِ اللهِ " بالفتح ، وهو رحمته وتنفيسه .
قال الأصمعيُّ رحمه الله " الرَّوحُ ما يجدهُ الإنسان من نسيم الهوى ، فيسكن إليه ، وتركيب الرَّاء ، والواو ، والحاء يفيد الحركة ، وهو الاهتزازُ ، فكلُّ ما يهتزُّ له الإنسان ، ويلتذُّ بوجوده فهو روح " .
قال ابن رضي الله عنهما : { لا تيأسو من روح الله } أي من رحمته وعن قتادة من فضل الله ، وقيل : مِن فَرِجِِ اللهِ .
وقرأ الحسن ، وعمر بن عبدالعزيز ، وقتادة رضي الله عنهم بضمِّ الراء .
قال الزمخشريُّ : " لا تَيْأسوا ، أي : من رحمته التي يحيى بها العباد " .
وقال ابن عطية : وكأن معنى هذه القراءة لا تيأسوا من حي معه روح الله الذي وهبه فإن من بقي روحه يرجى ؛ ومن هذا قول الشاعر : [ الطويل ]
3141 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وفِي غَيْرِ من قَدْ وَارتِ الأرضًُ فاطْمَعِ
ومن هذا قول عبيد بن الأبرص : [ مخلع البسيط ]
3142 وكُلُّ ذِي غيبَةٍ يَئُوبُ *** وغَائِبُ المَوتِ لا يَئُوبُ
وقرأ أبي : مِنْ رحْمةِ اللهِ ، و " عِنْدَ اللهِ " : " مِنْ فضلِ الله " تفسير لاتلاوة .
وقال أبو البقاء : " والجمهور على فتح الرَّاء ، وهو مصدر في معنى الرَّحمة إلا أنَّ استعمال الفعل منه قليل ، وإنِّما يستعمل بالزِّيادة ، مثل أراح ، ويقرأ بضمِّ الرَّاء ، وهي لغةٌ فيه ، وقيل : هو اسم للمصدر ، مثل الشُّربِ والشَّرب " .
ثم قال : { إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ الله إِلاَّ القوم الكافرون } قال ابن عبَّاس : إن المؤمن من من الله على خير يرجوه في البلاءِ ، ويحمده في الرَّخاء . واعلم أنَّ اليأس من رحمة الله لا يحصلُ إلاَّ إذا اعتقد الإنسان أنَّ إله العالم غير قادر على الكمالِ ، أو غير عالم بجميع المعلوماتِ ، أو ليس بكريمٍ ، بل هو بخيلٌ ، وكل واحد من هذه الثلاثة يوجب الكفر ، والمعنى : أنَّ اليأس لا يحصل إلاَّ لمن كان كافراً ، والله أعلم .
روي عن عبدالله بن يزيد بن أبي فروة : أنَّ يعقوب كتب كتاباً إلى يوسف عليه الصلاة والسلام حين حبس بنيامين :
" من يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله صلوات الله وسلامه عليه إلى ملك مصر ، أما بعد :
فإنا أهلُ بيتٍ ، وكل بناء البَلاءُ ، أما جدّي إبراهيم عليه الصلاة والسلام فشُدَّتْ يداه ، ورجلاه ، وألقي في النَّار ؛ فجلعها الله عليه برداً وسلاماً ، وأمَّا أبي فشدَّت يداه ورجلاه ، ووضع السِّكين على قفاه ؛ ففداه الله ، وأمَّا أنا فكان لي ابنٌ ، وكان أحبَّ أولادي إليّ ، فذهب به إخوته إلى البرِّيةِ ، ثم أتوني بقيمصه ملطّخاً بالدَّم ، فقال : أكله الذِّئب ؛ فذهبت عيناي ، ثمَّ كان لي ابن ، وكان أخاه من أمه ، وكنت أتسلى به ، وأنِّك حبسته ، وزعمتَ أنَّه سرق ، وأنَّا أهل بيتٍ لا نسرقُ ، ولا نَلِدُ سَارقاً ، فإن ردَدْتَهُ عليّ وإلاَّ دَعوتُ علَيْكَ دعْوة تُدرِكُ السَّابعَ من وَلدِك " .
فلما قرأ يوسف لم يتمالك البُكاء ، [ وعيل ] صبره ، وأظهر نفسه على ما يأتي إن شاء الله تعالى .
قال ابن الخطيب : في الآية سؤالات :
الأول : أنَّ بلوغ يعقوب في محبة يوسف إلى هذا الحدِّ العظيم لا يليقُ إلا لمنْ كان غافلاً عن الله تعالى ؛ لأنَّ من عرف اللهِ ؛ أحبه ، من أحبَّ اللهَ لم يتفرغْ قلبه بحب شيءٍ سوى اللهِ تعالى وأيضاً : القلبُ الواحدُ لا يسع الحب المستغرق لشيئين ، فلمَّا كان قلبه مستغرقاً فيحبّ ولده ؛ امتنع أن يقال : إنَّه كان مستغرقاً في حبّ الله تعالى ؟ .
السؤال الثاني : أنّه عند استيلاء الحزن الشَّديد عليه ؛ كان من الواجب عليه أن يشتغل بذكر اللهِ تعالى والتفويض ، والتَّسليم لقضائه . وأما قوله : { يا أسفا على يوسف } ، فذلك لا يليقُ بأهل الدِّين والعلم فضلاً عن أكابرِ الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ؟ .
السؤال الثالث : لا شكّ أن يعقوب عليه الصلاة والسلام كان من أكابر الأنبياء وكان أبوه ، وجده ، وعمه كلهم من أكابر الأنبياء المشهورين في جميع الأنبياء ومن كان كذلك ، ثم وقعت له و اقعةٌ هائلة في أعزِّ أولاده ، لم تبق تلك الواقعة خفيَّة ، بل لا بدَّ ، وأن تبلغ في الشُّهرة إلى حيث يعرفها كل أحدٍ ، لا سيما ، وقد انقضت المدَّة الطويلة فيها ، وبقي يعقوب على حزنه الشديد ، وأسفه العظيم ، وكان يوسف في مصر ، وكان يعقوب في بعض [ بوادي ] الشَّام قريباً من مصر ، فمع قرب المسافة يمتنع بقاء هذه الواقعة خفية .
السؤال الرابع : لِمَ لَمْ يبعث يوسف إلى يعقوب ويعلمه أنَّه من الحياة صلاة الله عليهما وفي السِّلامة ولا يقال : إنه كان يخاف إخوته ؛ لأنه بعد أن صار ملكاً قاهراً يمكنه إرسال الرسول إليه ، وإخوته ما كانوا يقدرون على دفع رسوله ؟ .
السؤال الخامس : كيف جاز ليوسف عليه الصلاة والسلام أن يضع الصَّواعَ في وعاءٍ أخيه ، ثم يستخرجه ويلصقُ به تهمة السرقة مع أنَّه كان بريئاً عها .
السؤال السادس : كيف رغب في إلصاق هذه التُّهمة له ، وحبسه عند نفسه مع أنَّهُ كان يعلم أنه يزداد حزن أبيه ويقوى ؟ .
والجواب عن الأول : أنَّ مع مثل هذه المحبة الشَّديدة يكون كثير الرُّجوع إلى الله تعالى كثير الاشتغال بالدُّعاء ، والتضرُّع ، وذلك يكون سبباً لكمال الاستغراق .
وعن الثاني : أنَّ الداعية الإنسانية لا تزول في الحياة العاجلة ، فتارة كان يقول { يا أسفى على يوسف } وتارة كان يقول : { فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون } وأما بقية الأسئلة ، فالقاضي أجاب عنها فقال : هذه الوقائعُ الَّتي نقلت إلينا إمَّا أن يمكن تخريجها على الأحوال المعتادة أو لايمكن ، فإن كان الأوَّل ، فلا إشكالَ وإن كان الثاني فنقول : كان الزَّمان زمان الأنبياء ، وخرق العادة في ذلك الزمان غير مستبعدٍ ، فلم يمتنع أن يقال : إنَّ بلدة يعقوب مع أنها كانت قريبة من بلدة يوسف عليه الصلاة والسلام ولكن لم يصل خبر أحدهما إلى الآخر على سبيل يقتضي العلم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.