ثم صغر رأيهم فقال : { ذلك مبلغهم من العلم } يعني : ذلك نهاية علمهم وقدر عقولهم أن آثروا الدنيا على الآخرة . وقيل : لم يبلغوا من العلم إلا ظنهم أن الملائكة بنات الله ، وأنها تشفع لهم ، فاعتمدوا على ذلك وأعرضوا عن القرآن . { إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى } يعني : هو عالم بالفريقين فيجازيهم .
{ ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ } أي : هذا منتهى علمهم وغايته ، وأما المؤمنون بالآخرة ، المصدقون بها ، أولو الألباب والعقول ،
فهمتهم وإرادتهم للدار الآخرة ، وعلومهم أفضل العلوم وأجلها ، وهو العلم المأخوذ من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، والله تعالى أعلم بمن يستحق الهداية فيهديه ، ممن لا يستحق ذلك فيكله إلى نفسه ، ويخذله ، فيضل عن سبيل الله ، ولهذا قال تعالى : { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى } فيضع فضله حيث يعلم المحل اللائق به .
على أن للإعراض اتجاها آخر ، هو التهوين من شأن هذه الفئة . فئة الذين لا يؤمنون بالله ؛ ولا يبتغون شيئا وراء الحياة الدنيا . فمهما كان شأنهم فهم محجوبون عن الحقيقة ، قاصرون عن إدراكها ، واقفون وراء الأسوار . أسوار الحياة الدنيا . . ( ذلك مبلغهم من العلم ) . وهو مبلغ تافه مهما بدا عظيما . قاصر مهما بدا شاملا . مضلل مهما بدا هاديا . وما يمكن أن يعلم شيئا ذا قيمة من يقف بقلبه وحسه وعقله عند حدود هذه الأرض . ووراءها - حتى في رأي العين - عالم هائل لم يخلق نفسه . ووجوده هكذا أمر ترفضه البداهة . ولم يوجد عبثا متى كان له خالق . وإنه لعبث أن تكون الحياة الدنيا هي نهاية هذا الخلق الهائل وغايته . . فإدراك حقيقة هذا الكون من أي طرف من أطرافها كفيل بالإيمان بالخالق . وكفيل كذلك بالإيمان بالآخرة . نفيا للعبث عن هذا الخالق العظيم الذي يبدع هذا الكون الكبير .
ومن ثم يجب الإعراض عمن يتولى عن ذكر الله ويقف عند حدود الدنيا ، الإعراض على سبيل صيانة الاهتمام أن يبذل في غير موضعه والإعراض على سبيل التهوين والاحتقار لمن هذا مبلغ علمه . ونحن مأمورون بهذا إن أردنا أن نتلقى أمر الله لنطيعه . لا لنقول كما قالت يهود : سمعنا وعصينا . . والعياذ بالله من هذا !
إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى . .
وقد علم أن هؤلاء ضالون . فلم يرد لنبيه ولا للمهتدين من أمته أن يشغلوا أنفسهم بشأن الضالين . ولا أن يصاحبوهم . ولا أن يحفلوهم . ولا أن يخدعوا في ظاهر علمهم المضلل القاصر ، الذي يقف عند حدود الحياة الدنيا . ويحول بين الإدراك البشري والحقيقة الخالصة ، التي تقود من يدركها إلى الإيمان بالله ، والإيمان بالآخرة ، وتتخطى به حدود هذه الأرض القريبة ، وهذه الحياة الدنيا المحدودة .
وإن العلم الذي يبلغه هؤلاء القاصرون الضالون ليبدو في أعين العوام وأشباههم ، عوام القلب والإدراك والحس ، شيئا عظيما ذا فاعلية وأثر في واقع الحياة الدنيا . ولكن هذا لا ينفي صفة الضلال عنهم في النهاية ، ولا صفة الجهل والقصور . فحقيقة الارتباط بين هذا الوجود وخالقه . وحقيقة الارتباط بين عمل الإنسان وجزائه . هاتان الحقيقتان ضروريتان لكل علم حق . وبدونهما يبقى العلم قشورا لا تؤثر في حياة الإنسان ولا ترقيها ولا ترفعها . وقيمة كل علم مرهونة بأثره في النفس وفي ارتباطات البشر الأدبية . وإلا فهو تقدم في الآلات وانتكاس في الآدميين . وما أبأسه من علم هذا الذي ترتقي فيه الآلات على حساب الآدميين ! ! !
وشعور الإنسان بأن له خالقا خلقه وخلق هذا الكون كله ، وفق ناموس واحد متناسق . يغير من شعوره بالحياة ، وشعوره بما حوله وبمن حوله ؛ ويجعل لوجوده قيمة وهدفا وغاية أكبر وأشمل وارفع ، لأن وجوده مرتبط بهذا الكون كله ؛ فهو أكبر من ذاته المعدودة الأيام . وأكبر من أسرته المعدودة الأفراد وأكبر من قومه ، وأكبر من وطنه وأكبر من طبقته التي يطنطن بها أصحاب المذاهب المادية الحديثة . وأرفع من اهتمامات هذه التشكيلات جميعا !
وشعور الإنسان بأن خالقه محاسبه في الآخرة ومجازيه . يغير من تصوراته ومن موازينه ومن حوافزه ومن أهدافه . ويربط الحاسة الأخلاقية في نفسه بمصيره كله ، فيزيدها قوة وفاعلية . لأن هلاكه أو نجاته مرهونة بيقظة هذه الحاسة وتأثيرها في نيته وعمله . ومن ثم يقوى " الإنسان " ويسيطر على تصرفات هذا الكائن . لأن الرقيب الحارس قد استيقظ ! ولأن الحساب الختامي ينتظره هناك . ومن الناحية الأخرى فهو مطمئن إلى الخير واثق من انتصاره في الحساب الختامي . حتى لو رآه ينهزم في الأرض في بعض الجولات ! وهو مكلف دائما أن ينصر الخير ويكافح في سبيله سواء هزم في هذه الأرض أم انتصر لأن الجزاء النهائي هناك !
إنها مسألة كبيرة هذا الإيمان بالله والإيمان بالآخرة . مسألة أساسية في حياة البشر . إنها حاجة أكبر من حاجات الطعام والشراب والكساء . وإنها إما أن تكون فيكون " الإنسان " وإما ألا تكون فهو حيوان من ذلك الحيوان !
وحين تفترق المعايير والأهداف والغايات وتصور الحياة كلها هذا الاختلاف ، فلا مجال حينئذ إلى مشاركة أو تعامل أو حتى تعارف ينشأ عنه قسط من الاهتمام .
ومن ثم لا يمكن أن تقوم علاقة أو صحبة أو شركة أو تعاون ، أو أخذ وعطاء ، أو اهتمام واحتفال بين مؤمن بالله ، وآخر أعرض عن ذكره ولم يرد إلا الحياة الدنيا . وكل قول غير هذا فهو محال ومراء ، يخالف عن أمر الله : ( فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ) . .
{ ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ }أي : طلب الدنيا والسعي لها هو غاية ما وصلوا إليه .
وقد روى الإمام أحمد عن أم المؤمنين عائشة [ رضي الله عنها ]{[27677]} قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الدنيا دار من لا دار له ، ومال من لا مال له ، ولها يجمع من لا عقل له " {[27678]} وفي الدعاء المأثور : " اللهم لا تجعل الدنيا أكبر هَمِّنَا ، ولا مَبْلَغَ علمنا " .
وقوله : { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى } أي : هو الخالق لجميع المخلوقات ، والعالم بمصالح عباده ، وهو الذي يهدي من يشاء ، ويضل من يشاء ، وذلك كله عن قدرته وعلمه وحكمته ، وهو العادل الذي لا يجور أبدًا ، لا في شرعه ولا في قَدَره .
وقوله تعالى : { ذلك مبلغهم من العلم } معناه هنا انتهى تحصيلهم من المعلومات ، وذلك أن المعلومات منها ما هي معقولات نافعة في الآخرة ، ومنها ما هي أمور فانية وأشخاص بادية كالفلاحة وكثير من الصنائع وطلب الرئاسة على الناس بالمخرقة ، فكلها معلومات ولها علم ومبلغ الكفرة إنما هو في مدة الدنياويات .
وقوله تعالى : { إن ربك هو أعلم } الآية تصل بمعنى التسلية في قوله : { فأعرض عمن تولى عن ذكرنا } ، وقوله : { إن ربك هو أعلم } الآية ، ووعيد للكفار ووعد للمؤمنين ، وأسند الضلالة والهدى إليهم بكسبهم وإن كان الجميع خلقاً له واختراعاً ، واللام في قوله : { ليجزي } متعلقة بقوله : { ضل } وبقوله : { اهتدى } فكأنه قال : ليصير أمرهم جميعاً إلى أن يجزى .