السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{ذَٰلِكَ مَبۡلَغُهُم مِّنَ ٱلۡعِلۡمِۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعۡلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِۦ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِمَنِ ٱهۡتَدَىٰ} (30)

{ ذلك } أي : الأمر المتناهي في الجهل والقباحة { مبلغهم } أي : نهاية بلوغهم وموضع بلوغهم والحاصل لهم وتهكم بهم بقوله تعالى : { من العلم } أي غايتهم من العلم أنهم آثروا الدنيا على الآخرة ، والجملة اعتراض مقرر لقصور همتهم على الدنيا وقوله تعالى : { إنّ ربك } أي : المحسن إليك بالرسالة { هو أعلم } أي : عالم { بمن ضلّ عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى } أي : ظاهراً وباطناً ، تعليل للأمر بالإعراض أي إنما يعلم الله من يجيب ممن لا يجيب فلا تتعب نفسك في دعوتهم إذ ما عليك إلا البلاغ وقد بلغت ، لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان كالطبيب للقلوب فأتى على ترتيب الأطباء في أنّ المرض إذا أمكن إصلاحه بالغذاء لا يستعملون الدواء ، وما أمكن إصلاحه بالدواء الضعيف لا يستعملون الدواء القويّ ، ثم إذا عجزوا عن المداواة بالمشروبات وغيرها عدلوا إلى الحديد والكي كما قيل : آخر الدواء الكي فالنبيّ صلى الله عليه وسلم أولاً أمر القلوب بذكر الله تعالى فقط ، فإن بذكر الله تطمئن القلوب ، كما أنّ بالغذاء تطمئن النفوس والذكر غذاء القلوب ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم أولاً : «قولوا لا إله إلا الله أمر بالذكر فانتفع مثل أبي بكر ، ومن لم ينتفع ذكر لهم الدليل وقال { قل انظروا } [ الأعراف : 184 ] { قل انظروا } [ يونس : 101 ] { أفلا ينظرون } [ الغاشية : 17 ] إلى غير ذلك ، فلما لم ينتفعوا أتى بالوعيد والتهديد فلما لم ينفعهم قال أعرض عن المعالجة واقطع الفاسد لئلا يفسد الصالح .

فإن قيل : إنّ الله تعالى بين أنّ غايتهم ذلك في العلم ولا يكلف الله تعالى نفساً إلا وسعها والمجنون الذي لا علم له أو الصبيّ الذي لا يؤمر بما فوق احتماله فكيف يعاقبهم الله تعالى ؟ أجيب : بأنه ذكر قبل ذلك أنهم تولوا عن ذكر الله فكان عدم علمهم لعدم قبولهم العلم ، وإنما قدر الله تعالى توليهم ليضاف الجهل إلى ذلك فيتحقق العقاب .